كنت أراه في كامل لياقته البدنية ووهجه المعتاد بعد تركه رئاسة الهيئة العامة لقصور الثقافة عام 2016.
وبالمصادفة عرفت من زوجته القاصة الكريمة وكيل وزارة الثقافة، ورئيس إقليم ووسط جنوب الصعيد الأسبق، د. فوزية أبو النجا، أنه انقطع في خلوة خاصة يعيد حفظ وترديد قصائد الشعراء الكبار الذين أحبهم.
كان يحتمي بالشعر، وبه يتطهر وبه يستعيذ من الشيطان الرجيم.
لا شك أن هذا الرائع الجميل الذي عرفته في صباي الباكر بنادي أدب أسيوط، وهو يكبرني بعقد من الزمان، ولكن الشبان في صعيد مصر ينضجون مبكرًا جدًا، ويسلكون مسلك الرجال.
كان هذا الرجل فخورًا بكونه معلمًا أولًا، ثم كان معتزًا بعمله الذي جاء إليه من وزارة التربية والتعليم، ليعمل أخصائيًا ثقافيًا ثالثًا بقصر ثقافة أسيوط.
كان يزهو بهذا الدور الوظيفة معًا، وكان يزين الدرجة الوظيفية لأنه كان مؤمنًا بقيمة ما يفعل.
كان المنشط الثقافي الكبير مديرًا لمديرية أسيوط آنذاك هو الأستاذ صلاح شربت الذي أدرك ببصيرته النافذة أن سعد عبد الرحمن هو رجل للمستقبل.
ولعل تدرجه الوظيفي من أخصائي ثقافي إلى رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة كان مدعومًا برضا وسعادة واحترام من كل مثقفي مصر.
لأن الشاعر الكبير سعد عبد الرحمن كان قد صادق الكتب والمكتبات طوال العمر.
ولأنه يعرف كل تفاصيل العمل الدقيقة بتلك الهيئة، ولذلك شهدت فترة رئاسته لها انضباطًا غير مسبوق لصالح انتظام العمل اليومي في قصور وبيوت الثقافة، أقصد المراسم ونوادي الأدب وعروض المسرح وريادة المكتبات ومراكز الأطفال وغيرها.
وغابت في عهده الظواهر المهرجانية الصاخبة ذات الطابع الموسمي الاحتفالي، والتي هي ضجيج بلا نتيجة حقيقية.
كان يعرف جيدًا أن العمل الثقافي هو عمل تراكمي يومي منتظم، ولأنه عاش هذا التراكم مع الكبار وتعلم الإدارة الثقافية من الأستاذ صلاح شريت القامة النادرة في إدارة المؤسسات الثقافية، وصلاح شريت رجل من جيل تعلم وعمل مع الكاتب الكبير سعد الدين وهبة- رحمه الله رحمة واسعة- عندما كان رئيسًا للثقافة الجماهيرية، إنهم هؤلاء الذين كانوا يمنحون المقاعد الإدارية الثقافية وهجًا وحضورًا وقيمة كبرى.
كان صلاح شريت في أسيوط، ومحمد غنيم في دمنهور، وفاروق حسني في الإسكندرية كانوا يدركون أهمية التراكم الثقافي ويفهمون جيدًا ذلك الدور الوطني، ولذلك حرصوا جميعهم ومثلهم فعل سعد عبد الرحمن على الصلة الشخصية العاطفية المحبة والداعمة لكل من عملوا معهم في المسار الثقافي، هذا الارتباط الجماعي الذي يمنحك شعورًا قويًا بأنك عضو في عائلة ثقافية مهمة ومؤثرة وقادرة على الدعم والمساندة.
