قراءة في رواية "الشاميرا" للدكتور هشام الفخراني
لا يمكن وصف الروائح أو التعبير عنها بالكلمات، لكن الزهور في هذه الرواية مرئية وملموسة ومشمومة أيضا.
والزهور في هذه الرواية هي الرواية نفسها، بشخصياتها وأحداثها وأماكنها، وأيضا بكلماتها وعباراتها التأملية، الحكيمة، أو الحائرة، أو الحكيمة الحائرة.
البحث عن النادر من الزهور وجمعها ليست فقط هي وسيلة نادر (بطل الرواية) في سبيل الاستشفاء، بل هي أيضا الوسيلة التي يعتمد عليها الكاتب في بناء كل عناصر روايته.. ومن أجل هذا، وضع الكاتب بطله في خلوة امتدت إلى عامين بدلا من أربعين يوما.. خلوة يتفتت فيها الزمن وتنبت الأحداث والشخصيات، وتنبثق الأماكن والعوالم فجأة في ذاكرة البطل، ثم تختفي فجأة أيضا، كأنها زهور قصيرة الأعمار.
"الخلوة أرض بكر لجدال لا يتوقف داخل النفس حول قيمة ما فعله الإنسان في مساحة رمادية من الزمن تبدو كخدعة في نهاية المطاف".
في هذا الجدال الذي لا يتوقف داخل نفس البطل، على طول نص الرواية، يتشكل عالم الرواية كله، ويسلك فيه السرد سلوكا غير خطي، يتناسب مع حالة البطل في خلوته، ويتناسب أيضا مع الرؤية التي تقدمها الرواية عن الزمن والعالم.
وفي هذه "الأرض البكر" (الخلوة)، لا تنبت فقط زهور هذه الرواية (شخصياتها وأحداثها وأماكنها)، وإنما تتدفق أيضا أنهار الكشف، كشف أسرار الزمن والموت والحياة.
(1)
يطرح الكاتب سؤالا: "من يأخذ الإذن من الآخر، الموت أم الزمن؟".. بالنسبة لهذه القراءة، يتحول هذا السؤال إلى سؤال آخر: بأي سر من أسرار هذه الرواية نبدأ، بسر الموت أم بسر الزمن؟ ويضطر القارئ إلى ملاحظة الدور الجوهري الذي يلعبه الموت في هذا العالم.
(أ) صحيح أن الموت هو "سيد الظلام والصمت" كما يصفه الكاتب، لكنه أيضا هو محرك كل أحداث الرواية، وهو كذلك الذي يشكل ملامح وخصائص شخصياتها.
لا تخلو شخصية من شخصيات الرواية من تأثير الموت على ملامحها وخصائصها ودوافعها، وعلى كل مواقفها وأفعالها تقريبا.. فعلى طول النص، نستطيع رصد اثنتي عشرة حالة موت، كان كل منها صانعا أساسيا للعالم، ولشخصيات وأحداث الرواية، الرئيسية وغير الرئيسية أيضا.
بداية من السطور الأولى، يشكل موت "مؤمن" (صديق نادر) البوابة الأولى للدخول إلى النص وعالمه، وإلى خلوة نادر التي ينبثق منها كل شيء.
كل ما تبديه الرواية عن شخصية أم نادر وتأثيرها على الأحداث لم يصنعه إلا موت ثلاثة إخوة لنادر قبل ولادته، وكذلك موت والد نادر.. إلى أن تموت أم نادر نفسها، راسمة بوصيتها القصيرة لابنها خطا يحدد مصير الأشخاص ومسير الأحداث.
تموت مريم مجاهد، بعد أن يتسبب موت أبيها المفاجئ في اضطرارها إلى السفر والزواج من ابن عمها.
وقبل الشيخ مجاهد، تموت زوجته "حياة"، أم مريم، ليحدد موتها مصير حياته وشكلها مع ابنته الوحيدة.. وتموت مريم المهاجرة، بعد أن توصي الشيخ مجاهد بتسمية ابنته باسمها، لتعيش مريم حائرة بين اسمها الحقيقي الأول ودلالاته، وبين اسمها الثاني وما يمثله لها من حياة حقيقية أحبتها.
حتى الشخصيات الثانوية في الرواية لم تصنعها وتشكلها إلا حوادث موت: وراء علاقة محمد بهجت الغريبة بالزهور وبنادر لا شيء سوى موت زوجته المحبة للزهور، بعد حياة زوجية درامية قصيرة.. ووراء التحول المفاجئ للسيدة عالية، صاحبة بيت الجمال، موت صديقتها المقربة الوحيدة.
