"حنظلة" شخصية ابتدعها رسام الكاريكاتير المبدع الفلسطيني ناجي العلي، شكل ورمز استراتيجي هو الأهم في إبداعاته الكاريكاتيرية، وأصبح توقيعه الدائم على كل ما يرسمه.
وكان أول ظهور لحنظلة في الكويت عام 1969، وقد اشتق اسمه من نبات الحنظل، وهو نبات طعمه شديد المرارة، ينبت في فلسطين محاطًا بالأشواك.
حنظلة ومبدعه أتيا إلى لندن لينضما إلى أسرة "القبس"، التي استقرت بأفرادها في مقر شركتي، لتنطلق طبعتها الدولية.
ومع انتقال الأسرة الصغيرة إلى مقرها الجديد، ومعها أحلامها للتوسع والانطلاق في أوروبا، حدث ما لم يكن في الحسبان.
الدنيا صيف والحر بدأَ يلفح الوجوه على غير العادة في بلد الضباب، ويصادف أن يكون شريف مودي بغرفته المطلة على شارع إيفز Ives St، يطل من نافذة مقر الجريدة، وفي انتظار وصول الفنان ليتسلم منه رسومه ليضيفها لصفحات الجريدة التي تسلم صفحاتها عبر الأقمار الصناعية، بعد أن انتقلت معدات الإرسال للمقر الجديد لمكتب القبس بمنطقة ساوث كينزنجتون، شاهد شريف "ناجي العلي" قادمًا من محطة المترو، مقتربًا، وفجأة وجده سقط على الأرض، فأبلغ المسؤولين ليجدوا الفنان الكبير مصابًا بالرصاص في رأسه.
حضرت الشرطة البريطانية وتحرر المحضر التالي "الساعة 5:13 بتوقيت جرينتش في يوم الأربعاء 22/7/1987، كان ناجي العلي متجهًا إلى مقر جريدة "القبس" الدولية بشارع إيفز في لندن، حين فاجأه القاتل الذي يرتدي سترة من الجينز، والذي وصفه الشهود بأنه ذو شعر أسود أشعث وكثيف، وأخرج مسدسه وأطلق الرصاص باتجاه رأس ناجي ثم لاذ بالفرار".
نقل ناجي إلى المستشفى ليصارع الموت، وتوفي يوم السبت 29/8/1987، حيث نقل جثمانه إلى مقبرة "بروك وود" الإسلامية في لندن بعدما تعذر نقله إلى مخيم عين الحلوة في لبنان، حسب وصيته لاعتبارات أمنية.
مات ناجي سليم حسين العلي، ابن قرية الشجرة الواقعة بين الناصرة وطبرية في الجليل الشمالي من فلسطين، يقال إنها أعطيت هذا الاسم، لأن السيد المسيح عليه السلام، استظل في شجرة في أرضها، شرد من فلسطين عام 1948، نزح وعائلته مع أهل القرية باتجاه لبنان إلى مخيم عين الحلوة جنوب صيدا في لبنان.
في واحدة من الخيام، كان ناجي ووالده ووالدته وإخوته الثلاثة وأخته الوحيدة ينامون على "حصيرة" حملتها أمه معها في رحلة الهجرة عن القرية، كما حملت "بريموس" يعمل على الجاز وبعض الأغطية، وقد جمع والد ناجي العلي بعضا من صناديق الخشب، ووضعها عند بوابة الخيمة، وعرض عليها بعض المعلبات التي كانت توزعها وكالة الغوث "الأونروا" للبيع، ثم تطور الحال حيث جلب السكر والشاي وأنواعا من الخضار لتنمو بها تجارته، وأصبح يكسب منها قوت أسرته.
درس ناجي العلي في مدرسة «اتحاد الكنائس المسيحية» حتى حصوله على شهادة «السرتفيكا» اللبنانية. ولما تعذر عليه متابعة الدراسة، اتجه للعمل في البساتين وعمل في قطف الحمضيات والزيتون، لكن بعد مدة، ذهب إلى طرابلس ليتعلم صنعة في المدرسة المهنية التابعة للرهبان البيض.
دخل الأكاديمية اللبنانية للرسم "أليكسي بطرس" لمدة سنة، إلا أنه ونتيجة ملاحقته من قِبل الشرطة اللبنانية، لم يداوم إلا شهرًا أو نحو ذلك، وما تبقى من العام الدراسي أمضاه في ضيافة سجون الثكنات اللبنانية. حيث أصبح "حنظلة" زبونًا دائمًا لمعظم السجون. وبمدينة صور درس الرسم في الكلية الجعفرية لمدة ثلاث سنوات.
ناجي العلي، الملقب بضمير الثورة، تشاء الصدف أن يولد في نفس تاريخ ميلاد صديقه غسان كنفاني، الذي عاش مثله في لبنان وانتمى كذلك لحركة القوميين.
واكتشفه إبداعيًا بالمصادفة حين كان كنفاني يقوم بجولة من جولاته الدورية في مخيم عين الحلوة، وهناك شاهد لوحات ناجي العلي وأعجب بها وأخذ معه ثلاث لوحات منها بين أوراقه، التقطها من على الجدار الذي يعلق ناجي لوحاته عليه ومضى.
