الثلاثاء 23 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
بوابة روز اليوسف

كل ما مضى من حكاياتي في غربتي الثانية ورحلتي مع الإعلام العربي المهاجر يصور مرحلة مشرقة في حياتي، رغم صعوبة التحديات ومعاناة الغربة، وتجارب الأيام بحلوها ومرها وشراستها أحيانًا. طويت المسافات بين البلدان، مهما استطالت عليّ، مشاركًا في نشر الفن الصحفي وإعلاء الإبداع، باحثًا بتنقيباتي في الثقافة، لا أبخل على زملائي وتلاميذي في العمل بكل ما لدي من خبرات ومعرفة وبسخاء. وبشكل عام لم يكن فيها شيء يزعجني أو يزعج الآخرين. 

فاجأني الزلزال العربي العاصف، كما فاجأ العالم كله، وكان لا بد من مواجهته، وتجنب توابعه. توقفت الجريدتان اليوميتان، وحاصرني الفراغ الذي من الصعب سده بترك جريدة "الثورة" العراقية و"القبس" الكويتية عجلة الإنتاج وما أصاب الطاقة الإنتاجية، والتأثير السلبي من أضرار وخسائر. خفف عليّ الأمر قليلًا أنني لم أكن وحدي، فالعالم واجه أزمة اقتصادية إلى جانب الخسارة البشرية من ضحايا الحرب.

 

     وعلى الرغم من أن حياة البشر لا تقدر بمال، فإن الخسائر في عالم الحسابات تقدر بالدولارات، وتعكس بالأساس الخسائر الاقتصادية الناجمة عن الحرب التي أدت إلى فورة في أسعار النفط لفترة قصيرة، ثم ما لبث سعر البرميل بعدها في الهبوط من 22 دولارًا إلى 17.80 دولار للبرميل.

 

 

وحسب المصدر العربي الرسمي الموثوق، الذي قدر التكلفة المباشرة لحرب الخليج وقتها، "فإنها بلغت 620 مليار دولار (بسعر صرف الدولار وقتها). وفقا لـ"التقرير الاقتصادي العربي" لعام 1991 الصادر عن صندوق النقد العربي والجامعة العربية ومنظمة الدول العربية المصدرة للبترول (أوابك).

 

وفي التفصيل، قدر التقرير خسائر الحرب نتيجة دمار آبار النفط وخطوط الأنابيب ووسائل الاتصالات والطرق والمباني والمصانع بقيمة 160 مليار دولار للكويت و190 مليار دولار للعراق.

 

 

بنظرة سريعة على التقرير السنوي الداخلي لصندوق النقد الدولي الصادر قرب نهاية عام 1991 نلاحظ التأثير الأوسع لحرب الخليج على الاقتصاد العالمي ككل. فقد تراجع نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي من 3% إلى 2%.

 

ولم تسلم مصر من آثار العدوان العراقي على الكويت، وتأثرت أوضاعها الاقتصادية بصورة سلبية، فقد عاد نحو نصف مليون من العمال المصريين الذين يعملون بالدولتين. وتطلب ذلك من الدولة إعادة تأهيل تلك العمالة وإيجاد فرص عمل لهم، بالإضافة لتوقف تحويلاتهم التي تبلغ أكثر من ثلاثة مليارات دولار أمريكي. وقتها قدر البنك الدولي أن مصر من أكثر الدول تضررا من الاجتياح العراقي، لانخفاض مواردها من النقد الأجنبي بنحو 6,3 مليار دولار معظمها من التحويلات النقدية للعمالة، وانخفاض إيرادات السياحة وإيرادات قناة السويس.. وأصاب العراق والعالم ركود اقتصادي! 

 

 

كانت لحظات صعبة ألمت بي وبالعاملين معي، فقد جندت أكثر من خمسين شخصًا لمهمة يكونون فيها يوميًا على أهبة الانطلاق بأجهزة الصف وفصل الألوان، متأهبين للإصدار اليومي، وفجأة تتوقف المهمة، جنود من الصعب "تسريحهم"، معظمهم مغتربين في أشد الحاجة للعمل ودخل يوفر لهم حياة كريمة في الغربة. 

 

 

في اليوم الكئيب الثاني من أغسطس/ آب 1990، لم يحضر أحد من جهازي التحرير للصحيفتين وسجلوا غيابًا. 

 

 

لم أستوعب ما يحدث، رفضت تصديقه في البداية، ما زال عندي أمل وخاصة أنه بعد عشرة أيام من الاجتياح في 12 أغسطس 1990، قدم العراق ما سماه "حلا للجميع في المنطقة"، تضمن عرضًا بانسحابه من الكويت مقابل تنفيذ قرارات الأمم المتحدة السابقة بشأن الأراضي التي احتلتها إسرائيل بانسحاب الأخيرة منها. لكن رفض العرض.