الموت، إذن، هو اللاعب الأساسي في مسرح الزمن، بل هو مؤلف ومخرج المسرحية كلها.. والموت هو بداية الأشخاص والأحداث، لا نهايتها كما هو شائع. هنا، نحن أمام كشف جديد لدور الموت، وهو أنه: بداية قصة أي حياة.
(ب) بالإضافة إلى ذلك، فإن الموت يلعب دورا أساسيا في تعميق حالة التأمل والجدال الداخلي الذي تتم من خلاله أحداث الرواية، وتصل من خلاله رسائل الرواية أيضا.
قلنا إن أحداث الرواية، ورسائلها أيضا، تنبثق من تأملات بطل الرواية، في خلوته أو عزلته الخاصة، وكذلك من تأملات وأحاديث شخصياتها.. ولم يكن شيء قادرا على تعميق هذه التأملات إلا الحساسية الخاصة والوعي الخاص الذي تصنعه حادثة الموت.
الموت هو أكثر محفِّز للإدراك والوعي والحساسية، وأكبر جاذب ودافع للتأمل.
"حين تحاصرك فكرة الموت سيبدو لك أي ألم صغير في أي موضع من جسدك مؤشرا لحضور الموت، فيأخذك خيالك إلى كيفية خروج الروح، وعدم قدرتك على مواجهة الأمر، أو القدرة على منعه، ومن المؤكد أن لا أحد ممن حولك سوف ينظر لتلك التفاصيل الدقيقة التي بدت لك لحظتها كجبال مهيبة، أولئك سيذكرون كلمة مات بشكل عفوي دون الانتباه لكل اللحظات التي عشتها قبل أن يحضر سيد الظلام والصمت".
إدراك معنى الموت، كما يلمح هذا النص، يعمل كمجهر مكبِّر لكل الأحاسيس والإدراكات التي من الممكن أن يشعر بها الإنسان، فيزيد من حساسيته تجاه التجارب والأحداث والمعاني، وبالتالي تزداد القدرة على التخيل والتأمل.
ومن خلال كِبَر التخيل وعمق التأمل، تأتي القدرة على تحليل التجارب.. وتأتي أيضا قدرة الكاتب على توصيل رسائل روايته، عبر تأملات وأحاديث شخصياتها الرئيسية والثانوية.
(ج) وأخيرا، فللموت أيضا تأثير آخر على العالم، ودور آخر فيه، تكشفه نصوص الرواية وأحداثها.. وهو تأثيره على الزمن نفسه، وقدرته على تشكيله وتغيير أبعاده.
سنرى عند الكلام عن سر الزمن، كما تكشفه هذه الرواية، أن الزمن لا يتحدد إلا بالأحداث والأشخاص وكيفية إدراكنا للأحداث والأشخاص.. وكما رأينا، فإن الموت هو اللاعب الرئيسي في تشكيل هذه الأمور، وبالتالي فهو صاحب الدور الأساسي في تشكيل الزمن نفسه.
"حين يموت الطيبون من حولنا نشعر أن العالم يضيق، يختنق، ومهما كانت درجة صلابة استوائنا النفسي يمكن أن ننهار في لحظة واحدة".
للموت قدرة على تشكيل إدراكنا بلا شك.. وما دام الزمن هو في الأساس نوع من الإدراك، أو هو شيء يعتمد على الإدراك، فإن للموت قدرة على تشكيل الزمن.
لكن الرؤى والكشوفات التي تقدمها الرواية عن الزمن تفوق هذا بكثير.
(2) "حاولت فهم معنى الزمن الذي نتحدث عنه ولا ندرك أنه يأكلنا بتلذذ في نفس اللحظة التي نحكي فيها عن ذكرياتنا، لا ندرك أننا مجرد ذكرى ستضاف بعد قليل لتلك الذكريات التي مرت كشهب خاطفة".
حاول الكاتب خلال الرواية، ومن خلال كل عناصرها، محاولات مبدعة في تقديم رؤى وكشوفات جديدة بشأن الزمن.. ونحاول نحن الآن تأمل بعضها.
(أ) نظل طوال نص الرواية لا نرى من الشخصيات والأحداث والأماكن سوى ما يشبه الأشباح التي تظهر فجأة وتختفي أيضا فجأة.. حيث يتبع الكاتب أسلوبا سرديا غير خطي.
