في ضجة وثرثرة الأيام المكررة وإعادة إنتاج ألعاب ارتداء الأقنعة اليومية، وندرة ذلك الدفء العاطفي، ذهبت أبحث عن لقاء، فقالت له تلميذته التي تقدره جدٍا، لقد رحل عليه رحمة الله.
لم أعرف فقد كنت منشغلٍا بكثير من التفاصيل اليومية، فقلت: كيف يمر دون وداع مني، وتعزية لمصر والمصريين أسرته الصغيرة والكبيرة معٍا؟ ولأنني كنت أراه قامة كبرى في مجال النقد المتخصص المرجعي.. في باب النقد الفني، فقد استدركت هذا التأخير غير المتعمد، فقد رحل مع رحيل ديسمبر في العام الراحل 2022، قطب من أقطاب العلم والدين والإبداع.
إنه الطبيب النفسي الذي أحب الإبداع والفلسفة والكتابة، إنه أ. د يحيى الرخاوي أستاذ علم النفس بطب القصر العيني (1933: 2022) رحل ورحيله يمثل لي ألمٍا خاصٍا جدٍا لأنه الطبيب المصري النادر الذي يعالج برفع الضرر، كان الرخاوي عبقريا مصريا يتطوع للدفاع عن هؤلاء الذين لم يقعوا في أسر الهزيمة النفسية، برفع الضغط الواقعي وكان يستخدم في ذلك علاقاته الشخصية واتصالاته وأمواله وما حباه الله من نفوذ ناتج عن ثقة المجتمع والدولة فيه. وهي طريقة خاصة جدٍا لا يقدر عليها إلا الكبار حقٍا. هؤلاء الذين يهتمون بأن يصبح الناس في بلادنا أفضل ولا يعنيهم أولٍا أرصدتهم في البنوك. كان الرخاوي عالمٍا فيلسوفٍا مبدعٍا وناقدٍا أدبيٍا من طراز فريد وربما كان د. الرخاوي هو أهم من مارس الكتابة النقدية من مرجعية علم النفس، وله فيها كُتب عن نجيب محفوظ هي تفرد نقدي يتوازى مع تفرد نجيب محفوظ الإبداعي، وإن فعل الرخاوي ذلك بكل تواضع، فقد جمع بين صحبته الشخصية للأستاذ نجيب محفوظ، وأصدر عن جمعية الطب النفسي التطوري كتاب في شرف صحبة نجيب محفوظ، وبين الكتابة الموضوعية عن إبداعه الأدبي. وقد كان الرخاوي مهتمٍا بالوعي الإنساني من خلال العودة للنقد الأدبي، وله في نجيب محفوظ دراسة حالة فهو مولع به كقارئ ومولع بعالمه الشخصي، وبشكل عام يمكن لمن يتأمل كتابه قراءة في مستويات وجدل الوعي البشري من خلال النقد الأدبي أن يدرك ذلك الاهتمام الجوهري في عمل الرخاوي في الجمع بين الإبداع والأدب والنقد من منظور علم النفس كطريق كبير لفهم النفس البشرية. وقد اختص محفوظ أيضٍا بكتابة قراءات في نجيب محفوظ، وكتاب دراسات نقدية في نجيب محفوظ، وكتاب أصداء الأصداء تقاسيم على أصداء السيرة الذاتية. وهذا ويمكن العودة لتفسير الرخاوي لأحلام فترة النقاهة للمبدع نجيب محفوظ، وقد اعتمدت عليه اعتمادٍا كبيرٍا عن كتابتي وإخراجي لمسرحية سحر الأحلام التي تم عرضها 2019 على مسرح البالون، وهي مستلهمة من أحلام فترة النقاهة. وهي في تفسيره النقدي لأحلام فترة نقاهة نجيب محفوظ تستند إلى اهتمام علمي من علم النفس يعاود الرخاوي من حين لآخر، ويمكن رؤيته بوضوح في كتابه الحلم والإبداع. هذا وعندما كتب الرخاوي سيرته الذاتية بطلب من مؤسسة ثقافية كبرى رشحته لواحدة من الجوائز الهامة علق على سيرته بتواضع الكبار قائلٍا: "إن ما يقوله الناس مختصين وعامة هو الأتقى من كل الأفعال والإنجازات التي يحصيها الإنسان عن نفسه "وقد كان الرخاوي داعمٍا حقيقيٍا لكل القيم الجميلة مدافعٍا في الخفاء عن أنبل القيم الإنسانية، داعمٍا للبسطاء وللبشر المضارين من شراسة الحياة. وقد كان مؤمنٍا مسلمٍا متدينٍا، وكان يرى الدين منظومة هامة لدعم الوجدان ولضبط السلوك، لا غنى عنها للإنسان بالعلم والمعرفة. وفي ذات الوقت كان يرفض تلك التفسيرات العلمية