

أسامة سلامة
أحمد وداود
«وقبل أن أنتبه كان قد انطلق يجرى إلى الشجرة، فجريت خلفه، كان قد سبقنى بعشرات الأمتار، وكان يعدو بسرعة غير عادية، لكنى كنت واثقًا أنى سألحق به، وسأصل إلى الشجرة قبله، لأن قدميَّ تعرفان الأرض، وبينها وبين كل موطئ قدم عمار وألفة، والأرض أرضى، والشجرة شجرتى، وارتطام عظام قدمى بالأرض يملأنى دفئًا، وتجرى أحاديث خاصة بين قدميّ وأرضى، لغة مشتركة بينهما من الأحاديث والتجاوب الذي يسرى فى أوصالى وأشعر به ممتدًّا فى التراب والحصى والهواء، ممتدًّا فى عروقى وأنفاسى، وهذا التراب وهذا الحصى الذي يستقبلنى فى هذه اللحظة هو نفسه الذي جعلنى أسبق داود دون أن أفكر، دون أن أدرك أنى أعدو، ولكنى سقطت تحت الزيتونة».
الفقرة السابقة من رواية أحمد وداود للكاتب الكبير فتحى غانم.. الرواية تتناول علاقة إنسانية بين أسرة عربية مسلمة وأخرى يهودية خلال عشرينيات القرن العشرين وامتدت حتى عام 1948، أحمد سالم يعيش فى ضيعة الأنصارى بالقرب من القدس، ويرتبط بصديق صباه داود اليهودى، كما يرتبط بقصة حب مع سارة أخت داود، وأبو أحمد يتعامل مع اليهود بود وصدق وله معاملات تجارية معهم، والقرية التي تضم الضيعة تبيع منتجاتها لليهود المقيمين على مقربة منهم، ولم يتوقعوا منهم الغدر والخيانة، قال أحمد لداود فى أحد لقاءاتهما: هذه شجرتنا فرد عليه متحديا هل تسابقنى إليها؟ وقبل أن يجاوبه انطلق جاريا لكن أحمد سبقه، شجرة الزيتون رمز للوطن والأرض وفلسطين، ولهذا كان أحمد الفلسطينى واثقا أنه سيسبق داود اليهودى إليها، فقد ارتبط بها هو وأسرته جميعا، وداود هو رمز لليهود الفلسطينيين الذين خانوا وطنهم وأعملوا فيه الحرق والنهب والقتل، شجرة الزيتون بالنسبة لأسرة أحمد هى ميراث من جيل إلى جيل ولهذا فإن التفريط فيها خيانة، ولأن اليهود لم يرتبطوا بهذه الأرض وهم يريدون أن يقضوا على كل ما يثبت وجود الفلسطينيين فيها من قديم الزمان، فإنهم يحطمون ويدمرون كل ما يثبت هذا، ولذلك عندما أقْدَمت عصابات اليهود التي قدمت إلى فلسطين على قطع تلك الشجرة كانوا يعتقدون أن ذلك بمثابة اجتثاث لأسرة أحمد من أرضهم وطرد لهم من وطنهم، وكان على رأس من قاموا بهذا الفعل الخسيس سارة أخت داود التي كانت على علاقة عاطفية وجسدية مع أحمد، سارة اليهودية كانت تحمل فى قلبها وأفعالها قسوة أشد من الفئوس التي قطعت شجرة الزيتون، أما سعاد أخت أحمد فكانت تبكى وتهاجم بشراسة عشرات الأيدى غير مكترثة بأيد عربية أو أيد يهودية، تريد أن تحمى شجرة الزيتون التي قضت حولها أسعد أيام حياتها.. مع تطور الأحداث السياسية، وظهور العصابات الصهيونية فى فلسطين، تتفرق السبل بالصديقين، وجاءت العصابات الصهيونية المسلحة إلى فلسطين وتكونت مجموعات عربية للمقاومة، وتدخل الإنجليز لصالح الصهاينة وأمدوهم بمعلومات وسلاح وذخيرة مكنتهم من ارتكاب مذابح ضد القرى والمدن الفلسطينية، يصف الكاتب ما حدث: «وصلت المجموعة التي يقودها حاييم يورات إلى القلعة التي كان يملكها يوما شوكت الأنصارى، وينطلق صوت داود من مكبر الصوت ينذر السكان بإخلاء دورهم فورا»، وتأخذ سارة منه مكبر الصوت وتصيح «أى امرأة سوف يجدونها سوف يتركونها للرجال يهتكون عرضها».. وأعادت مكبر الصوت لداود الذي يحذر قائلاً: «القرية محاصرة ومن يريد أن ينجو بنفسه يترك كل شىء ويسرع إلى التلال فى اتجاه الشمال»، اقتحمت العصابات بيت أبو أحمد وقتلوا كل أسرته،رصاصة فى رأس أبيه وهو يصلى، وأخرى فى صدر زوج أخته، وسقط أبناء أخته برصاص رشاش، أما أخته سعاد وكانت حاملا فقد بقروا بطنها وصاحت اليهودية القاتلة مهللة: «الجنين ولد وهى تنهال بخنجر تقطع به أوصاله فى لذة ونهمة شديدة الشراهة»، قتلوا جميع أهالى القرية على مقربة من مقر الصليب الأحمر وحين حاول الطبيب فى وكالة الإغاثة التدخل لإنقاذ الجرحى رفضوا فى البداية وبعدها سمحوا لهم بالمرور لكن بعد أن انتهى كل شىء، أما أحمد الذي كان فى ذلك الوقت بعيدا عن قريته فقد كان يحاول الوصول إليها وركب فى سيارة الصليب الأحمر فى محاولة يائسة للدخول إلى قريته ومعرفة ما جرى لأهله، وعند تفتيش السيارة وجدوه وقتلته عصابات الأرغون الإرهابية أمام عينى صديقه داود، الذي وقف صامتا لا يبدى حراكا، وتنتهى الرواية بظهور أحمد سالم جديد، أكثر وعيا وإدراكا لقواعد الصراع، وزاده ما حدث لأهله تصميما على الانتقام، والثأر لنفسه ولوطنه ولأهله، وقرر أن يجاهد حتى يجتثهم من الأرض، «سوف تتغير الأحوال، لكن لا بد من اجتثاثهم كما اجتثوا شجرة الزيتون»، نشر فتحى غانم هذه الرواية عام 1989، وكانت انتفاضة الحجارة قد زرعت الأمل فى النفوس، والآن وبعد مرور 36 عاما على نشر الرواية وأكثر من 85 عاما على وقائعها، ما أشبه أحداث الرواية مع ما يحدث فى غزة الآن من إبادة جماعية لأهلها ومحاولات صهيونية بمساعدة أمريكية لتهجير الفلسطينيين وإبعادهم عن بلدهم، ومثلما قاوم الفلسطينيون كل ما مر بهم من مذابح ومحاولات إبادة وتهجير فإن المقاومة ستستمر ولن يترك الفلسطينيون أرضهم وبلدهم، وسيعترف العالم كله بدولة فلسطين مهما طال الزمن.
نقلأ عن مجلة روزاليوسف