لا نعرف مثلا أسطورة زهرة الشاميرا التي جاء عنوان الرواية على اسمها إلا في الثلث الأخير من الرواية، وكذلك لا تتضح لنا معالم شخصية سوسن وطبيعة علاقتها بنادر إلا في ربعها الأخير، حتى نادر نفسه نظل لا نعرف أنه "نادر راضي عبد الفتاح المحمدي" خريج كلية الآثار قسم الترميم ولا نعرف شيئا عن تفاصيل تكوينه ودراسته إلا في السطور الأخيرة من الرواية.
تقنية السرد غير الخطي التي يتبعها الكاتب ليست مجرد تقنية فنية يقرر الكاتب استخدامها من أجل التشويق أو غير ذلك من الأهداف الفنية أو الجمالية، لكنها تتفق أيضا مع ما تكشفه الرواية عن أسرار الزمن نفسه.
فالزمن ليس شيئا مستطيلا له بداية ونهاية.. وهو كذلك ليس كائنا له أبعاد محددة ثابتة.
(ب) "كن بدائيا للحد الذي يجعلك في تصالح تام مع نفسك حين تقرر الاستغناء عن كل ما يخص العصر الذي تعيش فيه من هواتف ذكية وما يماثلها من التكنولوجيا. كأن شخصا آخر يسكن عقل وقلب نادر: ماذا ستخسر؟ لا شيء".
يقرر نادر أن يدخل في عزلة أو خلوة لمدة أربعين يوما، في بيت أمه الريفي القديم الخالي من الأجهزة الكهربائية ومن كل وسائل الاتصال الحديثة، وحتى من الإضاءة الكهربائية الحديثة. لكن الزمن عند الإنسان البدائي يختلف عن الزمن بالنسبة للإنسان الحديث.
لا يدرك نادر، ولا ندرك نحن أيضا، إلا في السطور الأخيرة من الرواية، أن عزلته قد استمرت عامين كاملين بدلا من أربعين يوما، وقد طالت لحيته وتغير شكله حتى صار جيرانه ومعارفه لا يتعرفون عليه إلا بصعوبة.
يستطيل الزمن، إذن، وينكمش أحيانا.. ولا يسير في خطوط متصلة، بل متقعطة، لا علاقة لأجزائها بالأخرى.
تظهر الشخصيات والأحداث والأماكن وتختفي، بشكل غير مرتب زمنيا، لكننا نستطيع أن نتابع تطورها والمنطق الذي يحكمها، بعقولنا فقط.. فالعقل هو الزمن نفسه.. ولا وجود للزمن إلا في العقل.
لكن إذا كان الزمن لا وجود له إلا في العقل، فليس معنى هذا أنه كائن خيالي أو وهمي أو يمكن التحكم فيه.. بل هو "ذلك الكيان المطلق الذي يقبض على كل شيء بإحكام شديد، ولا نستطيع مراقبته، فيما يتحرك في كل الأمكنة، ويتغلغل في الأنفس، كأنما يشكل كل شيء بغتة، وحين ننظر لبعض صورنا القديمة لا نستطيع الإمساك بشيء يجعلنا على يقين بأننا عشنا تلك اللحظات من قبل".
في ذاكرة نادر (بطل الرواية)، وعقله، تقوم أحداث الرواية كلها.. "حين تنتفض الذاكرة كأن الإنسان يخرج من كهف مظلم إلى بقعة ضوء مباغتة. ميلاد آخر يضرب معنى الزمن".
يقصد أنه "ينبثق" من الزمن، لا يضربه في الحقيقة.. فالزمن هو البحر الذي تنبثق منه كل الشخصيات والأحداث والأماكن، كأنها رذاذ ماء أو زبد موج.
لكن هذه الانبثاقات المفاجئة في الزمن أو في الذاكرة هي التي تسبب الكشف، "ميلاد آخر يضرب معنى الزمن، لحظة واحدة أدرك خلالها ما لم يستطع تفسيره لعامين ظن أنهما أربعين ليلة... شيء لا يشوب وضوحه سوى مدى جاهزية النفس للحظة الكشف".
والكشف الثالث الذي تقدمه الرواية، بعد سر الموت وسر الزمن، هو كشف سر الحياة.
(3) إذا كان الموت هو المحرك الأول لأحداث العالم، وهو الذي يحدد ليس فقط نهاياتها ونهايات الأشخاص بل ويحدد بداياتها أيضا.. وإذا كان الزمن هو ذلك "الكيان المهيب" الذي يتغلغل في كل شيء، حتى في عقل الإنسان، ومنه تنبثق الأحداث والعوالم.. إذا كان ذلك كذلك، فكيف يحيا الإنسان؟!
