الثلاثاء 23 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
بوابة روز اليوسف

للكاتب الإنجليزي وليام شكسبير مقولة "عندما تأتي المشاكل فإنها لا تأتي وحدها كالجواسيس… بل جماعات كالجيوش". وأكد أبو الطيب المتنبي: ".. وهي لا تأتي فرادى".

وهو معنى المثل الإنجليزي Misfortune never comes singly it comes in waves. وقد آمنت في حياتي بأنه لا يصاب أحد إلا بما رسمه الله له. لم أقنط أو أيأس، فأنا عملت العمل الحسن، باستقامة وحسن نية. 

 

حوادث الدهر تتوالى مثل ورد الربيع وثمر الخريف. كل ما يحدث حدوثه واجب. مهما أصابني فهو مكتوب لي منذ الأزل، ويحدث تبعًا لنواميس الكون. وكما قال الكاتب المسرحي والشاعر الإسباني ميجل دي سرفانتيس، مؤلف الرواية الشهيرة "دون كيشوت": البلايا لا تأتي فرادى. الزمان يصلح كل شيء. قلبي لين كالشمع، ولكنه شديد الاحتمال كالصخر.

 

واجهت المشاكل المتتالية، لم تكن الخسائر المادية بعد توقف جريدتي "القبس" و"الثورة" أصعبها، بل كانت مواجهة النقابات العمالية. 

 

كان يحكم صناعة الطباعة ثلاث نقابات "The National Graphical Association  "NGA وهي النقابة الوطنية لكل العاملين فى الطباعة بالمملكة المتحدة، ونقابة Society of Lithographic Artists, Designers and Engravers "SLADE" للفنانين العاملين في المجال الطباعي من رسامين و مصممي جرافيك ومصممي القوالب الطباعية وفناني "مونتاج الأفلام"، والعاملين على أجهزة فصل الألوان والتصوير الميكانيكي، ونقابة"SOGAT" Society of Graphical and Allied Trades للعاملين في صناعة الورق والتجليد وهي النقابة الطباعية الوحيدة التي تضم قسمًا للمرأة العاملة في تجليد الكتب والمطبوعات والتعبئة، وهو الاتحاد النسائي الوحيد المستقل في هذه الصناعة. 

 

في السبعينيات والثمانينيات، كانت نقابات الطباعة ضمن نقابات عمالية أخرى مستهدفة من قبل سياسيي حزب المحافظين والصحافة اليمينية كجزء من حملتهم لنزع القوى العمالية، فتعرضت النقابات الطباعية للهجوم بسبب سعيها لتوسيع نشاطها وهيمنتها وفرض سيطرتها. 

 

وجاءت مارجريت تاتشر كرئيسة وزراء لترأس الحكومة البريطانية، وتواجه بإضراب قام به عمال مناجم الفحم احتجاجًا على قرارات بإغلاق المناجم، استمر 4 أشهر. 

 

رأى البعض أن تاتشر استطاعت أن تقف بحزم ضد العمال الذين وصفتهم بأنهم الأعداء في الداخل، برفضها التفاوض، إلى أن اضطر العمال في النهاية إلى إنهاء الإضراب. 

 

بينما رأى البعض الآخر أن موقف تاتشر قد أضعف نقابة العمال، التي كانت تتمتع بقوة كبيرة، وأهانت ذكاء وكرامة الطبقة العمالية عندما قررت تجريم الاحتجاج عن طريق الإضراب. 

 

ورأى المعارضون لتاتشر أنها تمكنت من تحويل نظام ديمقراطي يتمتع بنظام اجتماعي متقدم وحركة عمالية قوية إلى نظام فاشيّ، خلال سنوات قليلة، استخدمت فيها كل أساليب الفاشية للضغط على العمال. 

 

دعمت تاتشر القطاع الخاص والملكية الخاصة، فتحالفت مع العقيدة الأمريكية فى ذلك الخصوص، فكانت تلك الفترة التي شهدت وجود تاتشر وريجان، وبداية التعاون الوثيق بين الدولتين.  

