الثلاثاء 23 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
بوابة روز اليوسف

إنه الناقد المسرحي والأدبي الذي مارس ما تعلمه وعلمه لأجيال من طلابه في كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة، إنه الناقد الكبير أ.د. محمد عناني، والذي رحل عن عالمنا في الثالث من يناير 2023 تاركاً خلفه حزناً وفقداً كبيراً ليلقى وجه ربه الكريم مغفوراً له بإذن الله تعالى، إذ نحتسبه في أرفع مكان عند ربه الرحيم بما ترك من علم ينفع الناس. 

فهو أحد أبرز التجليات المصرية الواضحة للمعنى الجوهري لفكرة الأستاذ المحاضر الجامعي ودوره المجتمعي والمهني والمعرفي، (1939 - 2023). 

 

ولذلك فكلما حضرت في عقله المثقف التحليلي فكرة عبر عنها مرة بكتابة المسرح ومرة القصة ومرة بالشعر، ومرة بالنقد المسرحي، ومرات بالنقد الأدبي المتخصص القائم على المعرفة العميقة بالإنجليزية وآدابها وباللغة العربية وآدابها. 

 

وأ.د. محمد عناني الموسوعي الكبير كان أيضاً واحداً من المترجمين الذين فهموا قيمة المترجم، كقيمة تعادل الكاتب الأصلي للنص، وقد كان يؤمن بأن دور الترجمة يحتاج إلى قدرات إبداعية في ترجمة الأدب والمسرح، وإلى قدرات معرفية ووعي بالإطار المرجعي الحاكم للنص الأصلي ولغته واللغة المنقول إليها، ولذلك فقد راكم أ.د. محمد عناني تاريخاً وعملاً منتظماً في باب الترجمة، حتى استحق عن جدارة لقب شيخ المترجمين العرب. 

 

إنه رمز من رموز الثقافة المصرية والعربية، وقد حقق ذلك عبر التوفر على القراءة والكتابة وإلقاء المحاضرات بالجامعة الأم القاهرة، والمعهد العالي للفنون المسرحية بأكاديمية الفنون، وقد كنت طالباً من طلابه في مرحلة البكالوريوس تمتعت فيها بعلمه الغزير وخلقه رفيع المستوى ودفء إنسانيته، وحرصه على الاقتراب الإنساني من أجيال عديدة لاحقة لجيله، وأمله في أن تصنع الأفضل للثقافة المصرية والعربية. 

 

إنه مفكر مصري ليس لديه مكتب فخم أو منصب كبير يريد حمايته، وليس له أرضاً يريد حراستها. 

 

إنه واضح ممن يقدرون على طرح الأسئلة وإثارة القلق لأنه يحرك الساكن بعلم جديد متجدد على الدوام، وبمعرفة وقدرات كبرى على الانتظام في العمل الجاد لفترات طويلة. 

 

وقد حصد من ذلك نوعاً من العزلة الاجتماعية الاختيارية، وهي عزلة تفرضها طبيعة عمله الجاد، ولكنها تلك العزلة الرائعة والتي نتج عنها مائة وثلاثين كتابا هاما، وجميعها دخلت ذاكرة الثقافة المصرية والعربية وعدد منها قد تماس مع دوائر أكاديمية وثقافية غربية ودولية، إنه هذا النوع من المثقفين الذين يعيشون عزلة الفلاسفة المقتدرين. 

 

وقد كانت دوائر الثقافة المصرية والعربية تطارده بالجوائز والتكريمات المتعددة، ومنها وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى 1986، وجائزة الدولة التقديرية في الآداب 2022، وجائزة الملك عبدالله الدولية في الترجمة عام 2011. 

 

كما قام بأدوار هامة محافظاً على حضوره الدائم داخل قاعة الدرس مع طلابه المتجددين، وإشرافه على مئات الرسائل العلمية ومناقشة المئات الأخرى في العديد من المؤسسات العلمية المصرية، ومن تلك الأدوار دور المنسق العلمي لجامعة القاهرة في مجال الترجمة عن الإنجليزية ولها من (1997 – 2009)، وقد راجع ونقح فيها العديد من المؤلفات ومناهج التدريس بالجامعة. 

