جمعتني وسليم اللوزي علاقة خاصة، يغمرها المحبة والاحترام، من خلال تعاملي وتعاوني معه في إصدار الحوادث من لندن، فنحن أبناء جذور واحدة في العمل الصحفي. من رحم روزاليوسف ومن عطرها ومسكها نشبنا إعلاميا، وارتشفنا من رحيقها، فنحن أبناء عاشقة صاحبة الجلالة، السيدة التي تحدت المجتمع بجرأتها، والحكومة، لتصدر أقوي مجلة سياسية في مصر والعالم العربي، ابنة مدينة طرابلس اللبنانية، بالإضافة لعشق اللوزي لمصر والمصريين، فكان سعيدًا بتعاوني معه، واعتبرني من أبناء مؤسسته وفريق نجاحها. كتب اللوزي يومًا مقاله الأسبوعي يشكو ضياع الأموال التي ينفقها من أجل وصول المجلة لقرائها على ثلاث مؤسسات، هم طيران الشرق الأوسط، ومطابع جارود آند لوفتهاوس، وشركة مودي جرافيك. وكان اللوزي يعتبر هذه المقالة مديحًا وتكريمًا لي لمجرد ذكر اسمي، لكن الموضوع ضايقني، واعتقد الأصدقاء أنه كتب بإيعاز أوحت به النزعة الشريرة عند جلال كشك، فقد كان اللوزي يناقش معه أحيانًا فكرة ومحتوى مقالاته، خاصة أن خلافات مادية قد بذرت بيني وبين كشك حول تسديد قيمة تكاليف طباعة كتابه "السعوديون". المقال نشر في الصفحة الأخيرة، التي تصدر بعنوان "استراحة محارب"، ويتناوب الزملاء على كتابتها دوريًا، وعندما عاتبته غضب وقذف بقلمه الثمين "شيفرز" من يده على الأرض، وأقسم بأن قلمه لن يكتب عني شيئًا بعد اليوم. وتدور الأيام وترمح الأسابيع والشهور. تناسيت الموضوع، وذكر اسمي الكريم في مقال الأستاذ. ومع صدور كل عدد جديد، ننسى.. فالحياة التي نواجهها أصبحت تحمل في طياتها مفاجآت، وربما نقول أقدارًا مخيفة ومرعبة نعوذ بالله من سوء وعثائها. إن إيماننا بالله لهو الكفيل بنا إلى الاستسلام والإيمان بالقضاء والقدر. واللوزي مستمر بجرأة في كتابة مقالات تغضب الرؤساء والحكام، والجميع يخاف عليه من أضغاث الشر. من أقوال أفلاطون "إن الإنسان خاضع في حياته الأرضية لقضاء سابق من أزل الآزال". ويرى الحكيم الفيلسوف أن الإنسان لا يختار الشر وهو يعرفه، بل يساق له بجهله، ولا يساق إليه بتقدير الآلهة، لأن الآلهة خير لا يصدر عنها إلا الخير، ولا أعلم إذا كان اللوزي بجرأته اختار الشر كما يقول أفلاطون، أم أنه كان يتحدى إيمانًا بأن كل شيء مكتوب للإنسان. اتخذ اللوزي- منذ ترك بيروت- موقفًا معارضًا ورافضًا للوجود السوري داخل لبنان، ويرى هذا الوجود نوعًا من الاحتلال، وكان يشعر بالألم النفسي لما آل إليه حال لبنان ويردد دائمًا في مجلسه "إنهم يريدون تخوفينا لنكون موالين لهم"، وكان يرى أن المكتب السوري هو الذي يحكم لبنان، لكن رغم موقفه المعارض، فاجأنا الأستاذ بخبر سفره إلى طرابلس ليتقبل العزاء في شقيقه مصطفى، الذي تعرض للاغتيال، وهو يستجم على شاطئ مدينة طرابلس، واستقبلته زوجة أخيه: مصطفى قتل بسببك.. وعندما عاد اللوزي للندن رفض أن يتقبل مني ومن أسرة الحوادث التعازي، وبدأ كتابة مقالات ضد النظام السوري، متهمًا مخابراته بقتل شقيقه، وكان من مصادره الصحفية المتعددة عدد من السوريين الأصدقاء له أمثال راشد المقدم، ورجا صيداوي، وسليم حسن، ورجا