الثلاثاء 23 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
بوابة روز اليوسف

في إطار شغفي بالفن المصري القديم ولكون المسرح هو مجموع عناصر الفنون السبعة الجميلة، فقد تمتعت الأيام الماضية بصحبة أ.د. أيمن وزيري أستاذ علم المصريات ورئيس اتحاد الأثريين المصريين، كي أحاول معه فهم طبيعة العرض المسرحي في مصر القديمة. 

وأدى ذلك بالضرورة لزيارات متتالية لمكتبة المصري القديم بكلية الآثار جامعة القاهرة ومكتبة الجامعة الأم المركزية. 

لاحظت من اقترابي من عالم المسرح في مصر القديمة ملاحظات عديدة سبق أن كتبت عنها ومنها وجود العروض المسرحية الدنيوية والفرق الجوالة، ودراما مهمة خارج المعبد، والدراما الطقوسية الشهيرة. 

كما أثبت بشكل موثق ومنشور نشراً عاماً حق السبق للمصريين القدماء في اكتشاف فكرة المسرح قبل الإغريق الذين نشروها عبر اليونان القديمة وبرعوا فيها. 

إلا أن ما يشغلني حقاً الآن هو الكيفية التي كانت عليها العروض المسرحية المصرية القديمة، وأول العناصر التي لمستها بشكل مبشر كانت الموسيقى والغناء. 

إذ لم يقنعني كثيراً الجزء الخاص بالموسيقى والغناء في مصر القديمة من كتاب وصف مصر الذي صدر عن علماء الحملة الفرنسية، وهو أول كتاب عن الموضوع فيما أعلم. 

هناك كتاب هام كتبه د. محمود أحمد الحفني بعنوان "موسيقى قدماء المصريين"، وفيه يعرض لتجربة د. فيكتور لوري التي أجراها عام 1889 وفيها صنع نماذج لعدد من الآلات المصرية القديمة، مثل الناي والمزمار، وهناك محاولات أخرى لافتة للنظر، ومنها محاولة الموسيقي البريطاني مايكل أثيرتون الذي أصدر ألبوما موسيقيا بعنوان: "عنخ: صوت مصر القديمة". 

كما تبقى تجربة العالم الموسيقي (زاكس) تجربة شهيرة، لأنه قرر الابتعاد عن حاسة السمع وخبرات العازفين الموسيقيين المعاصرة وأسس عمله في وضع جدول زاكس عبر الحسابات الرياضية لأبعاد الآلات المصرية القديمة، وأبعاد تقويمها واتساعها أملاً في الوصول لأقرب النغمات والسلالم الموسيقية الأصلية، وقد كان أميناً جداً فقد وصل لنغمات كاملة، ولأخرى أقل من الكاملة على ندرتها. 

وبالمصادفة السعيدة أخبرني د. أيمن وزيري انه ساهم في عمل علمي بحثي وتطبيقي معا، هو المشروع القومي لإحياء الموسيقى المصرية القديمة.

الأهم أنني وجدت نفسي على اتصال بعالم موسيقى مصري من طراز رفيع هو أ.د. خيري الملط، وكان قد أصابه الانجذاب والولع بهذا الموضوع فجعله قضيته البحثية والثقافية معا. 

فقد تلقى المشروع الهام الذي فكر فيه وتعهده بالوعي والإدراك، منحة من الاتحاد الأوروبي في عام 2004 بالتعاون مع جامعة حلوان، وهنا يأتي دور القيادي الأكاديمي د. عمرو سلامة كنائب لرئيس الجامعة ثم رئيساً لها، فقد تلقى المشروع أيضاً منحة من البنك الدولي في عام 2005، ولذلك فقد شارك د. الملط باحثون من ألمانيا والمملكة المتحدة وكوريا الجنوبية ودول أخرى بحثاً في الآلات الموسيقية المصرية القديمة. 

وقد نتج عن المشروع ورشة لتصنيع تلك الآلات بالاستعانة بالخبرات الدولية لتوفير المواد الأولية من الأخشاب وغيرها من جلود الحيوانات ومواد الأوتار المصنعة من أمعاء بعينها لحيوانات معينة، كما كشف البحث الأثري الذي قام بفحص تلك الآلات المصرية القديمة المنتشرة في عدد من المتاحف العالمية. 

وبعد تصنيع الآلات المصرية القديمة تم تدريب العازفين في دبلوم خاص للدراسات العليا بكلية التربية الموسيقية، فأصبح هناك فرقة تكونت عام 2007، وقدمت عروضها للجمهور العام في مصر وفي عدد من أنحاء العالم، أنها فرقة أحفاد الفراعنة والتي لم تحظ بشهرة إعلامية كبرى. 

جدير بالذكر أن الفرقة تعزف الآلات المصرية القديمة، معزوفات وأغنيات باللغة الهيروغليفية، تعود للسلم الموسيقي الخماسي والسلم الموسيقي السباعي المشابه للسلم الموسيقي المعاصر. 

أما الأمر الذي لا يزال معلقا حتى الآن هو النوتة الموسيقية المصرية القديمة، إذ أنه لم يتم العثور عليها حتى الآن، رغم اهتمام المصريين القدماء بتدوين حياتهم وإبداعاتهم المتعددة. مما يجعل أمر اكتشافها محتملاً مع تطور الاكتشافات المصرية الأثرية القديمة. 

حاول الكثيرون الاقتراب منها بشكل متخيل، ورأى عدد من الخبراء أن الألحان الكنسية للكنيسة المصرية القديمة والباقية معظمها حتى الآن ربما هي الأقرب للنوتة الموسيقية المصرية القديمة، لأن اللغة القبطية كانت هي اللهجة الثالثة المشتقة من الهيروغليفية الأم لغة قدماء المصريين.

وقد كان للفنان المصري الكبير الراحل محمد نوح محاولة شديدة الجرأة في استخدام تلك الموسيقى الكنيسة في الاحتفال بفيضان النيل في كنيسة المعادي المطلة على النيل مباشرة، وقد كنت حاضراً في هذا الحفل المبهج الذي أدهشنا جميعنا في كنيسة السيدة مريم الأثرية، كان الاحتفال بعنوان مبارك شعبي مصر، منذ أكثر من خمسة عشر عاماً، إلا أنه أخذ الصيغة الموسيقية المعاصرة أكثر من محاولته فهم الألحان القبطية القديمة. 

كما أذكر أن الفنان المصري الكبير هاني شنودة قد طور سيمفونية معاصرة عن أصل ألحان قبطية كنيسة، لكنه لم يطلقها في مصر، وإن عزفتها عدد من الفرق الموسيقية السيمفونية الغربية، وهي محاولة شديدة الثراء تركت أثراً في نفسي رغم المسافة الزمنية بيني الآن وبين سماعي لها عام 2009 في ستوديو هاني شنودة بالهرم. 

إلا أن محاولة أ.د. خيري الملط هي محاولة علمية بحثية، ومشروع ثقافي مهم، يستحق عليه كل التكريم والتقدير، بل وتستحق فرقة أحفاد الفراعنة الموسيقية لدعم كبير من المجتمع المدني والدولة. 

وذلك لأن خيري الملط عالم موسيقى مصري نادر الوجود، ومشروعه المبدع قد أثار في نفسي أملاً كبيراً في إمكانية استعادة عناصر العرض المسرحي المصري القديم.   

تم نسخ الرابط