في عام 1988 بدأ مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، والذي سرعان ما تحول إلى مؤسسة ثقافية تعمل طوال العام على اختيار العروض من كل أنحاء العالم، وعلى ترجمة أحدث الإصدارات المسرحية من كل اللغات الحية.
ولا شك أن ذلك حدث بسبب وجود المفكر المسرحي المصري أ.د. فوزي فهمي رئيساً للمهرجان لسنوات طويلة.
هذا المهرجان الذي صار علامة مسرحية هامة في البرامج المسرحية الدولية، كان قد أطلقه وزير الثقافة الأسبق الفنان الكبير فاروق حسني في مستهل عمله بوزارة الثقافة المصرية. وتمر السنون وتتضح حقائق عدة منها براءة فاروق حسني من إلصاق تهمة الظاهرة المهرجانية المتكاثرة في المسرح المصري الآن، وهي ظاهرة تحويل المواسم الفنية إلى مهرجانات متصلة.
فقد اتضح أنه كان من المعارضين لفكرة إقامة المهرجان القومي للمسرح كما صرح الكاتب الكبير محمد أبو العلا السلاموني.
وأن فكرة المسابقة السنوية، والتي ناقشتها لجنة المسرح بالمجلس الأعلى للثقافة عام 2003 كانت وجهة نظره هو كوزير مسؤول، لأنه كان حريصاً على عدم كثرة المهرجانات.
وذاكرتي التي أسعفتني بفكرة المسابقة السنوية التي تتحول نتائجها لموسم مسرحي استثنائي، كانت من أصداء النقاش الذي شارك فيه أبو العلا السلاموني في لجنة المسرح، ولكن مع إصرار المسرحيين المصريين تم إصدار نسخة المهرجان القومي للمسرح، ثم أتبع ذلك إصرار من السينمائيين أدى إلى نسخة المهرجان القومي للسينما.
وهي نسخة أيضاً جاءت في إطار بديل عن المسابقة السنوية التي تؤدي إلى موسم سينمائي استثنائي لأهم الأفلام التي تم تقديمها خلال العام.
وإن كنت مع المسابقة السنوية في السينما والمسرح والتي تتابع الإنتاج السنوي لتمنح الجوائز مسبقاً، ثم يحظى الإنتاج الفائز بموسم عرض مميز.
وأتضح لي بالمراجعة وسؤال الأعضاء القدامى باللجنة أن فاروق حسني كان لا يرغب في إقامة مهرجان آخر للمسرح في مصر غير المهرجان التجريبي. وكم كان محقاً في رغبته، والتي تراجع عنها أمام إصرار المسرحيين المصريين.
وقد أدى ذلك إلى تكاثر المهرجانات المسرحية فيما بعد تحت مسميات عدة مع الضغط على وزارة الثقافة المصرية لفتح فضاءات لها داخل الوزارة، وبعض من هذه المهرجانات كانت ترفع شعاراً مثل مهرجان للهواة، أو جمعية الهواة، والتي تحول مهرجانها إلى مهرجان عربي.
جدير بالذكر أيضاً أن الضغط المسرحي على الرأي العام أقام دورة واحدة للملتقي العربي للمسرح، وقد رعته الهيئة العامة لقصور الثقافة في فترة رئاسة حسين مهران رحمه الله رحمة واسعة.
كانت فكرة الملتقى القومي والعربي معاً، نوعا من الهمس السري والمقاومة للمهرجان التجريبي في إطار الاهتمام بمسرح الكلمة، وفي ظل الاسترابة والشك في مسألة المسرح التجريبي.
وقد أدى هذا الشعور العام السري إلى انفجارات شعورية اتهمت المهرجان التجريبي اتهامات عديدة علنية، وصل أثرها إلى إلغاء المهرجان عقب عام 2011.
حتى عاد مرة أخرى بعد أن افتقده المسرحيون، وتأكدوا بأنه لم يكن سبباً حقيقياً في مشكلات الإنتاج والإبداع المسرحي في مصر.
وقد تنامت تلك الظاهرة المهرجانية في كافة أنواع الفنون التعبيرية خاصة في مجال السينما، والتي حفلت خلال السنوات الماضية بالعديد من المهرجات المتتالية، ومعظمها لا يغادر فكرة مهرجان القاهرة السينما الدولي.
