الثلاثاء 23 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
بوابة روز اليوسف

خلال حياتنا اليومية كل منا معرض بأن يمر بتجربة صادمة خارجة عن السيطرة، تجربة مصيرية من الصعب مواجهتها والتغلب عليها، لكن عند بعض الأشخاص مثل هذه التجارب تسبب ردة فعل قد تستمر لأشهر أو حتى سنوات. الصدمة المباغتة التي داهمت أمية اللوزي، بعد اغتيال الزوج، كانت قوية، ووجدت أمية اللوزي صعوبة في تخطي الموقف، فالعبء كبير، سيطر عليها الخوف من رهاب موقعها الجديد كصاحبة عمل ورئيسة مجلس إدارة مؤسسة، مسؤولية كبيرة، خاصة أن سليم اللوزي الذي عرف بأنه كان من ألمع الصحفيين اللبنانيين وأكثرهم جرأة في فتح ملفات القضايا الساخنة كان يقول للعاملين معه: "الحوادث" خط سياسي، هي رسالة، حافظوا عليها من بعدي، لكن كيف تحافظ عليها؟ ومن أين تبدأ!…

 

كان من الصعب إعادة التوازن إلى الجسد المترنح على البساط المسحوب. سيطر الفراغ الإداري على مفاصل الحوادث، وفقدت قدرتها على الإبداع. وتعلقت الأنفاس، أنفاس آلاف القراء المتعلقين بنبض الحياة من الحقائق والمعلومات والتحليل للأجندات المختلفة والصراحة في معالجة كل ما يدور في العالم، والاستقصاء الصحفي في صباح كل يوم جمعة. وتوتر فريق العمل من الصحفيين الكبار وأصحاب الفكر والعطاء في مجلة الحوادث، بما قد يحدث من تداخلات وتفاعلات واتخاذ قرارات عشوائية لصاحب الدار الجديد قد تقود المؤسسة إلى الضياع. وكان من الطبيعي أن تخرج الأقنعة لأشخاص ممن نالوا من الفشل نصيبهم، متسلقين يجيدون فنون المداهنة والتملق، انتهازيين التفوا حول أمية اللوزي، قادهم شخص من عائلة "آل المقدم"، تقرب وتودد من امرأة ضعيفة حائرة ضائعة تبحث عن مخرج، ومن باب الحرص والخوف على أموالها، جاء لها بمشروع شراء أجهزة طباعية وبشخص اسمه رؤوف القبيسي لإدارة المشروع، وكان لا بد من دخول من يريد انتهاز الفرصة واغتنامها واقتناص الفرص.

 

 

واجهت أمية اللوزي بأسلوب إدارتها معارضة شديدة من كثيرين من المخلصين الأوفياء للحوادث ولأستاذهم المؤسس، كانوا حريصين على استمرار الحوادث كما كان يريد لها صاحبها. تولى سليم نصار وريمون عطا الله إدارة التحرير، واستقطبت أمية ابن أختها وليد العلايلي، زوج ابنتها أسما سليم اللوزي ليتولى الأمور الإدارية. حاولت أن تتدخل في الشؤون التحريرية، ولكنها لم تنجح.

 

لم تتحمل أمية اللوزي ضغوط العمل، وبناتها صغيرات لا يمكن لهن استكمال المسيرة. فقررت بيع "الحوادث" لصياد الصحافة اللبنانية النقيب ملحم كرم. 

 

