بعد أن بايع الشعراء الشاعر الكبير أحمد شوقي أمير الشعراء عام 1927.
اختار الأمير أن يتوج مسيرته الشعرية الأدبية الحافلة بالكتابة للمسرح فقدم العديد من المسرحيات وهي مصرع كليوباترا، قمبيز، علي بك الكبير، ومن تاريخ العرب عشرة، ومجنون ليلى.
ومسرحيتان اجتماعيتان هما البخيلة والست هدى.
وكعادة العباقرة منح عالم الأطفال أشعارًا رائعة مهتمًا بعلاقتهم بعالم الحيوان.
إلا أن أقرب مسرحياته إلى قلبي هي مجنون ليلى، لتناوله الساحر لقصة الحب الخالدة.
فهل يمكن أن يستعيد المسرح المصري تقديم مثل تلك الروائع؟
إنها مسرحية معاصرة مفهومة، رغم أن أحمد شوقي كتبها وفقًا لقواعد الشعر العمودي التقليدي في إطار مدرسة الإحياء، إلا أنه اختار بحورًا وتفعيلات تبدو عصرية جدًا، وتتماس وتتصل متوهجة من تدفق وحيوية وطبيعة الحوار المسرحي في الشعر الحر، وربما تحمل معه بعضًا من الألفاظ المهجورة الآن، وهي مسألة لها حلول عديدة درامية ومهنية، خاصة أنها ألفاظ قليلة جدًا.
هذا وبعد تكرار مأساة الحب المؤدي إلى الجريمة، إثر استخدام الحب في تفسيره البسيط كعلاقة بين رجل وامرأة في حالة فارهة، وهي الحالة التي يروجها صناع الأغنيات المصورة بطريقة مفارقة للواقع الذي يعيشه الجمهور العام.
ولذلك عدت مرة أخرى، وليست أخيرة، لتأمل حال العشاق عند أمير الشعراء أحمد شوقي. عدت لملاذ أمن يذكرني بالوهج والشوق والولع الذي جسده وعبر عنه أحمد شوقي في رائعته مجنون ليلى.
وهي المسرحية التي كتبها قبل وفاته عام 1931، وكأنها وداع أخير لاكتمال الروح الشعري والإنساني والفكري لديه قبل رحيله عام 1932.
وحكاية قيس وليلى تتراوح المصادر بين ذكرها كتاريخ حقيقي، وبين كونها حكاية تراثية، إلا أن الميل لكونها حكاية حقيقية تاريخية هو ميل أكثر حضورًا لكثرة المصادر التي تذكرها كحادثة تاريخية ملهمة حدثت في أرض العرب.
ولا تزال مدينة ليلى بالمملكة العربية السعودية ماثلة، وهي عاصمة محافظة الأفلاج، وتبتعد 300 كم جنوب الرياض، وهي مزار للعشاق المحدثين من كل صوب وحدب. وتعود تواريخ المجنون وليلى إلى فترة حكم مروان أبن الحكم في القرن الأول الهجري، وفي الفترة من 645: 688 ميلادية، وجدير بالذكر أن مصادر متواترة روت نقلًا عن الرواة شعرًا منسوبًا لليلى، إذ تعترف بحبها وتشاركه في صبابته وهي تقول:
لم يكن المجنون في حاله
إلا وقد كنت كما كان
لكنه باح بسر الهوى
وإني قد ذبت كتمانًا
تبقى مأساة قيس وليلى هي أن من عادة العرب آنذاك، إذا ما أذاع العاشقان سرهما حرمتهما القبيلة من الزواج وأنزلت بهما العقاب.
جدير بالذكر أن ليلى قد غادرت الحياة سقمًا من حرمانها من حبيبها الذي تعلقت به روحها في سن الثامنة والثلاثين، ولما كان قيس قد هام ومسته جنة من الشعر والجوى، وهما ربيبا طفولة مشتركة، فهو أيضًا قد غادر الدنيا بعدها بقليل حزنًا عليها. الذي يجب ملاحظته أنهما معًا في سن نضج وفهم وإدراك للواقع والحياة، ما يعزز من معنى وجوهر وقيمة حبهما الروحي الملهم.
تبقى مأساة قيس أنه باح بالسر وأعلن وأنشد فيها شعرًا طاف البلاد وعبر التاريخ والزمن لعصرنا الحالي.