 

كما أشرف على سلسلة الأدب المعاصر بالهيئة المصرية العامة للكتاب منذ 1986 : 2003، وهي السلسلة الأهم التي ترجمت روائع الإبداع المصري وأهم أعماله ورموزه إلى اللغة الإنجليزية.

 

وهو الدور الهام الذي يجب أن تستعيده وزارة الثقافة المصرية، كما يجب أن يوجه المركز القومي للترجمة اهتماماً أكثر بالترجمة من العربية إلى اللغات الحية الأخرى، وأبرزها الإنجليزية، كما يتم الترجمة من اللغات الأخرى إلى اللغة العربية، حتى يتسنى لنا المساهمة بالحضور في الثقافة الإنسانية بشكل فاعل، وهو الدور الهام الذي كثيراً ما نادى به أ.د. محمد عناني على مدار مسيرته المهنية. 

 

كما قام بدور مرموق في مجال النقد المسرحي التطبيقي مفعلاً دور مجلة المسرح المصرية عندما ترأس تحريرها عام 1986، ومنح الفرصة لكتاب ونقاد جدد، وكنت واحداً من هؤلاء الذين أنهوا دراستهم الأكاديمية ليجد باباً كبيراً مفتوحاً هو محمد عناني الذي كان يبتهج جداً بنا نحن النقاد الجدد آنذاك في مجلة المسرح. 

 

ثم ساهم في إطلاق مجلة هامة عملت في مجال النقد الثقافي هي مجلة سطور عام 1997، وقد كان المحرر الثقافي لها، والتي ما زالت أعدادها مرجعاً هاماً للمهتمين بالفن والنقد والثقافة في مصر والوطن العربي، وقد كان مبتهجاً أيضاً بمشاركتي النقدية في سطور.  

 

كانت عزلته المنتظمة لا تسمح لمحبيه بهذا التواصل الدائم، وكان بخلقه الحسن ورقة مشاعره يفضلها كمسافة آمنة بينة وبين غلظة سلوك بعض من العاملين في مجال الثقافة والمسرح. 

 

ولذلك فلم يدخل معارك صغيرة من أجل أن تقدم له مسرحية هنا أو هناك في مسرح الدولة. 

 

لكنه يبقى في ذكرة المسرح المصري المعاصر إذ أذكر أنه قد حظت مسرحيته الغازية والدرويش بنجاح جماهيري في مسرح السلام بالقصر العيني، وكذلك حققت مسرحيته الغربان اهتماماً نقدياً ملحوظاً، وظلت مسرحية السجين والسجان هي المسرحية الأكثر حضواً في قاعات الدرس بأقسام التمثيل والإخراج في مصر والوطن العربي. 

 

كان د. محمد عناني فقيهاً في اللغة العربية الفصحى، وقد حرص على ترجمة أعمال وليم شكسبير شعراً فصيحاً بليغاً. 

 

وهو صاحب الإرادة الثقافية التي تحتاج لمجموعات عمل، اختار هو أن يتحول بها إلى مؤسسة ثقافية متفردة، فقد أقدم بمفرده على ترجمة الفردوس المفقود لجون ميلتون على سبيل المثال إلى اللغة العربية. 

 

إنه المصري المتفرد الذي أنجز رسالته للماجستير في جامعة لندن 1970 ورسالته للدكتوراة في جامعة ريدنج البريطانية 1970. 

 

وعاد لمصر وللجامعة الأم جامعة القاهرة، ليشرق أستاذاً عظيماً بعلمه وخلقه وإنسانيته على أجيال عديدة، وليقدم نموذجاً رائعاً للمثقف المصري الاختصاصي عندما يتفاعل مع الأدوار الثقافية والنقدية والإبداعية المتعددة، ليعيش في ذاكرة الأمة المصرية ويصبح رمزاً كبيراً نادراً في مصر والوطن العربي، دون أن يكون له منصباً كبيراً يقاتل من أجله ودون أن يكون له أرضاً يعيش ليحرسها. 

 

عزلة الملوك الفلاسفة نوع نادر جداً من المثقفين المصريين والعرب، أ.د. محمد عناني رحمة واسعة ومغفرة.    

 

 

تم نسخ الرابط