                               تعرفت على ملحم كرم أثناء إقامتي ببيروت في هجرتي الأولى، قدمني له الصديق الصحفي اللبناني سامي غميقة، رئيس تحرير مجلة "ألف ليلة وليلة"، إحدى إصدارات جريدة "البيرق"، التي كان يصدرها ويرؤس تحريرها ملحم كرم. وجدت فيه رجل علاقات عامة من الطراز الأول، موهبة يستغلها في صحافته وإصداراته، وأبقته في منصبه نقيبًا للمحررين طوال نحو أربعة عقود ونصف العقد، من دون أن ينافسه أو يُزاحِمه أحد من زملائه خلال تلك الفترة القياسية. له حضور شخصي قوي، يملك حميمية، ويشعرك بأنك صديقه، متابعا لكل شاردة وواردة في مجريات العمل الصحفي، حياته متناقضة بين العمل النقابي ورئاسته لمجموعة من الإصدارات المطبوعة بلغات مختلفة. ومع ارتباطاته العديدة لم تحظ مطبوعاته بالمستوى المهني المطلوب، وهو ما عبر عنه الصحفي اللبناني زياد كاج في كتابه "مونداي مورنينج" Monday Morning الذي يحمل عنوان مجلة أسبوعية تصدر باللغة الإنجليزية، والتي اقتناها ملحم كرم، ومن خلال التجربة المهنية للمؤلف كمحرر وشاهد في المجلة لسنوات: "المجلة عرفت تراجعًا كبيرًا في مستواها المهني إثر انتقال ملكيتها إلى نقيب المحررين. وكان يصدر عن الدار صحيفة "البيرق" اليومية، وثلاث مجلات أسبوعية، هي: "الحوادث" (بالعربية) و"مونداي مورنينج" (بالإنجليزية) و"لا ريف دو ليبان" (بالفرنسية). وجميعها حملت اسم النقيب ملحم كرم رئيسًا للتحرير…. وعرفت مجلة "مونداي مورنينج" في عهد مؤسسها الصحفي الفلسطيني فواز ناجية مرحلة ذهبية خلال سبعينيات القرن الماضي، وعمل فيها صحفيون كبار، مثل الدكتور رامز معلوف وفضيل أبو النصر والصحفي البريطاني روبرت فيسك. وتحوّلت المجلة في تلك الفترة مرجعًا للصحفيين الأجانب وعلامة فارقة للصحافة الناطقة بالإنجليزية في بيروت. لكن ذلك المجد المهني سرعان ما تبخّر بعدما انتقلت ملكية المجلة إلى ملحم كرم، إذ أصبح العمل في عهده على طريقة "خزّق ولزّق" (copy & paste)، وفق تعبير كاج. وراحت المجلة تمتلئ بالأخطاء المطبعية في كل عدد... ويتراجع مستواها المهني حتى كاد يندثر". 

 

                               وهذا ما حدث لمجلة "الحوادث"، لم يستطع ملحم كرم أن يبعث فيها الحياة. اعتمدت في أركانها الإخبارية على عرض ممل ومتكرر لصور شخصيات سياسية وحزبية وبرلمانية لبنانية وعربية تخص الوزراء والأمراء والرؤساء، واحتفظت بصفحة التسلية (أبراج، كلمات متقاطعة ….)، وبصفحات مصورة عن حفلات وأفراح تخص الوزراء والأمراء وفعاليات اجتماعية وثقافية.

 

 

فارق ملحم كرم الحياة وترك الحوادث لأخيه عصام كرم ليتولى رئاسة تحريرها، بعد أن أصبحت "كسفينة متصدّعة تكاد تشرف على الغرق إعلاميًا وصحفيًا"، وسرعان ما لفظت أنفاسها وتوقفت "الحوادث". فالحوادث شأنها شأن الصحافة اللبنانية الموروثة لم تستطع أن تحول نفسها إلى مؤسسات قابلة للحياة، فعلى مدى تاريخها الذي يزيد على قرن ونصف القرن كانت صحافة عائلية أو شخصية، فصحف النهار والأنوار والسفير، ومجلات الحوادث والصياد والوطن العربي وغيرها توقفت إما لوفاة أصحابها أو اعتزالهم العمل الصحفي.

 

                               بعد 36 سنة من اغتيال سليم اللوزي، تم اتصال من البطريركية المارونية بزوجته السيدة أمية اللوزي، طالبًا منها الحضور إلى الصرح البطريركي ليقدم لها "لوحة بابوية" محفوظة في الأرشيف تحمل تاريخ 5 ديسمبر "كانون الأول" 1975. لوحة تتصدرها صورة قداسة البابا بولس السادس، مع نصٍ منه، يبارك فيه سليم اللوزي وأسرة "الحوادث" في لبنان، بكلمات نورانية تكاد كل منها أن تكون صلاة ودعاء. تسلمتها الزوجة، وكتبت: "في العُرف، لا تكريم، مهما علا شأنه وكبر شكلُه يعادل التكريم الرسولي الصادر عن الكرسي البابوي، وعن قداسة الحبر الأعظم في حاضرة الفاتيكان. هذا ما يجمع عليه كل من حظي بهذا التكريم الذي هو بمثابة هدية مقدسة ومباركة من العُلى". 

 

 

لطالما كان الصحفيون الكبار مُحاطين بـ"هالة" من الاحترام والإعجاب في مجتمعاتهم العربية، تقديرًا للصروح الورقية الكبرى التي شيّدوها، من صحف ومجلات ذاع صيتها محليًا، أو عربيًا. لكن في النهاية رحل سليم اللوزي حاملًا إرثه وتراثه وحوادثه.

 

 

تم نسخ الرابط