 

اعتمدت سياسات مارجريت تاتشر على تحرير السوق وتحرير الاقتصاد، بالإضافة إلى خصخصة شركات القطاع العام، والتقليل من نفوذ النقابات وقوتها. 

 

وفي المجمل يقول البريطانيون عن عهدها، إنه كان عهد الرأسمالية الحرة والاقتصاد الحر. ووقفت ضد الاتحاد السوفيتي سياسيًا واقتصاديًا، حتى حصلت من الصحافة السوفيتية نفسها على لقبها الأشهر «المرأة الحديدية». 

 

وفي سعيها لفرض سيطرتها على مجريات الأمور، قامت تاتشر بسحق النقابات العمالية التي قادت مجموعة من الإضرابات العمالية استمرت لما يقرب من عام، واستخدمت قوات مكافحة الشغب في مواجهة عمال المناجم، ورفضت الرضوخ لمطالبهم. 

 

لعب الأسترالي روبرت مردوخ، قطب الإعلام العالمي، دورًا في تعضيد ومساعدة تاتشر في معركتها مع النقابات، وقد ورث عن والده في أستراليا عام 1952 شركة "نيوز ليمتد" التي كانت تضم صحيفتين، وهيمن على عدد من الصحف في أستراليا ونيوزيلندا عام 1960. وانتقل إلى بريطانيا عام 1969 حيث عمل في صحيفة "ديلي إكسبريس" في لندن، ثم اشترى صحيفتي "نيوز أوف ذو وورلد وThe Sun وحولها إلى صحيفة تابلويد، حيث وصلت مبيعاتها إلى 3 ملايين نسخة يوميًا، وركز فيهما على مواضيع الإثارة، فقد استطاع خلال خمسين عامًا أن يحول صحيفة أسترالية واحدة الى شركة نيوز كورب التي تعد واحدة من أكثر الإمبراطوريات الإعلامية قوة ونفوذا في العالم. في حين تبلغ ثروته أكثر 7.7 مليار دولار، مما وضعه في المرتبة 32 بين أغنياء العالم، ولعب دورًا كبيرًا في تعضيد تاتشر ودعمها في مهمتها لإضعاف القوة الطاغية للنقابات العمالية خاصة الطباعية، ومؤيدًا قويًا لها، وفي المقابل ساعدته هي في الاستحواذ على الصحافة البريطانية، وكانت النقلة الكبرى له ضمن سيطرته على الرأي العام البريطاني، كانت مع مرور مجموعة صحف The Times وهي أعرق الصحف البريطانية بأزمة مالية حادة، وأعرض المستثمرون عن إنقاذها تخوفًا من الغموض الذي يكتنف مستقبلها بعد تراجع مبيعاتها بشكل ملحوظ، ووقوع مشاكل مع عمال الطباعة والنقابات. 

 

إلا أن هذه المخاوف لم تمنع مردوخ من التركيز على المجموعة، لما تمثله من أهمية في عالم الصحافة وثقل في دنيا السياسة، ويبدو أنه كان قد حضّر خطة جديدة لتحويل خسارتها إلى أرباح، فخاض- في سبيل ذلك- معارك استخدم فيها أسلحته كافة، حتى حظي بتأييد رئيسة الوزراء البريطانية آنذاك مارجريت تاتشر التي وافقت له- بصفة استثنائية- على شراء المجموعة، بالرغم من أن قانون الاحتكارات البريطاني يمنع هيمنة شخص واحد على كل هذا العدد من الصحف، ومع ذلك يسيطر مردوخ على 40% من الصحافة البريطانية. 

