الثلاثاء 23 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
بوابة روز اليوسف

مَثَل شائع كثيرًا ما نسمعه ونُرَددِّه: "- تِعرَف فُلان؟ - أعرفه. - عاشِرته؟ - لأ. - يبقى ما تعرفوش!"

ومدلول هذا المثل مفهوم، فهو يتكلم عن أن العلاقات تنمو بالشركة والعِشرة، ولا تكفي مجرد المعرفة السطحية لكي تعرف أحدهم حقًّا.   لم أكن أعرف عن روبرت ماكسويل الكثير، رغم أنني كدت أدخل معه في شراكة ملغومة بالغموض، ظهرت واختفت فجأة، مقامرة خطرة. حاول أحد أطراف اللعبة النأي بها عن قواعدها، ويذهب بها باتجاه "المباراة الصفرية" لأحقق خسارة أضرت بي أكثر ما نفعت، وأفرزت تراجعًا في مسيرتي بدلًا من التقدم، كنت أسعى فيها للانطلاق، في وقت كان التقرب من هذا الرجل حلمًا لكل من يعمل في حقل الصحافة والإعلام، لرجل عصامي لا أعلم عنه غير أنه ولد في تشيكوسلوفاكيا وكان اسمه الحقيقي بان لودفيج هوخ، وانضم للجيش التشيكي عام ١٩٣٩، ثم رحل إلى بريطانيا مع الاحتلال النازي، فانضم إلى صفوف الجيش البريطاني، وحاز ميدالية الصليب العسكرية عام ١٩٤٥.

 

وقد بدل اسمه عدة مرات إلى أن استقر في العام نفسه على الاسم الاسكتلندي الحالي إيان روبرت ماكسويل، وعمل حينها مع الاستخبارات البريطانية، وترأس القسم الصحفي للقوات البريطانية المتمركزة في ألمانيا على مدى عامين، وخلال فترة إقامته بألمانيا التقى ناشرًا ألمانيًا كان تحت يده عدد ضخم من الوثائق والنشرات العلمية التي خلفها الحكم النازي.

 

ولاحت أمام ماكسويل فرصة ذهبية للعمل في مجال النشر العلمي، فأسس عام ١٩٤٩ شركة برجامون برس، ونجح في جعلها من أكبر دور النشر المتخصصة في المطبوعات العلمية، فكانت الشركة اللبنة الأساسية في إمبراطوريته الصحفية والإعلامية التي ضمت عددًا كبيرا من الشركات القابضة والمؤسسات العائلية التي توزعت في بريطانيا والولايات المتحدة وإسرائيل وأوروبا الشرقية وجبل طارق، وامتلك حصصًا متفاوتة في عدد كبير من الصحف في ثلاث عشرة دولة، وكان ماكسويل قد فشل مرتين أمام روبرت ميردوخ في السيطرة على الصحف المحلية، حيث نجح الأخير في السيطرة على الصن ونيوز أوف ذي وورلد. وأخيرًا حصل ماكسويل على فرصته ونجح في شراء مجموعة ميرور عام ١٩٨٤. ثم قام بشراء مجموعة ماكميلان الأمريكية ولكن ذلك أوقعه في دوامة الديون أكثر فأكثر. وفي السنوات الأخيرة من حياته، ومع المزيد من الإصدارات في الصين والولايات المتحدة، ومع اهتماماته بأوروبا الشرقية وعلاقاته مع عدد من رؤساء الكتلة الشرقية أسس عام ١٩٩٠- بالتعاون مع مؤسسة ميريل لينش- شركة للاستثمار في أوروبا الشرقية برأس مال ٢٥٠ مليون دولار، وكان قد أسس قبلها بسنوات شركة استثمار في الصين بالشراكة مع وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر توقفت بعد أحداث ١٩٨٩. وضعت هذه الممتلكات الجديدة عبئًا كبيرًا من الديون على كاهل ماكسويل تجاوزت ثلاث مليارات جنيه استرليني، ما دفعه لبيع بعض ممتلكاته.

 

بعد موقف "النذالة" من روبرت ماكسويل، واختفائه المفاجئ، وهو يروغ روغان الثعالب، وبعد أن قدمت الجهد وخبرة السنين هدية لمريدها، أصبحت أتفحص الوجوه لعلي أكتشف الحقيقة قبل أن يسقط القناع لوجوه من ورق تهوي بها الريح وتسقط الأقنعة وتتعرى الوجوه لذئاب مسعورة، وبدأت الأوراق تتساقط، وسقط معها الرجل ومعه هالته، فقد وقاره وهيبته وكرامته، وفقد خائب الرجاء قدرته على اصطياد فرائسه، اللهمَّ لا شماتة، ولا ابتهاج للموت في إنسان أضر بي وأساء لي، وهو يسقط في شر أعماله، وينال عقاب السماء، وحمدت الله أنني أحنيت رأسي قليلًا كي لا أصاب بشظايا التآمر والمؤمرات التي صوبت نحوي، نحو هامة شجرة أثمرت في بلاد الغربة.