كيف يتصرف الإنسان حيال كل ما يصنعه الموت وما ينبثق من بحر الزمن من أحداث ومتغيرات؟! هذا ما حاول فيه نادر (بطل الرواية)، وساعدته على حل ألغازه كل شخصيات وأحداث الرواية.
(أ) من ضمن الكشوفات التي كانت تأتي لنادر على هيئة أصوات للشيخ مجاهد أو للشيخ رحال: "الرؤى لمن أراد أن يرى".
وكان نادر يريد أن يرى، ولهذا قرر أن يدخل في عزلته، أو اعتقد أنه قرر ذلك!
عاش الشيخ مجاهد عبد الصبور مع ابنته حياة تشبه حياة الرهبان، انتهت بموتٍ غيَّر مصير حياة ابنته ومصير حياة نادر أيضا.. أما الشيخ رحال، فإننا لا نستطيع أن نحدد لوجوده ملامح واضحة خلال نص الرواية، ولا يظهر فيها إلا في مشاهد ولقطات قصيرة شبه رؤيوية، بحيث لا نستطيع أن نجزم إن كان شخصية حقيقية أصلا.
غير أنه يلعب دورا مهما كوسيط أحيانا للتعرف أكثر على روحانية وأفكار الشيخ مجاهد.. وكل هذا من خلال خيالات ورؤى وذكريات نادر طوال مدة خلوته.
أول ما يكشفه الشيخ رحال عن الشيخ مجاهد قوله: "الشيخ ليست له طريق يتبعها سوى طريق ذاته، لذا هو رضي بما تكشف له وأخذ معه ما ارتضاه من العيش، ويرقد الآن في سلام".
وإن كان الشيخ مجاهد ليس له طريق محدد، إلا أن من رسائله التي وصلت إلى خيالات نادر في خلوته، أنه ليس في طريقه شيء اسمه عزلة أو خلوة:
"العزلة يا ولدي اختبار جبري، حين تجتازه تستطيع أن تقرر إن كنت تفضل البقاء في عزلتك أو تخرج لتجربة جديدة ربما تعيدك كأول مرة إلى اختبار العزلة من جديد".
العزلة إذن ليست قرارا صائبا نستطيع أن نتخذه لمواجهة نتائج تجاربنا الأليمة.. بل هي ليست قرارا أصلا، وإنما هي قدر، نتعلم منه ونستعد لتجاوزه.
تتوالى الكشوفات والرؤى والإلهامات التي تصل إلى ذاكرة وخيالات نادر عن طريق الشيخ مجاهد والشيخ رحال، وتكون أسبابا وخطوات في سبيل تطور الأحداث وتطور رؤيته للأشياء، وخروجه من كبوة عزلته وخلوته: ـ "يا ولدي، الدنيا مجابهات وليست مخابئ لإخفاقاتنا".
ـ "كل إخفاق يا ولدي يترك أثرا غائرا، لكن علينا أن نتصالح معه".
ـ "سطوة الزمن لا تحتاج سوى الرضا، لا تحتاج لمجابهات محسومة مقدما لمصلحة الزمن".
وأصوات وإلهامات أخرى تصل إليه عن طريق بقية شخصيات الرواية، ومواقف وكلمات، تسهم كلها في مساعدة نادر على الخروج من تيه العزلة.
(ب) مع كل هذا، يبقى تأثير "مؤمن" (صديق نادر)، الذي بدأت أجواء الرواية كلها على أثر موته المفاجئ، يبقى أثره وأثر ما يتذكره نادر من كلماته ووصاياه ورسائله الروحية، هو أهم أسرار الحياة التي تكشفها هذه الرواية.
من خلال ذكريات نادر عن صديقه، نتبين أهم ملامح شخصيته، وأيضا من اسمه الذي يأتي كرمز للمعنى الذي يقصده الكاتب بالتلميح.
الإيمان الذي هو أهم سر من أسرار الحياة، وأهم مساعد على تخطي عقباتها وإخفاقاتها.. لكن الإيمان الذي يُلهمه "مؤمن" لنادر هو إيمان من نوع خاص.. وقد برع الكاتب في إبرازه، رمزًا وإيحاءً وإشارة، وبكل وسيلة من وسائل التعبير الفني الجميل.. وبرع في تأكيده عبر كل عوالم الرواية.
