ترددت كثيرًا وأنا أكتب عن حكاية خطف اللوزي واغتياله، فالحدوتة معروفة ويتكرر إعادة تناولها كل عام في ذكرى الرحيل وعلى مدى 42 عاما منذ الرابع من شهر مارس "آذار".ولأنه إمبراطور في مملكة الصحافة بزمن، نتلقى حكاياته الآن بمزيد من الدهشة والرعب.
شخصية تنقلت من التماهي مع الحلم القومي/ العروبي، ثم صدمتها هزيمة ١٩٦٧، وبدا كما يقول الرواة ثائرًا على القمع وأنظمته الحاكمة، ثم عاش حاملًا كرة اللهب يتنقل بين مطابخ الحكم والسياسة في بيروت، حين كانت عاصمة تتصارع عليها كل مخابرات العالم. ولأني عايشت الرجل واقتربت منه وعملت معه بمرحلة من تاريخ الإعلام اللبناني في ثمانينيات القرن الماضي، رأيت ألا أتجاهل الإنسان الذي قدم نفسه كبشًا لمحرقة الكلمة والممارسة الفكرية. فالرجل مدرسة صحفية متكاملة تزيدها قوة وانتشارًا الديمقراطية اللبنانية التي كانت المنارة العربية الأسطع.
عندما وصلتنا من بيروت أخبار اختفاء اللوزي، انتفضت أسرة التحرير وتحفز الجميع استعدادًا لأي تطورات. وكانت أمية اللوزي على اتصال دائم بمكتب الحوادث لتحكي لريمون عطا الله الذي تلقى المخابرة وقتها حكاية توقيف سيارة اللوزي في الطريق من صيدا وكيف أمرها الضابط بالنزول من السيارة، وبقيت مع زوجها في عرض الطريق حتى أتت سيارة أخرى وداخلها شخصان وسائق وأخذوها معهم وأعطوها جوازات السفر، وبينما أخذوا سليم في سيارته بمفرده بعدما أنزلوا السائق والحارس الخاص.
وانطلقت السيارة التي تحمل سليم والسيارة التي تستقلها تتبعها وبها المسلحون، واتجهوا إلى طريق خالدة والدامور. ولم تغب عن عينيها سيارة سليم كما قالت، وأيقنت أنها عملية اختطاف قبل الوصول إلى مطار بيروت.
وفي الطريق طلب الحارس ايقاف السيارة لشراء علبة سجائر، ويبدو أنها كانت خدعة للتعطيل. وفي عودته كانت سيارة سليم قد اختفت تماما عن الأنظار، ولم ترها أو إلى أين أخذوه؟!
وتكمل "أمية" الحكاية "في الوادي بطريق عرمون أنزلوها في منطقة منعزلة مليئة بالصخور والبرك الراكدة، وخطفوا حقيبة أوراق اللوزي التي كانت معها، وجردوها من مصوغاتها وحقيبة يدها، ولم يكن أمامها إلا أن تمشى وسط الأحراش إلى أن تصل للطريق العام لتوقف سيارة متجهة من الجبل إلى بيروت، وجلست بين الركاب وسمعت في الراديو: أن الصحفي سليم اللوزي ما زال مخطوفًا!"
كانت رواية أمية تؤكد اختطاف سليم اللوزي، والأستاذ لا يزال مجهول المصير بين أيدي خاطفيه على طريق المطار عائدًا إلى منفاه اللندني، بعد ساعات قضاها في لبنان ليتلقى العزاء في أمه.
تكاتفت يوم وصل الخبر جهود جميع العاملين بالحوادث. الجميع في حالة اضطراب ما بعد الصدمة، لم يغادر أحد مبنى المجلة في استنفار لبذل فائق الجهد، وتولى ريمون عطا الله ويساعده أنطوان حيدر آليات إدارة المجلة وآليات النشر واستنفار همم العاملين، وكتاب المجلة يشحذون الفكر مساهمين بما يستطيعون في البحث عن الأستاذ بالكلمة والتحليل ليخرج عدد الحوادث ذات جُمعة من مارس "آذار" 1980 وغلافه بالأَسود والأَبيض، ويحمل عبارة “أَين سليم اللوزي يا إلياس سركيس”؟
بعد ثلاثة أيام وجدوا سيارة اللوزي المرسيدس أمام ملهى ليلي يملكه سركيس شلهوب، وازداد الحادث غموضًا.