 

لم أكن أستطيع عمل أي خطوة قانونية، أو التقدم بشكوى لأي جهة لما لحق بي من ضرر، الرجل أحجم الكثيرون عن انتقاده، حيث كان مستعدًا لأخذ من يقدم على ذلك للمحاكم بسبب جيش المحامين الذي كانوا في خدمته. منذ أن كان نائبًا عماليًا أحيطت شكوك بمدى أمانته.   إلا أنه عام ١٩٩١ أعلن عن وضع مجموعته تحت الرقابة القانونية، بعد أن شارفت على الإفلاس وبلغت ديونها ملياري جنيه استرليني. ونجح في إخفاء الكثير من الحقائق. لم يكن من الواضح مدى يأسه حتى كُشِّف النقاب عن استيلائه على أموال معاشات موظفي المجموعة التي قدرت بنحو ٤٦٠ مليون جنيه استرليني.

 

في نفس الوقت الذي بدأت شركات ماكسويل تفقد بريقها التجاري والإعلامي وتتراجع أرباحها بشكل كبير وديونه تزداد، ما اضطره إلى تفكيك الكثير من شركاته وبيع أصولها وازداد وضعه المالي تدهورًا وضاق عليه الخناق وأخذ يشعر بأن إمبراطوريته على وشك الانهيار، ولم يترك طريقًا لإنقاذ نفسه إلا سلكها، لم يبق أمامه من طريق سوى اللجوء إلى الموساد طلبا للمساعدة.. وهنا سقطت الأقنعة وانكشف المستور. سقطت الأقنعة عن الوجوه الغادرة، وتأكدت أنه "ليس كل ما يلمع ذهبًا"، وعلمت أنه يعمل تحت غطاء استخباري، فهو واحد ممن يعملون بجهد استخباري مزيف تحت عنوان اقتصادي أو ثقافي أو علمي أو منظمات إنسانية أو إعلام وصحافة، أو بإنشاء مؤسسات إعلامية، أو منظمات مجتمع مدني أو ملتقيات فكرية ومراكز دراسات من أجل التأثير على الرأي العام المحلي، أو بهدف التحريض على النظام الحاكم وإضعاف سلطته ونظامه، أو بهدف رفع دراسات مجتمعية وسياسية بغرض إعداد تقدير موقف يرصد نبض الشارع المحلي تجاه قضايا محددة.   بلغت علاقة ماكسويل بالموساد ذروتها في فترة الثمانينيات من القرن الماضي. قال عنه إسحق شامير ”إن ما قدمه ماكسويل لإسرائيل يفوق ما قدمه أي إنسان آخر على وجه الأرض".

 

استطاع ماكسويل أن يحشّد قوى غربية عديدة من أجل دولة الاحتلال الصهيوني التي يقدمها عبر ما يمتلكه من وسائل إعلام كبيرة ومتعددة على أنها واحة الديمقراطية وسط صحراء الشرق الأوسط الواسعة، وتستحق كل الدعم والمساندة.. ومن أهم وأعقد الخدمات التي قدمها، تسويق برنامج يُسمى "بروميس" التي حصلت عليه اسرائيل من شركة أوسلو الأمريكية التي أنتجته وطورّته بزرع شريحة متناهية الصغر في البرنامج. ويستطيع ضابط الموساد اقتفاء أثر أي معلومات والتنصت وهو جالس على مكتبه، بخبراته التجارية وعلاقاته العالمية المتشعبة. كما أن أجهزة مخابرات عديدة في أوروبا وأمريكا اللاتينية مثل تشيلى وبلغاريا والأرجنتين قامت بشراء برنامج "بروميس" من ماكسويل وكذلك الصين التي دفعت ٩ ملايين دولار قبضها ماكسويل الذي استطاع إقناع المسؤولين الصينيين بأهميته. وهو نفس البرنامج الذي اشترته الصين بـ٩ ملايين دولار، بعد أن أقنع ماكسويل المسؤولين في هذه الدولة بأن البرنامج يتكيف مع اللغة العربية.