الشوربجي، وآخرين، وفي أواخر 1979 كتب اللوزي: "وأنا في هجرتي الثانية في لندن خسرت أخي مصطفى، ومصطفى بريء وأنا المذنب وذنبي أنني صحفي". بعدها التقى سليم اللوزي في باريس مع صلاح البيطار، القيادي البعثي السوري المنفي، وحذره من الخوض في الممنوعات السورية، لكنه لم يتراجع. وكتب: "أنا أسكن في سلون افنيو وبيتي رقم 19 المنطقة السابعة جنوب لندن.. ومن يريد قتلي فليتفضل". وبعد أسابيع هدأت أعصاب اللوزي، وفكر بالتفرغ لكتابة روايات عاطفية، وسافر إلى نيويورك ليقابل عدنان خاشقجي، كي يرد على كتاب أصدرته مطلقته وروت أسرار حياتها معه، وهناك وصله خبر وفاة أمه في بيروت، بعد ستة أشهر من وفاة أخيه، وقرر العودة ليتقبل العزاء فيها، رغم المحاذير والنصائح العديدة بعدم الذهاب، لكنه اتخذ قرارًا لا رجعة عنه. قرّر العودة إلى لبنان ليحضر مأتم والدته، وعندما نصحه أحد أصدقائه بالعدول عن قراره أجابه: “ولو.. ألا يحترمون حرمة الموت؟ إنني ذاهب لأدفن والدتي”.. وتوسلت إليه زوجته من أجل بناته الصغيرات، وأصر بعناده على الذهاب إلى بيروت.. واقترحوا عليه التوجه إلى لبنان عن طريق الشام، لكنه أصر على الدخول من مطار بيروت. وعندما وصل صباح 21 فبراير "شباط" 1980 طلبه ياسر عرفات، وكان وقتها يتواجد في لبنان مع الفصائل الفلسطينية، وأبلغه بأنه سيخصص له حراسة فلسطينية، لكن اللوزي رفض واعتذر وبقي بلا حراس.. وكانت زوجته أمية قد سبقته في العودة إلى بيروت. كان المفروض أن يغادر سليم اللوزي مع زوجته أمية صباح السبت بطائرة الخطوط اللبنانية إلى لندن، لكنه تلقى رسالة عبر النائب رينيه معوض، بأن الرئيس اللبناني إلياس سركيس سيقابله السبت، لذلك أجّل السفر إلى يوم الأحد، وبكت "أمية" (زوجته) عندما عرفت بالتأجيل، لأن قلبها كان يستشعر الخطر على زوجها خصوصًا بعدما وضع حاجز عسكري أمام البيت. وانتظر "سليم" في البيت تحديد موعد مقابلة الرئيس صباح السبت، لكنه لم يتلق أي مكالمة هاتفية، فلم يطق الانتظار وخرج وحده- ومن دون علم زوجته- وتجول في بيروت، وكأنما يودعها ويلقي النظرة الأخيرة عليها. ثم ذهب إلى جريدة “النهار” والتقى مع المحررين هناك، وعاد متأخرًا، ورأى حاجزين للجيش السوري في الشارع..! وجاء يوم الأحد ٢٥ فبراير/ شباط وتم حزم الحقائب، وخرجت "أمية" في الصباح الباكر لتسدد الحساب قبل المغادرة، وعند عودتها فوجئت بانقطاع الكهرباء عن المبنى، وكان المسكن في الطابق العاشر، وطلبت من الحارس أن يصعد ليطلب من زوجها النزول.. وتأخر "سليم" لأنه كان في انتظار اثنين من زملائه لمرافقته إلى المطار ولم يحضرا.. وكان الجو يسوده التوتر والريبة من شيء مجهول، وكما روت "أمية" بعد ذلك في لندن مأساتها الحزينة: “اتجهنا إلى المطار في سيارتنا وجلست بجانب "سليم" في المقعد الخلفي، وتصحبنا سيارة مدير الإعلانات في شركة "بيجو". وعلى جانبيّ الطريق إلى مطار بيروت كانت تنتشر قوات الردع، وعند الحاجز الرئيسي أوقفتنا مجموعة "ضابط وثلاثة جنود"، وصوبوا أسلحتهم نحونا، وطلب الضابط جوازات السفر وقال "سليم": أعتقد أنني المطلوب! … وللحكاية بقية



