تعرض العالم العربي في السنوات الماضية لهزات عنيفة، وأحداث خطيرة، قد أطلق عليها البعض ما يسمى بالربيع العربي، وقد أطلق عليها معظم الشعوب عكس ذلك، حيث قد كانت وبحق خريفا عربيا، لأن بعض الأجندات المشبوهة قد حاولت أن تفرض نفسها على الساحة، وقد نجحت للأسف المحاولة في بعض الدول، لكنها قد فشلت في دول أخرى بفضل وعي الشعب، وتفهم قيادته السياسية للموقف، وكيفية التعاطي معه، مثلما حدث في مصر، حيث قد قام الشعب المصري العظيم بثورة الثلاثين من يونيه، واستطاع أن يهزم كل أجندات التخريب!
ولكن قد أدى نجاح هذه الأجندات التخريبية في بعض الدول، إلى خلق حالة من الصراع الدائم بين أفراد الوطن الواحد، حيث قد عم الانقسام في معظم المناطق العربية، وبدأت تظهر في الأفق العديد من الحركات، والميليشيات، والأحزاب، التي تتخذ من ممارسة العمل السياسي ستارا، يخفي ورائه حقائق كارثية، تتعلق بأهداف فوضوية، يجب تحقيقها، تتمثل في تقسيم الدول إلى دويلات صغيرة متنازعة، ومتصارعة، يحارب بعضها بعضا، بهدف العبث بمقدرات الوطن!
وعلى سبيل المثال، قد وجدنا الساحات السورية، والليبية، واليمنية، والعراقية، قد كانت، وما زالت مسرحا للفوضى، وانشقاق الصف، والانتشار غير المحدود للأسلحة، بما فيها الأسلحة الثقيلة، وقد حدثت انقسامات خطيرة في جيوش هذه الدول، وأصبح فكر إنشاء الجيوش الموازية هو الفكر المهيمن عند البعض، مما أدى إلى انتشار الحركات، والميليشيات المسلحة، وباتت الصراعات تأخذ بعدا خطيرا، يمكن أن يهدد مقومات، وأركان، وبقاء هذه الدول!
كل ذلك يؤكد حتمية إحياء التوافق الوطني في العالم العربي، وضرورة استعادة الدولة الوطنية، ولا يمكن ان يحدث ذلك بدون أخذ مسار الحوار الوطني في كافة أنحاء الوطن العربي، لتجلس جميع الأحزاب والحركات وجها لوجه على طاولة المفاوضات، ليتم إعادة النظر في كافة الملفات الشائكة، والحيوية، التي تهم الوطن والمواطن!
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا الصدد: هل حقا تسعى كافة الأطراف المتنازعة في عالمنا العربي، إلى إحياء التوافق الوطني، وإقامة الحوار من أجل الوطن أم أنها تسعى إلى إقامته من أجل مصلحتها الشخصية، ومصالح أجندات أخرى، وإملاء الشروط، التي تصب في صالحهم، وليس بهدف الانتصار للمصلحة العليا للوطن؟! وهل حقا تكون النوايا صادقة، ومخلصة، وتوجد الرغبة الحقيقية في إنقاذ الوطن، واستعادة الدولة الوطنية؟!
تلكم عدة تساؤلات مهمة، تفرض نفسها في مثل هذه الظروف الحرجة، والخطيرة، التي يعيشها الوطن العربي، ويجب على كل طرف من الأطراف المشاركة في الحوار، أن يجيب بصدق على هذه الأسئلة، وأن تسعى جاهدة هذه الأطراف إلى المساهمة الإيجابية، للعمل على نجاح الحوار، وأن يخرج بمخرجات واقعية، تعبر عن الواقع الذي تعيشه الشعوب، وأن يتم وضع خارطة طريق ملزمة، ينبغي حتميا تنفيذها حسب جدولها الزمني، وعدم تعديلها إلا إذا كان ذلك لصالح هذه الشعوب، وليس نتيجة لإملاءات خارجية، تريد أن تجعل من خارطة الطريق وسيلة لتحقيق أهدافها وغاياتها!
ويجب على كل طرف من أطراف الحوار أن يكون على قدر المسؤولية، وأن يعرف تماما أنه ليس مستهجنا، أو جريمة، أن يسعي إلى الوصول إلى الحكم والسلطة، ولكن يجب أن يكون ذلك بالطرق التي رسمتها الدساتير، وبينتها، وفصلتها القوانين، وأن يكون الدستور هو الحكم، والمرجعية، وأن تكون مصلحة الوطن، وتحقيق الاستقرار المجتمعي، هي غاية كل طرف، وأن يتفق الجميع على حتمية الحفاظ على معنى الدولة الوطنية، وإذا كانت هناك وجهات نظر متباينة، حول أطروحات سياسية معينة، إلا أن وحدة الوطن، وسلامة أراضيه، لا تتحمل إلا وجهة نظر واحدة، يجب أن يتبناها، ويدافع عنها الجميع، وأن ندرك أن الوطنية، والإحساس بالمسؤولية، والمصداقية، والإخلاص، هم السبيل الوحيد لإحياء التوافق الوطني، وتحقيق الوحدة الوطنية، وتعزيز قيم السلام الاجتماعي.
*أستاذ القانون ونائب رئيس جامعة أسيوط السابق