 

قدم ماكسويل الكثير من الخدمات لإسرائيل ومن أهمها هجرة اليهود السوفييت إلى إسرائيل، حيث استطاع إقناع قادة الكرملين بفتح الأبواب أمام مئات الآلاف من اليهود السوفييت للهجرة إلى إسرائيل… وهو ما تم بالفعل بعد ذلك بوقت قصير. وقد تمت العملية كما خطط لها ماكسويل بالرغم من وجود اعتراضات عربية وتدخل الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات أكثر من مرة محاولًا منع- أو الحد من- هذه الهجرة، موضحًا لقادة الكرملين أن إسرائيل تقوم بتوطين اليهود السوفييت المهاجرين اليها في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ما يخلق حقائق ديموغرافية جديدة. قام بدور الوسيط الذي استعانت به الموساد في دفع البيت الأبيض للتورط في صفقات الأسلحة إلى إيران مقابل إطلاق سراح الرهائن الأمريكيين المحتجزين في لبنان والتي عُرفت بعد ذلك باسم "إيران جيت". هكذا قدم ماكسويل لإسرائيل ما لم يقدمه أي شخص آخر على وجه الأرض، قدم كل شيء حتى شعرت إسرائيل بأنه لم يعد لديه شيء آخر يمكن أن يقدمه، فقررت أن تقتله، لأنه أصبح عبئا على جهاز الموساد الإسرائيلي بما يعرفه من أسرار عمل هذا الجهاز وعلاقاته بالخارج.

 

لم يستطع ماكسويل إخفاء دوره كجاسوس إسرائيلي عندما ضاقت الدنيا، وأراد أن يضع حدًا لمشاكله، فقد كان ماكسويل يدخر أصدقاءه الإسرائيليين لمثل هذا اليوم. ديونه تتراكم والأزمة المالية تطبق على أنفاسه. زعماء إسرائيل شامير وبيريز وأولمرت وهيرتزوغ، كلهم يتهربون منه. واتصل برئيس القسم المالي للموساد بعد أن تجاهله شبتاى شافيت رئيس الموساد ولم يرد على التليفون.. فأخذ يستنجد بهم ويذكرهم بالخدمات التي قدمها للموساد، ويطلب منهم أن يساعدوه في الخروج من أزماته المالية، والرد دائما "إن الموساد لا يستطيع أن يفعل ذلك" الأمر الذي أثار غضبه وحنقه ودفعه للتهديد بالإنتقام بإفشاء كل الأسرار.. ليس فقط الخدمات التي أداها بل كانت لديه معلومات حول صفقات إسرائيل وتعاملاتها السرية مع الدول. لذلك عندما بدأ التهديد بالانتقام كانت إسرائيل في الوقت نفسه قد قررت التخلص منه. وقد اختلفت الآراء حول موته إن كان حادثا عرضيا وقع له وهو على يخته في جزر الكناري أو إنه انتحر نتيجة إفلاسه وتخلي اسرائيل عنه، أو قتله الموساد، وهذا ما ذهب إليه ورجحه كل من جوردون توماس ومارتن ديلون في كتابهما (روبرت ماكسويل.. جاسوس إسرائيل الكبير) اللذان أكدا من خلال مقابلات مع ضباط سابقين بالموساد ورؤساء منهم ديفيد كيمحي وضباط مخابرات بريطانيون وأمريكيون وبلغار؛ أن ماكسويل قتله ضباط للموساد تسللوا إلى يخته تحت جنح الظلام وحقنوا عنقه بحقنة مليئة بمركّب أعصاب مميت ثم ألقوا بجثته في البحر.   يذكر الكتاب أيضا إن ماكسويل لم ينتبه إلى الخطر حيث اتصل به الموساد في تلك الليلة واعدًا إياه أن يتسلم طردا صغيرا فيه شيك بالمبلغ الذي يحتاجه بشكل سري على اليخت قبيل الفجر في تلك الليلة من شهر نوفمبر "تشرين ثان" ١٩٩١.. ويذكر مؤلفا الكتاب أن علاقته مع اسرائيل ساءت عندما لم تجد طلباته المتكررة للموساد باستخدام نفوذهم مع البنوك الإسرائيلية لترتيب قروض لتلبية طلبات دائنيه آذانا صاغية..

 

هذه نهاية إمبراطور المال والإعلام اليهودي الصهيوني الذي خدم الموساد حتى آخر لحظة من حياته.. وأمثاله كثيرون من الجواسيس الذين خدموا الكيان وتُركوا لمصيرهم أو قَتَلهم الموساد أو ساعد في التخلص منهم.. والأحمق من لم يتعظ بغيره!     لم يختفِ الرجل فقط من المشروع الذي داعبني به بل اختفي تمامًا من الحياة.    

 

تم نسخ الرابط