الثلاثاء 23 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
بوابة روز اليوسف

لن تحرز النجاح وأنت تنظر أسفل قدميك، اجعل سفوح الجبال غايتك، فإن لم تصل إليها فستقترب منها لا محالة، آمنت طوال رحلتي في الحياة، خاصة في غربتي، بمقولة الروائية الفرنسية جورج صاند: "إذا لم أجد طريقي في الأرض المعبدة، فسأقتحم القمم الصخرية الشاهقة دون تذمر لأنني أعلم أن في كل جهد الجزء الكافي عنه، وأن الآفاق الواسعة تنتظرني في آخر الطريق".        كانت هذه أيقونة نجاحي، السعي والصبر والاجتهاد، اقتحمت عالمًا غامضًا، رغم وجع الغربة لأثبت أقدامي في دنيا الإعلام، أيقونتي جذبت الصحافة المهاجرة والباحثين عن رحيق الجودة التصميمية والطباعة، وفتحت أبوابًا لي في السودان ولبيبا والسعودية والمغرب، ووضعت فؤاد مطر في طريقي لأتعايش مع تجربة إنسان.        جمعنا أنا ومطر الحنين لمصر والأجواء الصحفية المصرية وأصدقاء مشتركون، ثم أتت السودان وكان اللقاء بعد عودتي منه مباشرة، ليسألني باهتمام وبالتفاصيل عن آخر الأخبار، وبمن قابلت والتقيت، وهو له خبرته العريقة في الشأن السوداني، وعايش سنوات الحلو والمر في المسيرة السياسية السودانية، من شماله إلى جنوبه، من صداقات ربطته بكل قيادات كل الطوائف والأحزاب ممثلة في إسماعيل الأزهري، محمد أحمد محجوب، الصادق المهدي، وحسن الترابي، والشريف حسين الهندي، عبد الخالق محجوب، الشيخ علي عبد الرحمن، السيدة فاطمة إبراهيم، الشيخ أحمد الشيخ، والرئيس النميري، والفريق أول عبد الرحمن سوار الذهب، وعشرات القياديين المدنيين والعسكريين ورموز العمل الدبلوماسي والإعلامي، وأنتجت حصة اهتماماته السودانية مؤلفات أهمها "الحزب الشيوعي السوداني نحروه أم انتحر"، "سنوات نميري بحلوها ومرها"، "انتكسوها أم انتكست" وكتاب "السودان الحائر.. الثائر.. الحائر".       

كان لقائي معه في مكتب شركته الجديدة بمنطقة هولبورن، الملاصقة لشارع الصحافة في لندن "فليت ستريت" حيث أسس شركة للنشر تحمل تسمية “هاي لايت” صدرت عنها مجلة أسبوعية سياسية اسمها “التضامن”.. وبالتعاون مع صحيفة “فايننشال تايمس” أدخل إلى المجلة ملحقًا اقتصاديًا أسبوعيًا بتسمية “التضامن بيزنس” وكان رائدًا في هذا المجال، يومها كان في صحبته زوجته امتثال الجويدي وابنه البكر عامر، وانضم إلينا الصحفي الفلسطيني الأصل بكر عويضة الذي كنت قد تعرفت عليه في البداية كمدير لتحرير جريدة العرب، محطته اللندنية الأولى ليشد من أزر الإعلامي والوزير الأسبق أحمد الهوني، في إصدار أول مطبوعة عربية يومية في عاصمة الضباب.        ويومها اختاره مطر ليكون نائبًا لرئيس تحرير المولود الجديد، مستقطبًا معه كوكبة غنية من الكتاب أمثال زكريا تامر، وفاتح التيجاني، ومدني صالح، وماجد السامرائي، وعثمان العمير، وإبراهيم البرجاوي، وغيرهم من الكتاب العرب.       

وبالطبع عثمان الميرغني الخل الوفي لبكر عويضة الذي رافقه طوال رحلته الإعلامية في لندن، ثم انضم الزميل أنطوان حيدر وآخرون لأسرة التضامن.      

