الأحد 21 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
بوابة روز اليوسف

وراح يتذكر شقيقات أمه منذ طفولته وشقيقات أبيه الخالات والعمات... مر على كل واحدة تخيل وجومهن أمامه وسط هالات الطرحات السوداء أو الشال المزركش الريفي.. واستطاع تلميع ذاكرته، وذكر في مرة أسماءهن كاملة: خالتي «أم سليمان»، وخالتي أم فوزي»، وخالتي «أم فرج»، وعمتي «أم ناجي»، وتأكد لا توجد واحدة منهن لها اسم سوى اسم ابنها.

 

أحيانًا تظهر له باريس وجهها الآخر، وجهها الرسمي الذي يكرهه، استلم بطاقة من مصلحة الهجرة تطلب مثوله في موعد محدد، استيقظ هذا الصباح مبكرًا ليحضر في الموعد، بالرغم من صعوبة المواصلات في أنفاق تحت الأرض، والطابور الطويل خارج بوابة المبنى العتيق أو القصر القديم الذي له شروط، كما دخول المطار والطائرة.

 

حزام أمن حولنا وتفتيش الحقائب في الجهاز الإلكتروني بالعدسات الفاحصة، وظهور الصورة على شاشة التليفزيون.. رجال البوليس المسلمون وتقديم الورقة وعليها الموعد والتأكد من تحقيق الشخصية وأن الوجه يطابق الصورة الفوتوماتون، سألته السيدة الفرنسية العجوز في مكتب تسجيل الإقامة بسؤال غريب جدًا: ما اسم أمك؟ تلعثم... وغضب.. وأراد أن يحطم الزجاج الذي يفصله عنها وأمامها أوراقه، ولا يرد! فأعادت السؤال... ؟؟ ولم يرد... !!

 

وقالت بعصبية: لن أستطيع أن أعطيك حق الإقامة هنا دون أن أعرف اسم الأم! وقال لها لديك يا سيدي اسمي ثلاثي (الأب والجد وجد الجد) وصوري، ولون البشرة والعينين والشعر، وبعدين اسم القرية التي ولدت فيها، وتاريخ الميلاد، وتاريخ الوصول، والمهنة، ورسالات تأييد من بين الفنانين ومدينة الفنون، ورسالة من المستشار الثقافي، وكلمة من كاتب فرنسي مشهور يقدم لي، وفوتوكوني به مقال لناقد عن معرضي الأخير وقيمة العمل الفني وعدة لوحاتي في متحف الفن الحديث في القاهرة، وصورتي مع وزير الثقافة صديقي و«د. أحمد نوار» كل هذا لا يعجبك ولا يكفي... والآن تريدين اسم أمي، هذا مستحيل في قريتي التي ولدت فيها، لا أحد يعرف اسم الأم، أبي بالكاد يعرف اسمها، فهو منذ أنجبنا يناديها بأم جميل أخي الكبير... 

 

- لم أسمع أحدًا في العائلة يناديها باسمها، لا أعرف اسم أمي.

 

عادت السيدة تؤكد حتى يفهم وجهة نظرها قائلة: كل طفل هنا في فرنسا يعرف اسم أمه ويناديها باسمها ويكتب اسمها في كراسة المدرسة وأوراق الالتحاق والإقامة، وفي المحافظة وجواز السفر.. تمامًا مثل اسم الأب. 

 

تعطل الحوار بينهما لمدة ثوانٍ عندما نادوا في الميكروفون أسماء جديدة، أغلبها من العالم الثالث مثله وجاء أسود وأصفر ووردي وأخضر... كل ضيف يطلب الإقامة في باريس، له وجه مختلف ولون مختلف، قامة مختلفة ونسب عالية في الطول أو القصر رقبة طويلة وشفاه غليظة من إفريقيا، بشرة داكنة وشارب أسود وشعر ثقيل يسقط على الجبهة من الهند، شارب كثيف من تركيا، رأس مبطط من الصين والتايلاند، عيون كحيلة واسعة من مصر أو سوريا أو العراق أو لبنان، وقفوا طابورا خلفي ينتظرون أسماء في الميكروفون يعاد نطقها بطريقة خاطئة فالنطق الفرنسي ليس به الهاء ولا الضاد ولا الهمزة، خاصة إذا كان اسم طالب الإقامة له اسم مركب مشترك مع اسم آخر تخرج الألفاظ مضحكة تجعل المنتظرين حولنا- وأنا منهم- نضحك في سرنا أو خلف جريدة أو كتاب. 

 

فمثلًا تنادي السيدة "مسيو أبد الأدي أمزة" وتصحيحه (عبد الهادي حمزة) كما تنادي الصيني "بنج وونج فون" وتصحيحه (ووئج فونج يون)، وتنادي الروماني (كرانها كوسه) وتصحيحه (كريهانا كونا)، وتطلعت نحوي بوجهها الأحمر وعيونها الزرق وشعرها الأشعث وخطوط الوجه تحت العينين وفوق الحاجبين وحول الشفاه القرمزية وتحت الذقن المستدير حتى الرقبة كل هذه الخطوط محيت في لحظة للنطق وهي غاضبة وقالت: تعال مرة أخرى الأسبوع القادم، وهذا هو الموعد وهي فرصة لتستكمل أوراقك، فبالإضافة لنقص خانة البيانات في الورقة تبقى ورقة تخليص الضرائب، ثم عادت السيدة إلى حالة الهدوء وبدت أكثر تعاطفًا وقالت: أليس لك إخوة؟ هل من الممكن أن تتصل بهم وتسألهم؟ ربما يعرفه أحدهم، خاصة أبنها الأكبر. 

 

وجاءته فكرة أن يبرق إلى أخيه الأكبر المهاجر في أمريكا ويكتب في البرقية... هل تذكر اسم أمنا "أم جميل"؟ وراح يتذكر شقيقات أمه منذ طفولته وشقيقات أبيه الخالات والعمات... مر على كل واحدة، تخيل وجوههن أمامه وسط هالات الطرحات السوداء أو الشال المزركش الريفى... واستطاع تلميع ذاكرته وذكر في سيرة أسماءهن كاملة: خالتي «أم سليمان» وخالتي «أم فوزي» وخالتي «أم فرج» وعمتي «أم ناجي»، وتأكد... لا توجد واحدة منهن لها اسم سوى اسم ابنها... هكذا حفظ هذه الأسماء كما هي خاصة أن أولادهن.. أصدقاء طفولته «سليمان» و«فوزي» و«فرج» و«ناجي».. خاصة اسم «فوزي» المحظور في قلوبنا لأنه أحد شهداء حرب 1973.

 

فكر أن يحكي للسيدة الفرنسية خلف مكتب الإقامة الفرنسية التابعة لمحافظة باريس حكاية قدسية الأم في الشرق وعدم ذكر اسمها إلا إذا كانت فتاة لأنها عندما تتزوج تتحلى باسم زوجها ثم عندما تصبح أمًا تتحلى باسم ابنها. 

 

وفي لحظة يأس التقت عيناه بعيون عربية من سوريا فقالت له السيدة السورية.

 

إنني أتذكر اسم أمي من حسن حظي، ولكن المشكلة أنها تطلب مني اسم جدتي... أقصد أم أمي، هل تتصور! ثم مصمصت شفاهها وهدهدت وليدها وقالت: الله يرحمها... ثم أضافت مازحة بلهجتها: بركي ع بتسألني شو اسم الولادة اللي ولدتني؟!

 

 

تم نسخ الرابط