سعد عبد الرحمن المعلم الذي كان يدرس للتلاميذ في المدرسة لم ينقطع من داخل سعد عبد الرحمن المنشط الثقافي، ولذلك بقي سعد عبد الرحمن معلمًا رائعًا وهو يمارس عمله الثقافي وكان هذا الدور هو إنجازه الأكبر، الذي تركه في أجيال عديدة ومنهم الشاعر د. أحمد الجعفري والشاعر عماد عبد المحسن وفي أفراد بعينهم، وفي شخصي المتواضع واحد من هؤلاء الذين سعدوا بسعد الكبير الخلوق المحترم.
كان هو وصديقه الشاعر الكبير درويش الأسيوطي منارتين لأجيال بعدهما وكان حرصهما على عدم الرحيل للقاهرة، والبقاء في الجنوب هو حرص قناعة واقتدار وفهم ومحبة للمجتمع المحلي الصغير الكبير معًا، الذي يتسع معناه ليصبح هو الوطن.
الجنوب الحار الواضح الجاد العاطفي المنحاز للأخلاق الرفيعة كان عالمهما الذي يستحيل أن يتنفسا خارجه، ولا يمكن مغادرته ومن هناك صار سعد عبد الرحمن ودرويش الأسيوطي وعزت الطيري وشوقي أبو ناجي علامات بارزة في الثقافة الوطنية المصرية، ولا أبالغ إن قلت في الثقافة العربية.
وهو درس نادر للموهوبين في أطراف مصر، يعزز حضوره الآن أكثر الإمكانيات اللانهائية للتكنولوجيا الأثرية.
وسعد عبد الرحمن كان قد كرس معظم وقته منذ 2016 حتى 2023 لجمع تراث أسيوط وتاريخها الأدبي والجمالي والفني والتعليمي، وما أنتجته من صحف وكتب ومنتديات وشعراء ومثقفين وهو إخلاص نادر لا يتكرر، حظينا به في أسيوط، ولو حظيت كل حاضرة من حواضر مصر برجل مثله لحدث تغيير جذري في علاقة المركز بالأطراف، وهي تلك العلاقة التقليدية التي حصرت المركز الثقافي في القاهرة والإسكندرية.
بينما يجب السعي نحو صنع مراكز ثقافية إبداعية كبرى في كل عواصم الأقاليم المصرية لأن مصر لا تزال تعطي الموهوبين الرائعين في كل مكان ولأنه لا يوجد ذلك الجيل الذي هو آخر الأجيال.
كان سعد يتحلق بالشباب من حوله ويجدد الدائرة ليعيش نضجًا وفهمًا بين حيوية الشباب. من دواوين الشاعر الكبير سعد عبد الرحمن حدائق الجمر، النفخ في الرماد، المجد للشهداء، وله عدد كبير من المقدمات الضافية لكتب مهمة في عدد من المناحي الثقافية المختلفة. جدير بالذكر أنني شاركت بأول دراسة نقدية في مساري المهني في مؤتمر الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور في مسقط رأسه بقرية الحواتكة بأسيوط عام 1982 والذي أشرف عليه وخطط له الأخصائي الثالث الثقافي سعد عبد الرحمن، وهو ذاته رئيس هيئة قصور الثقافة الذي دفع بكتابي الاتجاهات التجريبية في المسرح المصري إلى مطابع النشر بالهيئة، وهو صديقي الحبيب الذي لن يغادر عقلي وروحي ووجداني ما حييت.
رجال لا يمكن إلا أن تحترمهم وتحبهم. سعد عبد الرحمن صاحب كتاب التعليم المصري في نصف قرن، كنز كبير في التعليم ورواده في جنوب مصر وهو كتاب هام ونادر جدًا يجب الرجوع إليه لكل من يفكر في تطوير التعليم الإلزامي في مصر.
وهو كتاب يعبر عن فهم عميق للماضي والمجتمع المحلي يشرق مضيئًا للمستقبل في مصر، الحبيبة التي أهدتنا مثل هؤلاء الرجال.
وداعًا المعلم والمنشط الثقافي والكاتب المثقف الصديق والشاعر الكبير سعد عبد الرحمن، رحمة واسعة ومغفرة نحتسبك عند ربك في أرفع مكان.