وبعد فترة وجيزة شاهد ناجي لوحاته منشورة في جريدة "الحرية" التي يترأس تحريرها كنفاني، ويقول ناجي العلي عن هذه الفترة: المرحوم غسان كنفاني هو الذي اكتشفني. وهو الذي قدمني للإعلام ففي إحدى زياراته الدورية لمخيم عين الحلوة وقع على ثلاث رسومات وضعها تحت إبطه ومضى، وبعد فترة فوجئت بها منشورة في مجلة "الحرية" ولم تصدق عيناي ما رأتا، ولا كذلك قلبي الذي أخذ يتراقص فرحًا بهذا الإنجاز الكبير.
شعرت بعد ذلك بأن غسان كنفاني هو أب من نوع استثنائي خاص، أب للإبداع يكتشفه ويقدمه ويشجعه على المضي في المغامرة.
وواصل كنفاني تبنيه لناجي العلي فتوسط له عام 1963 للعمل في مجلة "الطليعة الكويتية" لسان حال القوميين العرب في الكويت آنذاك. وكان هدفه أن يجمع المال ليدرس الفن في القاهرة أو في إيطاليا.
ترك الكويت مرات عدة وعاد إليها. عمل في جريدة السياسة الكويتية، ثم عمل في جريدة السفير، وقد انتخب رئيس رابطة الكاريكاتير العرب.
في عام 1983 ترك بيروت متوجهًا إلى الكويت، حيث عمل في جريدة القبس الكويتية، وبعدها بعامين توجه إلى لندن حيث عمل في «القبس» الدولية.
شاركت رسوم ناجي العلي في عشرات المعارض العربية والدولية. أصدر ثلاثة كتب ضمت مجموعة من رسوماته المختارة. كان يتهيأ لإصدار كتاب رابع لكن الرصاص الغادر حال دون ذلك.
حصلت أعماله على الجوائز الأولى في معرضي الكاريكاتير للفنانين العرب أقيما في دمشق.
كان عضوا بالأمانة العامة لاتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين، نشر أكثر من 40 ألف لوحة كاريكاتورية طيلة حياته الفنية، عدا عن المحظورات التي ما زالت حبيسة الأدراج، ما كان يسبب له تعبًا حقيقيًا. اختارته صحيفة "اساهي" اليابانية كواحد من بين أشهر عشرة رسامي كاريكاتير في العالم.
كما وصف الاتحاد الدولي لناشري الصحف في باريس ناجي العلي، بأنه واحد من أعظم رسامي الكاريكاتير منذ نهاية القرن الثامن عشر، ومنحه جائزة «قلم الحرية الذهبي» وسلمت الجائزة في إيطاليا إلى زوجته وابنه خالد، ليكون أول صحفي ورسام عربي ينال هذه الجائزة.
وهو الذي قتل بيد مجهول/ معلوم في لندن، تلك العاصمة التي لفت بضبابها اللامنتهي قضيته حتى الآن، وقد تم تصوير فيلم وثائقي عنه كان سيرة جيدة لحياته إلا أنه لم يجعل من حل لغز وفاته هدفًا له، كما أخرج المخرج المصري عاطف الطيب فيلمًا روائيًا عنه من تمثيل نور الشريف.
وثمة صدفة في وفاته في لندن حيث مقتل الليثي ناصف، رئيس الحرس السابق للرئيس السادات، وحيث مقتل سعاد حسني، وقيدت الحادثتان ضد مجهول، مثل قضية مقتل ناجي نفسه، ومثلما يحدث في فلسطين ولبنان الآن، حيث تقيد حوادث قتل السياسيين والإعلاميين ضد مجهول.
هزّت الجريمة بريطانيا، وخيم الحزن عليها وبالأخص على جنوب غرب لندن حيث قتل، وعلى العائلة العربية في المملكة المتحدة، وبالأخص أسرته وأسرة جريدة القبس. ودار التحقيق في سر مقتل الضمير الفلسطيني، وتوقف ثم استأنف المحققون البريطانيون التحقيق في الحادث منذ خمسة أعوام بعد 30 عامًا من مقتله وكسر قلمه. المبدع المولود حيث ولد المسيح بين طبرية والناصرة، وأخرج منها في العاشرة من العمر، وظل يتذكر بقية عمره العُشب والحَجَر والظلّ والنور، وبقت صورها ثابتة في محجر العين كأنها حُفِرَت حَفرًا. لم يمت المبدع فقد بقي حنضلة ووجهَهُ لنا، وهو يحكي لنا قصته كما قدّمه العلي أول مرةٍ قائلًا:
"اسمي حنضلة، اسم أبوي مش ضروري، أمّي اسمها نكبة، نمرة رجلي ما بعرِف لأني دايمًا حافي. جنسيتي أنا مش فلسطيني مش كويتي أو لبناني أو مصري، أنا إنسان عربي وبس".