وقد عالج شوقي الحالة النفسية لذلك العاشق الذي لم يعد يسمع ولا يرى ولا يفكر في أي أمر، إلا المحبوبة ليلى، والتي كان يراها في ظباء البيداء، ويقبل جدران الحي جدارًا جدارًا لأنه حي ليلى الذي تعيش فيه.
إنه العشق مع الحرمان لأسباب تبدو غير منطقية وقاسية والتي تؤدي لمزيد من العناد والاصطدام بالواقع.
أما والدها فقد زوجها لورد الرجل الطيب الدمث، بعد تهديدها بالقتل إن رفضت، وبقيت على حبها إلى أن مرضت وماتت عشقًا، ولحق بها قيس حزنًا عليها.
والمسرحية التي كتبها أمير الشعراء أحمد شوقي تقع في البناء الخارجي لها في خمسة فصول متوازنة، وفقًا للبناء الكلاسيكي الجديد الذي يعود للمسرح الفرنسي.
وفيها يبدأ شوقي وعقدة المسرحية قائمة، فالحي والبادية ونجد والحجاز والشام تتغنى بأشعار قيس بن الملوح، والأب غاضب، ويتم طرد قيس من الديار، فيهيم على وجهه ويحدث أن يراه أمير الصدقات ابن عوف، الذي هو من نسل الحسين- رضي الله عنه وأرضاه- صاحب المقام الرفيع في الحجاز، فيذهب خاطبًا ليلى له متشفعًا بالمحبة والإنسانية فيرفض الأهل ويتدخل غريمه منازل الذي يريد ليلى لنفسه ويشعل مشاعر الانتقام من قيس الذي مس ستر الخدر المكنون.
وبعد ذلك تقبل ليلى خطبة ورد وتتزوجه، وترفض الزواج من قيس صونًا لشرف أبيها.
ثم يحن قيس عشقًا، وتذهب هي لزواج منقوص، تمرض فيه من ندمها وتموت، ويظهر ورد كشخصية إنسانية نبيلة إذ يتركها لحالها لما رأى منها إعراضًا، بل يسمح لقيس برؤيتها في دياره، نبيل عربي نادر، ورد العربي الأصيل وهي تقدر حرمته وشرفه كما قدرت حرمة وشرف أبيها.
ولهذا فمصدر الصراع عند شوقي ليس الحب أمام التقاليد، بل الصراع مصدره ليلى العامرية وهو صراع داخلي بين الحب والشرف، وهو ما يزيد تفسير شوقي المأساوي الغريب لقصة الحب الشهيرة.
ليصبح حل الصراع هو الجمع بين الحب وشرف العائلة وفقًا للتقاليد الاجتماعية معًا وهو الهدف الذي لم يتحقق، وتمناه المحبوبان في عالم الآخرة.
إن ليلى وحرصها على الجمع بين المتناقضين، ومرضها وهزالها من فرط العشق كان تلبية لنداء الحب والشرف معًا.
أما قيس وشيطان شعره العبقري، الشاعر الأموي، فهو من الجن المتيم بقصة العشق شديدة الرقة والعنف معًا.
ولشوقي مع قيس مشاهد حداثية معاصرة في وادي الجن.
لقد عطف الجن على حب قيس وليلى، ورق أهل الدين والإسلام طلبًا للشرع والزواج مثلما فعل ابن عوف أمير الصدقات في الحجاز.
بينما قسا الأهل والجوار ولذلك هام قيس لا يدري من أمره شيئًا إلا أمر ليلى، ومرضت ليلى عشقًا وشوقًا، وذهب العاشقان لعالم آخر، ربما يحقق حبهما الطاهر العفيف ولكن تبقى المأساة هي صانعة أرق وأشهر قصة حب في الشرق العربي، طافت كل أرجاء الدنيا وعبرت لكل العصور.
إن مسرحية مجنون ليلى لأمير الشعراء أحمد شوقي عمل مسرحي عبقري شأنه شأن العشق العبقري الذي تتناوله المسرحية.
وهي مسرحية حية لا تزال معاصرة جدًا، وكم يحتاجها الجمهور المصري والعربي الآن، حتى نستعيد عذرية المحبة وإخلاصها وإنسانيتها العذبة.