 

كما قلص مردوخ عدد العاملين في مجموعة The Times، وواجه نقابة عمال الطباعة بحركة استفزازية، حيث قام بطرد آلاف العمال دون سابق إنذار، متنكرًا بذلك لبعض الأفكار اليسارية التي أُعجب بها في مطلع الخمسينيات وأشاد بها كثيرا، لكنه على غير المعتاد حافظ على الطابع المحافظ للصحيفة وملحقاتها. 

 

في عام 1986، هز مردوخ تكنولوجيا طباعة الصحف في العالم عندما أسس عمليات إنتاج إلكترونية في صحفه في أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة. وزاد الكفاءة والسرعة، وفي الوقت نفسه، خفض عددًا كبيرًا من موظفي وعمال الإنتاج. 

 

وفي بريطانيا، أثارت هذه الخطوة غضب نقابات عمال الطباعة وحلفائهم في نقابات أخرى. وأدت إلى نزاع عنيف في قلعته الإعلامية المطلة على ميناء لندن، حيث بنى مردوخ دار نشر إلكترونية في مستودع قديم. وكان أن فصل أكثر من 6000 عامل وموظف، وقال في اعتزاز: «آسف، سبقتهم التكنولوجيا وهم نيام».

 

في ذلك الوقت، قال كثير من اليساريين البريطانيين إن حكومة حزب المحافظين بقيادة مارجريت تاتشر، تواطأت مع مردوخ ضد النقابات العمالية البريطانية "مثل إرسال أعداد كبيرة من الشرطة لمواجهة المظاهرات، واعتقال قادتها". 

 

بعد الهجوم الناجح على نقابات الطباعة، اندمجت SLADE مع NGA بقيادة شركة الأخبار الدولية برئاسة مردوخ في عام 1986.

 

شاهدت بنفسي آلافًا من فرق الشرطة الإنجليزية، بكل فروعها من الفرق الوطنية والأمنية والعسكرية والدفاعية والجنائية وفرق مكافحة الشغب والخيالة، والشرطة النسائية، بكل رتبهم المشاركين في العملية الأمنية والحراسة اليومية التي كلفت مردوخ وقتها الكثير وتخطت 100 ألف جنيه استرليني يوميا، وتستمر من الصباح حتى الانتهاء من طباعة صحفه في نحو الثامنة من مساء كل يوم. 

 

كانت فروع النقابات الطباعية في لندن الأقوى في بريطانيا لهذا تخلت المطابع عن تواجدها في العاصمة البريطانية وانتقلت لخارجها وتبعثرت في مدن ومقاطعات إنجليزية في مناطق القوى النقابية فيها أقل شراسة من مثيلتها في لندن. 

 

ولم يتبق في العاصمة إلا مطابع مردوخ ومطبعتي. فعانيت من النقابات الطباعية رغم أني التزمت بكل شروطهم بداية من عدد العاملين وأجورهم وساعات عملهم، وكانت نقابة NGA تشترط عدد العاملين على الوحدات الطباعية لكل ماكينة، وهو عدد مبالغ فيه، وهم غير مسموح لهم بالتعامل مع الورق، فتغذية الماكينة ومناولة ورق الطباعة، واستلام المنتج المطبوع مسؤولية SOGAT نقابة الورق والتجليد، وما أكثر المعارك الكلامية والاشتباكات اللفظية بين حزبي النقابتين. 

 

المشاكل تبدأ ليلًا عندما ينفض مولد مردوخ والعسكر، بانتقال بعض المضربين والمحتجين المتجمعين أمام مطابع مجموعة صحف The Times إلى الحضور ومحاصرة مبنى مودي جرافيك، وهو على بعد كيلومترات قليلة من إمبراطورية مردوخ، في محاولة لعدم الخروج أو الدخول للمبنى. 