بالإضافة إلى مجلة “التضامن” التي شعارها “مجلة العرب من المحيط إلى الخليج” أصدر مجلة “الرشاقة” أول مجلة متخصصة في قضايا الصحة والغذاء والجمال، وذلك بالتعاون مع المجلة البريطانية الرائدة في هذا المجال ”سليمنج ماغازين”. وإلى هاتين المجلتين أصدر مجلة “عالم المعارض Expo World" التي تغطي نشاطات ظاهرة المعارض التي انتشرت في منطقة الخليج وبالذات في دبي. كما بدأ عملية نشر مشترك للكتب بالعربية مع “جامعة كمبردج”.        اللقاء مع فؤاد مطر كان للاتفاق على أن أتولى عملية الإنتاج لمجلته الجديدة، بعد أن فشلت الترتيبات والمحاولات التي تولتها شخصية تعاقد معها مطر للإنتاج الأسبوعي للمجلة، ما دعا لتأجيل الإصدار أكثر من مرة، رغم أن الشخصية تنتمي لواحدة من كبرى العائلات اللبنانية السنية، عائلة الصلح، فالشاب خلدون كاظم الصلح كان بحياته مواكبًا لعمه تقي الدين الصلح وكان يده اليمنى بالانتخابات في البقاع، كذلك أثناء رئاسته للوزارة، وكان والده يجد فيه وسيلة قادرة على تجميع الطلاب في المدارس حول الخط السياسي القومي العربي، وشأنه شأن العديد من أفراد عائلته رحلوا من لبنان.       في لندن ارتبط بعلاقة قوية بالنظام العراقي، وبعلاقات مقربة بالدكتور ناجي صبري الحديثي "المعروف باسم أبو ندى" مدير المركز الثقافي العراقي قبل أن يعود إلى بغداد لمؤسسات وزارة الثقافة والإعلام، ويتولي مساعده ومعاونه الإعلامي سعد البزاز مسؤولية إدارة المركز، وكان من الطبيعي أن يقدم الرئيس ومعاونه خلدون الصلح لمجلة "التضامن" الممولة من العراق.        لم يوفق الصلح في إدارة إنتاج المجلة، فالرجل رغم أنه كان وليفًا لكل الناس على اختلاف دولهم وأعراقهم ومذاهبهم، يدخل بحماس في أعمال وخدمات ليس مؤهلًا لها ولا يملك من الإمكانيات لتنفيذها، فهو يستخدم شركات من الباطن لتنفيذ أي عمل يكلف به، ودائمًا يختلفان ويسقط العمل.        خلدون- رحمه الله- ظل يطارد أي عمل كنت مقبلا على التعاقد به أو متعاقد معه بالفعل، لأسباب لم أجد لها تفسيرًا حتى اليوم، مستخدمًا سلاح "السعر الأرخص"، ودائمًا يفشل. وصدرت "التضامن" بعددها الأول في نيسان "إبريل" 1983.. وأصبحت أنا وفؤاد أصدقاء نتناول الغداء بشكل شبه يومي في مطعم Richoux، بطبق سلاط نسواز الفرنسية الشهيرة Salad Nicoise، وعندما توطدت العلاقة انضمت عائلتانا لنستمتع بالطعام اللبناني وحكاوى الغربة وذكرياته في مصر التي عشقها بمطعم فخر الدين الشهير، وكلا المطعمين بالبيكاديللي على بعد خطوات من مكتبي بالسان جيمز.        وفي جو عائلي حكى لي مطر وهو حكاء عظيم لساعات عن حلمه بالوحدة العربية الذي قضى عمره في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي كمراسل متجول في كل الدول العربية، صادق الملوك والرؤساء والحكام وكبار السياسيين وصناع القرار، كانت معظم فترات إقامته بالقاهرة التي أحبها، وارتبط بالأهرام ورئيس تحريرها محمد حسنين هيكل، ورحبت به جريدة الأهرام وأصبح كواحد من أفراد أسرتها الصحفية في سنوات الصعود السياسي والصحفي.     ثم توسعت دائرة علاقاته إلى السودان فالعراق فليبيا معمر القذافي، مرورًا بالجامعة العربية ومؤتمرات القمة ووثائق مقرراتها السرية.             الرجل لا يحتاج إلى تقدمة أو تعريف فقد سجل رحلة حياته بين دفتي كتاب عنوانه: "هذا نصيبي من الدنيا: سيرة حياة.. ومسيرة قلم" ويروي فيه فؤاد مطر سيرته الذاتية.. من ولادته في إحدى قرى بعلبك ونزوله إلى بيروت ليدرس في مدارسها ويتدرج في صحافتها المتألقة في الخمسينيات والستينيات الميلادية.        وعن نشأته يحكي عن والدته التي كانت تقيم في القرية ثلاثة موالد في العام، تجمع فيها الجارة المسيحية والصديقة السنية والأخوات الشيعيات. وتوضح لهن أن المسلم أخو المسيحي وأننا كلنا عباد الله. كان ذلك مناخ الخمسينيات والستينيات قبل أن تتلوث لبنان ودول عربية أخرى بداء الطائفية.       كان صاحب نصيب هائل بحكم قراءاته منذ الصغر في المعرفة والثقافة والموهبة، يكتب بأسلوب صحفي بسيط وسلس دون هبوط باللغة العربية التي يجيدها مع اللغتين الفرنسية والإنجليزية. يعبر بأسلوبه عن الصحافة الراقية التي تتحدث عن مصالح الشعوب وتعبر عن طموحاتهم، دون أن ينزلق في التفاهات أو يعمل لحساب أي أنظمة. مصادره الصحفية هائلة ناتج معرفة بملوك ورؤساء جمهوريات وزعماء وسياسيين واقتصاديين وصحفيين كبار بعلمهم وثقافتهم.       ويكمل الحكي فؤاد مطر  "...أن التطورات في مصر الناصرية غدت جزءًا من عملي في “النهار” وقد تطلَّب ذلك السفر بمعدل سفرية كل ثلاثة أسابيع إلى القاهرة وبذلك طُويت اضطرارًا فكرة الشروع في تحضير كتاب عن الانقلابات السورية، إنما من دون صرْف النظر نهائيًا. وفي سنوات الاضطرار تلك واصلتُ إضافة ما تَيسر إلى الاضبارات من معلومات وروايات شهود كما أفادتني لقاءات ببعض رموز تلك الحقبة، أي زمن الانقلاب الذي قام به حسني الزعيم وأتى عليه انقلاب سامي الحناوي، وصولًا إلى الانقلاب الذي قام به أديب الشيشكلي ودفع حياته ثمنًا. ثلاثة جنرالات يمكن اعتبارهم الشتلة التي انتهت شجرة وأثمرت انقلابات أدخلت سوريا في دوامة.      