عادت أمية اللوزي إلى لندن، امرأة ضائعة، حائرة، خائفة، لا تعلم ماذا أصاب الزوج والأب الذي احتضنها منذ ألحقها والدها محمود مرعشلي للعمل بالحوادث كسكرتيرة لمكتب اللوزي، فأحبها وارتبط بها رغم فارق السن.
نظمت حياته، فجدلت بالخوف والقلق والتعضيد أحداثها، ودعمت أعباء العمل والحياة بالمشاركة معه في كل صغيرة وكبيرة.
بعد أيام عصيبة عشتها محاصرًا في مكتبي مشاركًا أسرة الحوادث في الحيرة والقلق وتأثير الصدمة، عدت لمنزلي في العاشرة والنصف مساءً مرهقًا لاجئًا لمخدعي، وقبل أن أستسلم للنوم، أتتني مكالمة هلع من الصديق ريمون عطا الله مدير التحرير للحوادث مستنجدًا، طالبًا حضوري لإصدار عدد استثنائي من الحوادث. هرعت عائدًا لمقر الشركة، شعرت بالخوف وألم نابع من توقع الشر.
وفي مقر الشركة كانت الوجوه الشاحبة الحزينة ودموع الألم تَغَرْغَرَتِ في عيون أفراد طاقم مطبخ الحوادث، بقيادة المايسترو ريمون عطا الله وأنطوان حيدر، لينقلوا لي الخبر الحزين بالعثور على جثة الأستاذ في بستان بعيد عن طريق بيروت في منطقة عرمون، اكتشفها راعي غنم شاب مساء الثلاثاء 4 مارس/ آذار وأبلغ الشرطة، وبالتالي أبلغ وزير الداخلية اللبناني مدير مكتب الحوادث ببيروت. وعم الحزن مدينة بيروت، وقيدت الجريمة ضد مجهول. ولكن تقرير المدعي العام يشير إلى الفاعل بدون تحديد، وحسب توصيف الحادث: فإن مجهولين أقدموا على خطف الصحفي «سليم اللوزي» صاحب مجلة “الحوادث” بقوة السلاح يوم 24 شباط/ فبراير ومن ثم قتله بإطلاق النار عليه من مسدس حربي غير مرخص وتعذيبه جسديًا.. وتبين من تقرير الطبيب الشرعي أنه تم قطع لسانه، رمز الكلام، وإطلاق الرصاص على رأسه من الخلف، ووضعوا يده اليمنى، التي يكتب بها، في حامض فتاك لكي تذوب في السائل الحارق وتتآكل العظام والأربطة حتى أطراف الأصابع، وهناك كسور في الأضلاع الصدرية مما يدل على أنه جرى تعذيبه بوحشية على مدى ثمانية أيام. وفي التقرير إشارة إلى رصاصة أخيرة على جبينه نفذت من الخد الأيمن جراء التعذيب! وعثر على أقلام حبر مغروزة في كل جزء بجسمه، عقابًا على كتابة مقالاته التي لم ترحم ولم تدار.
لم يكن وحده الحزن الذي خيم على أسرة الحوادث في لندن ومكتبها في بيروت، بل تخطاه لحزن وآلام ودموع كانت تترغرغ في عيون اللبنانيين، وقلوب تتسارع نبضاتها فتنهمر الدموع، فالجرح كبير لشعب تعود أن يستقبل الحوادث صباح كل جمعة في منظومة وأسلوب حياة. ولهذا أصر فريق العمل على صدورها نهار الجمعة بكلمة واحدة: “قَتَلُوه” على غلافها الحزين، وداخل صفحاتها ملف مصور لحياته وكلمات لتلاميذه وزملائه في المهنة، ناعيًا إِلى أَفراد إمبراطوريتها الشاسعة رئيسَ تحريرها الذي قضي شهيد جرأَته في نشر الحقائق والسبَق الصحفي. فكان هو ذاتُهُ السَبَقَ الصحفي الذي اعتادوا انتظاره كل أُسبوع ظاهرةً ذهبَتْ موعدًا يُنتَظر.
ظاهرة إعلامية وإنسانية كان وراءَها رجلٌ جريْءُ القلب في قلب العاصفة، ظلَّ واقَفًا يقصفها حتى قَصَفَتْه. وفي النهاية قتلوه.



