تمضي الحياة من المهد إلى اللحد على نسق مستقر لبعض الناس، تسلمه كل مرحلة إلى تاليتها دون ضجيج ولا مفاجآت ولا مشكلات، وآخرون تمتلئ آفاقهم بالأعاصير، وتواجههم في رحلة الحياة “تحويلات” ومنعطفات مفاجئة، فتمضي حياتهم كفيلم دراميٍ تتلاحق أحداثه فتحبس أنفاس المحيطين.
وتمر الأيام وتعقبها السنين وتلاحقنا التجارب وتعقبها الخبرة.. تعلمت ألا أيأس، فنهاية الفشل حتمًا النجاح إذا وجد الإصرار والعزيمة، وتمر أقدار الحياة ثقيلة، فنظن أننا سوف نهلك بعدها، فإذا بلطف الله يفتح الأبواب، ليذيقنا سعة الحياة ورغدها. الله لا يخذل المجتهدين ولا ينسى الصادقين.
في غربتي الأولى بلبنان، حكيت قصتي مع الغساسنة.. منها جذور عائلة سعيد فريحة، ومحاولات الابن بسام فريحة لضمي لأسرة "دار الصياد"، ودعوته لدخول بيت العائلة لألتقي الكبير الأب سعيد فريحة، والأم حسيبة كوخي والابنة إلهام فريحة وأخاها عصام رئيس تحرير جريدة الأنوار، وإعادة محاولة بسام، رجل الأعمال الماهر والمراوغ والمثابر، في إقناعي بالعمل معهم بشروطه التي وضعها، والتي لم تكن مناسبة أو عادلة، فبقيت العلاقة في حيز الصداقة.
وتدور الأيام وفي غربتي الثانية بالعاصمة البريطانية، ألتقي أنا وبسام، هذه المرة لست كواحد من العاملين، بل كمقدم خبرة وخدمات للدار العريقة.
فمع الحرب الأهلية التي عصفت بلبنان، لم يكن نصيب دار الصيّاد بأقل مما أصاب الكل. دفعت الدار الضريبة التي فرضها القدر على البلد فكانت فادحة ومرهقة وخطيرة. فقد فُجعت الدار بفقدان رفيقين سقطا صريعي إيمانهما بعملهما وقضيتهما الوطنية، هما نبيل حسن وكميل الحسنية، شهيدا الصحافة. وتعرضت مكاتب الدار والمستودعات والأبنية لإصابات متعددة وحرائق دائمة، وأضرار مادية تخطت الثلاثة ملايين ليرة لبنانية. ومع ذلك ظل النبض حيًا في هذه المؤسسة، واستمرت الأنوار والصياد والشبكة وسمر في الصدور بفضل الروح النبيلة والفدائية التي تجلّت في نفوس المحررين، والإدارة الحكيمة للابنة إلهام فريحة. أما بسام فريحة العائش في ترحاله من بلد إلى بلد ومن قارة إلى قارة، ومن وطنه إلى كل الدنيا، فلم يتخل في أسفاره العديدة عن عمق صحافة أبيه في الحازمية، وإنما كان يطل من سنوات الحرب في البلد الحبيب لبنان ليعطي هذه المنارة جهده وخبرته، لتطوير الإنتاج والإدارة، لنجاح مطبوعات الدار وإصداراتها.
ولكي يبقى بسام فريحه قريبًا من صياد أبيه، ومتناغمًا في أحلامه مع فكرة توسيع وتطوير الإمبراطورية الصحفية، مزج بين الداخل والخارج، أي ارتأى أولًا أن تنقل مجلة الصياد إلى لندن وتتابع صدورها من هناك مع تجهيزات جديدة، وأقلام جديدة، وطباعة فنية وإخراجية متقنة.