تبدأ الرواية بتذكُّر البطل لموت صديقه مؤمن، وتركه رسالة خاصة له على منضدة صغيرة جوار سريره في المستشفى: ـ "افعل شيئا واحدا مكتملا ثم مت في سلام".
إيمان مؤمن (المهندس المدني) إيمان خلّاق، وهو أول ما يبدو من ملامح إيمانه الخاص.. مات مؤمن مستريحا بعد أن أشرف على إنشاء طريق يشق قلب الجبل في الجنوب، كان يراه هو رسالته في هذا العالم.. وبعد أن ظل وقتا طويلا يتخيل كل من سيسير عبر هذا الطريق.. "هل تعلم كم مليون بني آدم سيستفيدون من الطريق الجديد؟".
مات مستريحا كأنه سيغفو "لمدة عشر دقائق لا أكثر"، كما قال قبل نومته الأخيرة، في ليلة افتتاح الرئيس للطريق الجديد.
... اصنع النافع الجميل وانشغل به، تلك هي مهمتك في الحياة.
من فوق سطح بيته الممتلئ بأنواع مختلفة ونادرة من الزهور، وضع مؤمن صديقه نادر أمام مسؤوليته، وجها لوجه، لإخراجه من أزمته الحياتية الأولى:
"اقرأ عن عالم الأزهار، يبدو أنك الأحق بهذا العالم، كل هذه الأزهار الآن في رقبتك".
كان هذا هو رده الوحيد على كل ما أفاض به نادر من الشكوى ومن شرح آلام أزمته.
أخذ نادر وصية صديقه مؤمن بقوة.. وتحول الأمر إلى شغف كامل، واهتمام شبه روحاني: ظل يقرأ عن أنواع الزهور ويسعى في جمعها والبحث عن النادر منها، ومراسلة كل من يستطيع أن يساعده في الحصول على نوع جديد من الزهور في أي مكان في العالم.. حتى تُوِّج هذا الشغف وتجسد في تأسيس بيت لجمع الزهور وبيعها.
هذا الجمال هو الملمح الآخر والأهم من ملامح إيمان مؤمن الذي انتقل إلى روح نادر.
كانت الزهور سببا في لقاء نادر بالشيخ مجاهد، وكانت سببا في العلاقة الروحية التي نشأت بينهما، كما كانت سببا في معرفته بمريم ابنة الشيخ مجاهد، وفي الحب الذي جمع بينهما.
كانت الزهور سببا في ظهور معظم شخصيات الرواية، الذين كانوا زبائن لنادر وبيت زهوره الصغير، والذين شكلوا أهم عناصر الرواية.. وكان لكل منهم علاقة خاصة بالزهور وبنادر وبأحداث روايته التي بدأت على مستوى النص بعزلته، وانتهت بوشكه على الخروج منها، بمساعدتهم.
... هذا العشق للزهور (رمز الجمال/ الملمح الأكبر لإيمان "مؤمن") كان يستحقه نادر بالفعل، كما عبّر عن ذلك صديقه، وكانت تستحقه أيضا حبيبته "مريم"، العاشقة للجمال والرسم بالألوان المائية، بتشجيع من والدها الشيخ مجاهد، الذي كان بمثابة مرشد روحي لنادر.
ونعتقد أن هذا الإيمان الجميل، الذي ظهرت ملامحه في أجزاء أخرى كثيرة من عناصر الرواية، لا شك أنه سيكون سببا في مواجهة نادر لأزمته الأخيرة، بعد موت مريم، بسبب تعرضها لقهر نوع آخر مختلف من التديُّن المزيف القبيح.
وتظل الرواية مفتوحة على احتمالات لا يزال بها الكثير من الأمل المدعوم بحب الجمال.
... هذا الجمال هو سر أسرار الرواية كلها، وأجمل كشوفاتها وإلهاماتها، على مستوى النص والأحداث والشخصيات والأماكن والعوالم، وأسلوب القص وتقنيات السرد والرؤى والرسائل، وكل العناصر التي تتشكل منها أي رواية.
والأسرار والأفكار والتأملات أكثر مما تم ذكره في هذه القراءة بكثير.. وهي متروكة للعديد من الأعين والعقول والقلوب.
فعندما يكون الجمال هو العنصر الجوهري للرواية، وروحها ورائحتها أيضا، فهو أبعد ما يمكن أن تطمح إليه لتكون رواية تستحق أكثر من قراءة. ... ... ... (16 أغسطس 2022)