 

 

وفي 25 أغسطس/ آب 1990، أصدر مجلس الأمن قراره رقم (665) بفرض حصار بحري على العراق والسماح للقوات البحرية الدولية باتخاذ "التدابير اللازمة"، وتلاه قراره الذي صدر في 25 سبتمبر/ أيلول 1990 بفرض حصار جوي عليه، مخولًا الدول الأعضاء في المجلس اتخاذ "جميع التدابير اللازمة لضمان نفاذه وتأثيره". وفي أثناء ذلك، تشكل تحالف دولي بلغ تعداده أكثر من ثلاثين دولة بقيادة الولايات المتحدة، واكتسب "شرعيته" الدولية بعد اعتماد مجلس الأمن قراره رقم (678) يومًا 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 1990، والقاضي باستخدام "كل الوسائل اللازمة"- بما فيها استعمال القوة العسكرية ضد العراق- ما لم يسحب قواته من الكويت، وحدد القرار يوم 15 يناير/ كانون الثاني 1991 موعدا نهائيا لذلك الانسحاب. لم يبال العراق بالحشد الدولي ولا بالموعد المقرر لانسحابه، وقبيل انتهاء المهلة المحددة لذلك التقى وزير خارجيته طارق عزيز مع وزير الخارجية الأميركي جيمس بيكر في جنيف يوم 9 يناير 1991 في محاولة أخيرة لـ"إقناع" العراق بالانسحاب، ولكن لم ينتج شيء عن هذا اللقاء. فانتهت فترة الإنذار الدولي يوم 15 يناير 1991 ولم تستجب بغداد للمطالبة الأممية بخروج قواتها من الكويت.

 

خلال فترة الإنذار، علمت من مسؤول التحرير عن الطبعة الدولية هاني العلاق أن رئيس التحرير حميد سعيد سافر إلى بغداد بعد أن نسق مع السفارة العراقية تسديد كل مديونيات المتعاملين مع الجريدة، وسمح له بالبقاء في المملكة المتحدة حتى تصفية كل متعلقات الجريدة. ثم تلقيت مكالمة من السفارة العراقية قبل انتهاء فترة الإنذار الدولي تطالبني بالحضور في أسرع وقت، فقد وجهت الحكومة البريطانية إنذارًا إلى البعثة الدبلوماسية العراقية بوجوب مغادرة البلاد، ما يعني إغلاق السفارة العراقية أبوابها في إنجلترا، وفقدان الحصانة الدبلوماسية للعاملين فيها.

 

في اليوم التالي توجهت للقاء السكرتير الأول للسفارة بشرق غرب العاصمة البريطانية بمقره بالسفارة، الذي سلمني خطابًا رسميًا موقع من السفير العراقي وموثق بختم الدولة الرسمي يثبت حقوقي. اعتذر الدبلوماسي الموقر عن عدم إصدار صك بنكي بقيمة الدين نظرا لتجميد حسابات العراق في بنوك العالم، على أمل أن أسافر يومًا لبغداد لصرف مستحقاتي، وهذا ما لم يحدث. وما زلت أحتفظ بالخطاب الرسمي كوثيقة تاريخية. 

 

 

في نفس الوقت كثفت اتصالاتي بالمسؤولين في جريدة القبس الدولية، الصديق والزميل الصحفي وفائي دياب الذي أخبرني انه تلقى تعليمات بتصفية المكتب وإغلاقه، وسيبلغ أصحاب الدار بمطالبتي وتسديد حقوقي. أغلق دياب المكتب والتحق بجريدة الشرق الأوسط مديرًا للتحرير، ليتركها عندما عادت الكويت لأهلها ليعمل نائبًا لرئيس تحرير "الأنباء" الكويتية. ثم تركها بعد أربع سنوات ليؤسس أول مكتب من نوعه في الكويت باسم "نيو نيوز" للخدمات والاستشارات الإعلامية، حتى وافته المنية عن عمر 55 عامًا. وبحثت عن المدير العام أحمد النجدي ومدير المطابع عبد الله برهم وهو فلسطيني يحمل جواز سفر أردني، وكانا قد تشاركا لإنشاء مطبعة تجارية، وبعد شراء الماكينات والمعدات وفي مرحلة التأسيس، حدث الغزو العراقي. وعلمت أنهما سافرا إلى الأردن على أمل إنشاء مطبعة هناك. أما مدير التوزيع فواز عابدين وهو سوري الجنسية فقد كان يفكر في إنشاء مشروع للأطعمة الجاهزة وتوصيل الطلبات للأسر العربية المقيمة. 

 

حاولت الاتصال برئيس التحرير محمد جاسم الصقر ولم أوفق. وحاولت التواصل مع أي من أفراد العوائل المؤسسة للجريدة: الخرافي، الشايع، البحر والنصف، فالجميع لجئوا لسويسرا أو فرنسا وآخرين للمملكة السعودية مع أمير البلاد.. وبدأت استمع لكلمات وردود غريبة تتردد مع كل اتصال "والله يا أخي.. كلنا خسرنا بها الحرب".

 

حتى بعد وضع الحرب أوزارها في الثالث من إبريل/ نيسان 1991، وفرض مجلس الأمن على الحكومة العراقية دفع تعويضات لكل الدول والمؤسسات والمنظمات والأشخاص الذين تضرروا جراء غزو الكويت وفقًا لقراره 687، فلم أحظ بنصيبي.. وأصبحت من المتضررين بلا تعويضات. 

وضاع "المال" يا ولدي...  

تم نسخ الرابط