وأما الرموز الذين أشرتُ إلى لقاءات جمعتْني الظروف بهم فإنهم الرئيس ناظم القدسي في دمشق ثم أكرم الحوراني في بيروت وميشال عفلق في بيروت ثم في بغداد. والاثنان الأخيران شغلا مناصب وزارية في العهود الانقلابية السورية الأُولى، وكان لكل منهما دور لافت في صعود المرحلة وهبوطها.       ربطت مطر بالأستاذ هيكل علاقة حميمة. أثارت هذه العلاقة حيرة البعض وغيرة البعض، لكنها استمرت وحافظت على الود حتى رحيل الأستاذ. وفؤاد مطر لا ينسى وهو يكتب عن الاستاذ زملاء صاحبوه في برج الأهرام ممن شغلوا مواقع مهمة وكانوا له عونا في مهامه الصحفية وتأتي في مقدمتهم المرحومة نوال المحلاوي مديرة مكتب الاستاذ، وابنة الأهرام البارة أو أيقونة الأهرام والمرحوم الأستاذ لطفي الخولي الكاتب السياسي، ورئيس تحرير مجلة الطليعة، والمرحوم الدكتور عبد الملك عودة، استاذ العلوم السياسية، الذي عمل لسنوات في مكتب الأستاذ مستشارا سياسيا وصحفيا.       