البحتة للنص القرآني المقدس. فقد كان الرخاوي يرى أن مؤسسات التجارة ومراكز السلطة الدولية قد قلصت الوعي البشري في عالمنا المعاصر، إذ إن المخ الرمزي الواقعي الساعي للمصلحة المادية المباشرة هو المخ النشط في حياتنا اليومية، أما باقي مراكز المخ البشري خاصة تلك المختصة بالعاطفة والقيم والانسجام مع العالم فمعظمهما معطل، سعيٍا وراء رغبة هذا المخ الواقعي في المال والقوة ورغبات الجسد وشهوات الذات. وربما تأخذنا تلك الرؤية لعالم خاص من عوالم الرخاوي، إذ ربما كان متصوفٍا من أهل السنة والجماعة، وذلك عبر رصد اهتمامه بعالم المتصوفة، وفي كتابه الهام عن محمد بن عبد الجبار بن حسن النفري، الملقب بالنفري الذي عاش في القرن العاشر بين مصر والعراق في عهد الدولة العباسية، وللرخاوي في النفري قراءة هامة معاصرة هي كتابه مواقف النفري بين التفسير والاستلهام. وله في النقد الأدبي نص إبداعي نقدي هو رباعيات ورباعيات دراسة لصلاح جاهين وعمر الخيام ونجيب سرور. وله في باب النقد الفني أيضٍا دراسة ملهمة هي كتابة تبادل الأقنعة دراسة في سيكولوجية النقد. جدير بالذكر أن سطوري المتواضعة عن المفكر الكبير د. يحيى الرخاوي هي تذكرة لأهل الإبداع والنقد ولكليات الآداب ولأكاديمية الفنون وللنقاد المختصين، بأن يحيى الرخاوي علم من علماء النقد، ويجب الانتباه لتدريسه لدارسي الفنون والنقد الأدبي والفني في مصر، لأن معظم كتبه، خاصة ذات الصلة بالإبداع، تحظى بتقدير كبير لدى الدوائر الأكاديمية الغربية. وقد كان رحمه الله رحمة واسعة يستشعر قصور المنهج في علم النفس، ونادرٍا ما كان يعالج مرضاه بالأدوية، كان يعالجهم بتعزيز قدراتهم على المقاومة والانتصار. وله في باب تعظيم دور الوجدان اهتمام كبير، في إطار فهمه العام لنظرية العلم المعرفي المعاصر والتي تهتم بمجالات وتجليات عديدة للعلم البشري، وتضع الدين في موضع هام من نظرية العلم المعرفي، وكذلك تضع الإبداع في موضع هام، إذ كان الرخاوي يرى الإبداع الفني تجربة في الكشف الروحي العميق وتأمل في الذات والحياة، تقوم على مجاهدة ومكاشفة لأفعال الوعي بالوجود المتميز. وقد كان يؤمن بأن ما يقف خلف الإيمان العميق والإبداع العبقري هي خبرة معاشة غير قابلة للكتابة. وقد جاهد في هذا الباب الإبداعي وحصل على جائزة الدولة في الرواية الطويلة، وهي جائزة في الأدب عن روايته المشي على الصراط، وهي رواية من جزءين الأول بعنوان الواقعة والثاني بعنوان مدرسة العراة. كما حاول كتابة الشعر، وله عدد من الكتابات الشعرية النادرة، وهي كتابات تفهم قواعد الشعر العربي بشكل واضح. كان طبيبٍا بتكوين مبدع فنان، والمبدع يصعب عليه التكيف بطبيعة تكوينه، ولم يكن الرخاوي الذي عرفته متكيفٍا أبدٍا، كان دائم الرغبة في تحسين وجه الحياة للأفضل والأجمل، وكان معنيٍا بالبشر والشأن العام في مصر أكثر من عنايته بالشأن الخاص للرخاوي ومكاسبه الخاصة كطبيب ممارس محترف. إنه عميد الطب النفسي في مصر صاحب الرؤية الثقافية الخاصة التي أسماها ضرورة التكامل والتناغم مع مكونات الحياة بعيدٍا عن الاهتمام بالقوة والمال وإشباع الغرائز، مشيرٍا إلى ضرورة تعزيز التناغم والوحدة والانسجام الثقافي المصري، محذرٍا من التفكك الثقافي كأحد أخطر التهديدات للأفراد وللمؤسسات وللمجتمع في مصر. رحم الله المبدع العالم المؤمن المستنير الطبيب أ.د؟ يحيى الرخاوي رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.