 

لم يكن لي السلطة أو الإمكانيات المادية لمنافسة الإمبراطور في تسديد "فاتورة" الشرطة البريطانية لحراسة المكان، ومنع أي اعتداءات أو ضرر، وداخل المبنى تبدأ مع الحصار والمناوشات الاستفزازية، بمحاولة جذبي لمشاكل يختلقونها. فمسؤولو الورق يرفضون أخذ تعليمات من معلمي الطباعة الذين تأخذهم الكرامة ويوقفون العمل، وتقف الماكينات، ويحاول مدير المطابع "دافيد ديلنجر" حل المشكلة وإعادة تدوير عجلة الإنتاج ويفشل بالطبع، فالمطلوب تدخلي بغرض إيقاعي في المحظور واتخاذ قرار يغضب أحد الأطراف فتشتعل المشكلة، وتكون فرصة لإضراب لا يحمد عقباه. 

 

واذا انتقلنا للطابق الثاني من المبنى بقسم التجليد، وبه ماكينة موللر مارتيني Muller Martini لتجميع الملازم والطي وغيرها من مراحل لإخراج المطبوعة بالشكل الجمالي المعد للقراءة، ويتحكم في تشغيلها نساء ورجال يعملون تحت توجيه ونظام عمل وضع قوانينه نقابة SOGAT، لوجدنا معركة أخرى أبدعها فريق النساء من أعضاء النقابة، أشبه بالمواقف الكوميدية في المسرحيات المصرية، ذكرتني بأشهر فرسان الثقافة، الكاتب والمفكر المناضل صاحب المواقف لطفي الخولي، ومسرحيته "القضية" وهي أشهر ما قدم للمتفرج المصري، مسرحية عرضها مسرحنا القومي في الستينيات، وما زالت إحدى جملها تتردد على ألسنة الجمهور يلخص فيها التناقضات الفكرية والسياسية في المجتمع "أفتح الشباك والا أقفل الشباك". 

 

وفي حكايتنا هذه الجملة لم تكن إسقاطًا على التناقضات بين النقابات وأصحاب الأعمال بل قصة حقيقية حدثت، فنساء نقابة التجليد مستاءات من حرارة جو صالة الطوي والتجليد، ففتحوا النوافذ، ما أغضب الرجال الذين أصروا على إغلاق النوافذ حرصًا على برودة الهواء النافذ للصالة، وبالطبع استغرق هذا الجدال ساعات لإعادة الوضع إلى ما هو عليه، أثرت على مواعيد تسليم المطبوعات.  

 

الموقفان يمثلان التناقض فيما آلت إليه النقابات العمالية، والتعنت الذي أضر بأعضاء النقابة أكثر مما أفاد، وأدى في النهاية لإغلاقها. 

 

مثل هذه المواقف علمتني الاحتفاظ بهدوئي وبغير اضطراب، والقدرة على مواجهة المشاكل لا الهروب منها، فلو هرب الإنسان من المشاكل لكانت الكرة الأرضية مهجورة. 

 

واجهت النقابات بالهدوء والحوار المنطقي، ما أسعدني وأثلج روحي أنني لم أشعر بأي تعصب عنصري أو تمييز عرقي في مواجهتي كأجنبي. كان الحوار احترافيا رغم الجدل الذي غلف الحوار، ولغة الصراعات والخلافات التي يجيدها أعضاء النقابات الطباعية وقتها، لكن الحوار البناء والتعرف على وجهات النظر وشرح الحجة وتوضيح الرأي، والعمل على إقناع الطرف الآخر حقق نتائج خففت الضغوط النقابية على مشروعي، وساعدتني على الاستمرار وتسجيل تجربتي في إنشاء مطبعة في قلب لندن، ونجاحي في استقطاب النقابات الطباعية إلى جانبي، قصة حكيت في كتاب A History of the Society of Graphical and Allied Trades نشر عام 1990 كتبه Peter Bain , John Gennard. 

 

التغيير وانعكاس التحول الكبير في الموقف النقابي من مطبعتي في قلب العاصمة البريطانية أثمر عن عرض مغرٍ لم أستطع مقاومته!؟

 

وللحديث بقية..

 

 

تم نسخ الرابط