ويقول كانت علاقتي بالأستاذ دائما «أصيلة» صمدت أمام افتراءات من بعض ذوي الهوى الساداتي. علاقة قاربت نصف قرن.        منذ بداياته أقدم مطر على إصدار العديد من الكتب، جريئة التناول تتناول أحداثًا، وملفات حفلت بأسرار، وحوارات أجراها. كتب لم تكن تقارير سياسية، حفلت بتحليلات وشهادات. احتضنه وشجعه غسان تويني صاحب "النهار" فنشر له كتابه الأول بعنوان: "رؤساء لبنان: من شارل حلو إلى شارل دباس" (1963). كان من أشد المعجبين بمحمد حسنين هيكل، فكانت ملفاته الساخنة وكتبه مصدر إلهام له، وتعلم منه صناعة الكتب وأهميتها، كان متخصصًا في الشأن السوداني، وله العديد من الكتب والمقالات التي تعد مرجعًا لتاريخ الأحداث السودانية.       

استمرت التضامن التي فتحتْ صفحاتها للقضايا وللأقلام العربية، مشروعًا ناجحًا في بداياته، لكن للجرأة السياسية أثمانها الفادحة، كما للنجاح أشباحه التي تسعى لإفشاله، وللأجندات جنود لن تروها.. قاومت "التضامن" لسنوات قليلة، ولكن نجح التآمر في إجهاض التجربة. كم عبّرَ طلال سلمان في مقدمته لسيرة ومسيرة فؤاد مطر، إلى أن جاء غزو العراق للكويت، ارتأى فؤاد مطر كناشر ورئيس تحرير وقْف إصدار “التضامن” وكل المطبوعات الأخرى بعد أن أصدر من التضامن 408 أعداد، قراره جاء بعد أن واجه موقفين صادمين: الموقف المتمثل بالغزوة العراقية للكويت والحرب الأميركية– البريطانية بغطاء عربي على العراق لتحرير الكويت عام 1990 وجاء معه ارتباك أسواق التوزيع وتشديد الرقابة على النهج المتوازن لمجلة “التضامن” حيث إن طرفيْ الحدث الكبير أراد كل منهما أن تتبنى المجلة وجهة نظره. 

                                 وترك فؤاد مطر وعائلته لندن، بصحبة زوجته الكاتبة والروائية الفلسطينية امتثال جويدي، وبقي أبناؤه البكر عامر رجل الأعمال، وغسان خبير الكمبيوتر، وابنته علياء خبيرة تسويق اللوحات الفنية، في لندن ويحكي مطر تجربة العودة "فجأة أوجبت العودة من لندن إلى بيروت من أجْل الاستقرار فيها أن أشحن مقتنياتي وكتبي وعشرات الإضبارات التي بعضها شخصي وبعضها يتصل بمكتبي كناشر.       

وبينما انصرفتُ إلى البحث بغرض التأليف وكان نتاج خمس عشرة سنة مؤلفات حول قضايا عربية واكبتُ تطوراتها السياسية والظروف المأساوية التي عاشها حكام بعضهم أصدقاء، وركزتُ الاهتمام على قضايا أُخرى وكان لي بعد استقرار العودة إلى بيروت عدد مِن المؤلفات. " ……" كما كانت العودة من الوطن الثاني بريطانيا (كوني اكتسبتُ جنسيتها) إلى الوطن الأم لبنان، ثم مشاعر التقدم في العمر، مناسبة لكتابة مذكراتي التي صدرت بعنوان “هذا نصيبي من الدنيا. سيرة حياة ومسيرة قلم”. "    

إنها حقا قصة رجل التقيت به في غربتي الثانية، جمعنا حب مصر والولاء لمبدعيها، والإصرار والإرادة والتحدي، وهب نفسه لصحافة الحقيقة، وطاف بقلمه في عمق جغرافيا السياسة والصحافة العربيتين.

 

تم نسخ الرابط