بعض من هذه المهرجانات تتداخل وتتقاطع ولا ينتظمها سياق عام وهو دور اللجنة العليا للمهرجانات. وهى مسألة هامة يجب إعادة النظر فيها للتنسيق وإعادة النظر في كل تلك المهرجانات التي تعطل عمل وانتظام المواسم الفنية، والتي تحتاج لخطة تنشيط محترف يستعيد علاقتها بالجمهور العام. هذا وقد طاردتني هواجس مسرحية مهرجانية رأيت من الضرورة الحديث عنها حتى يتم إحقاق الحق لأصحابه. في ظل حضور مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي في الأول من سبتمبر 2022م. إنها إذن الدورة التاسعة والعشرين من عمر المهرجان، وهى تتميز بشكل مبدئي بالاستجابة لمطالب متكررة من النقاد بعودة الشق الفكري، بمعنى عودة الكتب المترجمة والإصدارات والتي تصل هذا العام لستة وعشرين إصداراً.
ولذلك فالمهرجان التجريبي شأنه شأن مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، لا يمكن ضمهما في سياق الظاهرة المهرجانية المتكاثرة.
ولكن تبقى الإشارة الهامة الموجهة لجموع الفنانين في مصر ونخبهم التقليدية. وهي ضرورة أن تأتي المشروعات الجديدة منهم، وليس بالضرورة أن تأخذ تلك المشروعات شكلاً مهرجانياً احتفالياً.
لأن تلك المشكلة تبقى قائمة وهي غياب فكرة المبادرة والاقتراح من الجماعات الفنية المتعددة، ومنها الجماعة المسرحية المصرية، والتي مارست اعتراضاً تاريخياً على فكرة المهرجان التجريبي المفيدة جداً لتجديد المشهد المسرحي المصري والعربي. ذلك أن للقصة تاريخ، فقد حدث ولا شك منذ مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي الأول 1998 أن طرح مفهوم التجريب بشكل مؤثر وواضح. ولقى القبول لدى مجموعة مختلفة من المؤلفين والمخرجين من أجيال متعددة قدمت نفسها للحياة المسرحية، وكان معظمهم من شباب المسرح المصري في مصر آنذاك. إلا أن هذا المشروع التحديثي التجريبي قد جاء بدعم كامل من المؤسسة الثقافية صاحبة السلطة في المنح والمنع، ولم يأت من الجماعة المسرحية كما هو حادث في معظم أنحاء العالم.
ولا يوجد مانع من متابعة ونقد وتقييم أداء المسؤولين عن المهرجان، ولا مانع من ملاحظة تكرار غياب بعض من أهم من عملوا على المشروع التجريبي في مصر من تشكيل لجانه ومسارات عمله، وأنواع عمله وتكرار وجود أشخاص يتم إعادة تدويرهم في معظم الفعاليات الثقافية وكأن مصر لا يوجد بها إلا هذه المجموعة التي لا تزيد عن عدد أصابع اليد الواحدة. هذه ملاحظات يمكن تداركها ويمكن إصلاحها بشكل عام، ليس في المهرجان التجريبي فقط، ولكن في الفعاليات الثقافية الأخرى.
إلا أن ذلك لا يمنع من ضرورة الاحتفاء بالمهرجان التجريبي والذي أصبح مشروعاً مسرحياً هاماً في مصر والوطن العربي الآن.
فهو لم يعد مجرد ظاهرة عابرة في الحياة المسرحية، بل تياراً مؤثراً كماً وكيفاً وتاريخاً زمنياً متواصلاً حتى هذه اللحظة، ولا يزال مثيراً للدهشة وللاختلاف.
وتبقى الأسئلة المطروحة للدراسة حتى لا نعيد في مصر ومحيطنا العربي إنتاج أزمات المشروع التجريبي المسرحي في العالم الغربي.
ما هي المعادلة التي حدثت لتفاعل مفاهيم التجريب الوافدة مع الواقع المسرحي المصري ومحيطه العربي؟
وكيف يمكن تجاوز مشكلة استقبال الجماعات المسرحية والنقدية والثقافية في مصر للمشروع التجريبي في مسألة استبدالها للأداء الحضاري والتفاعل الثقافي الطبيعي للمشروع بمفهوم النظرة الثنائية لفكرة الموروث والوافد الأجنبي التقليدية؟ وما هي محصلة تأثير المشروع التجريبي في المشهد المسرحي والذائقة المسرحية في مصر والوطن العربي.
إجابة يجب أن يدرسها مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي كي يعرف ماذا يريد في السنوات القادمة دون السعي المحموم خلف التكنولوجيا بمفردها.
مرحباً بفناني العالم المسرحيين في مصر وأهلاً بعودة سبتمبر الجميل ومهرجان القاهرة الدولي الهام للمسرح التجريبي.