كان لقائي مع بسام فريحة بعد غيبة في منزله بمنطقة بيلجرافيا بقطاع لندن الفاخر، الحي الراقي الذي يفضله أثرياء العرب وينافسهم الروس واليابانيون لقربه من "هارودز" أهم مناطق التسوق في لندن، وحديقة هايدبارك والتي تزيد أسعار العقارات فيها على خمسة عشر مليون جنيه استرليني، وبمعدل زيادة سنوية لا تقل عن 17%. لفت نظري مع بداية الطابق الأرضي من البناية بطوابقها الثلاث، لوحات زيتية وأعمالًا فنية للمستشرقين الفرنسيين والبلجيكيين والإيطاليين. لاحظ بسام اهتمامي بمقتنياته التي استغرق جمعها سنين طويلة، فأخذني في جولة لمشاهدة خمسين لوحة من القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وقعها فنانون عالميون من مدارس مختلفة. هناك المدرسة الفرنسية والمدرسة الإيطالية والمدرسة الإنجليزية والمدرسة البلجيكية والمدرسة الإسبانية والمدرسة الروسية والمدرسة الأميركية.. رسامون تنقلوا في مختلف أنحاء العالم العربي ورسموا بشكل خاص المرأة التي كانت محور المجتمع في تلك المرحلة. رسم فيها الفرنسيون الحياة في مصر والجزائر وشمال إفريقيا عمومًا، منها لوحات الإيطالي فابيو فابي الذي عاش بين العامين 1861 و1946 وهي تصور جانبًا من الحياة في مصر أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، حياة تدور حول المرأة في حالات مختلفة تبدأ بالجلسات النسائية على الشرفة وتنتهي بالمشاركة في الأعراس... مرورًا بالرقص في الشارع العام في القاهرة. عالم لا علاقة له بعالم اليوم نقله رسامون أوروبيون استطاعوا أن يكوّنوا صورة عن المجتمع العربي في مرحلة معينة كان فيها الشرق والغرب على تواصل.. والنساء في مجتمع أكثر تحررًا وانفتاحًا وأقل تعقيدًا. تكفي تلك الصورة لامرأة عربية سافرة تعزف على آلة موسيقية رسمها الروسي فينسان ستيبيفيتش الذي عاش بين العامين 1841 و1910 للدلالة على مدى الهوة التي تفصل بين الأمس واليوم. مرحلة نفتقدها في أيامنا هذه.
ومع فنجان من القهوة، ووسط مقتنياته بحسها المرهف الذي محوره المرأة، وبمودة وتهذيب اتصف بهما بسام، لا تخرج من فمه كلمة غير لائقة، فاستحق الاحترام دائمًا وأبدًا، حدثني عن لوحاته بدراية تامة بتاريخ فنون المستشرقين في القرن 19 بين توثيق تراث الشرق وسحر قصص ألف ليلة وليلة، وكيف رسم الفن الغربي صورة نمطية للعالم العربي. وبلغت حركة الاستشراق ذروتها مع بداية انفراط عقد الإمبراطورية العثمانية وتنامي التطلعات الاستعمارية البريطانية والفرنسية في العالم العربي، وتركيز المستشرقين على إبراز المشرق كعالم خيالي رجعي غارق في المتع والملذات قد يسوغ الأفكار الاستغلالية والشهوانية التي انتشرت في أوروبا لقرون عن طبيعة الحياة في المشرق.
فاجأني بسام فريحة وأدهشني بأمرين، أولهما أن كثيرًا من اللوحات مصدرها مصر. فعند التأميم في بداية حكم الرئيس جمال عبد الناصر، ومع صعوبة التحويلات وخروج الأموال، لجاء فريحة وكان صديقًا وتلميذا نجيبًا للأستاذ مصطفى أمين وصديقًا شخصيا للرئيس عبد الناصر، وكانت دار الصياد هي المُعبرة عن آراء عبد الناصر، وإذا أراد أن يعلن شيئًا كان يعطي صحفها أولوية النشر. وقتها كان أنور الجمل المستشار الصحفي للسفارة المصرية في بيروت هو "همزة الوصل". بعد التأميم اقتني فريحة بماله عددًا من اللوحات والأعمال الفنية، خرجت وصُدِّرت للبنان، إلى جانب مقتنيات من المزادات في باريس ولندن، اهتم بها وحفظها بسام لتصل إلى خمسين لوحة وعمل فني، تمثل متحفًا في حد ذاته.
الأمر الثاني الذي توقفت عنده، وحمدت الله عليه أن يلجأ إلى بسام فريحة لطباعة "الصياد" في مطابعي المجهزة لطباعة الألوان بتقنية "أوفست ويب" على ماكينة هاريس Harris كنت قد اشتريتها من مدينة "مالمو" السويدية من مطبعة أغلقت أبوابها.
ولأن الله لا يخذل المجتهدين ولا ينسى الصادقين تم الاتفاق مع بسام فريحة. وحسب أمثال جدتي "ربك لما يريد يخلي الهوا يهد الحديد" وعادت الصياد التي بناها سعيد فريحة بعرق الجبين عام 1943، وانطلقت أسبوعيًا بعد توقف لظروف الحرب اللبنانية من مطابعي في لندن.



