ثار بركان المشاعر عقب حمم العقد التاسع من القرن الماضي، وانصهرت الأحداث المتتالية تتلاحق مع بداية التسعينيات. هبّت علينا بعالم يموج بالتغيرات المتلاحقة المتسارعة والتشابكات الكبيرة الغامضة، بأحداث بلورت حياتنا، أحداث عديدة كان لها صدى كبير في العالم، وسُجلت في صفحات التاريخ علامة مهمة، أو ذكرى أليمة، وانهيارات ديكتاتوريات ورموز، شكّلت روح التسعينيات على الصعيد الإعلامي والسياسي والاجتماعي.
سلسلة مجريات متلاحقة كومضة سريعة من أحداث كثيرة متشعبة وتطورات متلاحقة، كأضغاث أحلام انعكست على كل المتغيرات في العالم، وأحاطت بي من كل جانب وقائع عالم مليء بالأعاجيب والغرائب والشرور. تنامت بداخلي مشاعر متضاربة فأطلت بداخلي مخاوف، اغتيال جاسوس، مقتل أميرة، أزمات اقتصادية وحروب عودة الصحافة المهاجرة، فضائح وتغيرات مع نهاية حقبة على مشارف قرن جديد.
في البداية عشت الأزمة بعد أن اختفى تمامًا روبرت ماكسويل من الحياة. وعانيت من توابع الحقائق التي فاجأتني عن الرجل، وحمدت الله أنه أنقذني من خسارة النفس، فجميع الخسائر بلا قيمة ما عدا خسارة النفس فهي عظيمة، وكما قال السيد المسيح "لأنه ماذا ينتفع الإنسان إن ربح العالم كله وخسر نفسه". أنقذني الله من شراكة ملوثة بإغراءات الشهرة والمال الملطخ بالخيانة والتفوق الوهمي.
..قصة موت الرجل كانت حديث العالم، وتراوحت قصص وحكايات ونظريات حول مصرعه بين الاغتيال على يد الموساد والانتحار والحادث العرضي. ووفق كتاب “اغتيال روبرت ماكسويل الجاسوس الإسرائيلي من تأليف الصحفي البريطاني جوردون تماس والإيرلندي ماران تديلون فإن الموساد قتلت ماكسويل خوفا من أن يكشف أسرار “إسرائيل النووية ما لم تقدم له العون في إنقاذ إمبراطوريته المنهارة.. وانه قتل على يد عملاء الموساد الذين اختطفوا يخته الخاص في الظلام وحقنوه بمادة قاتلة في عنقه ثم أعادوا جسده على سطح اليخت وتركوه في عرض البحر.. وهناك رواية مختلفة لرئيس التحرير السابق لصحيفة ميرور روي جرينسليد يقول: "لم يكن ماكسويل بالرجل الذي يقبل السجن أو أن يظهر ككاذب ولص، لذلك فإنني مقتنع بنظرية الانتحار". غير أن كبير مصوري ميرور كين لينوكس يرفض ذلك قائلا: "لقد كنت في موقع الحادث ورأيت جثته عارية لقد كان حادثًا عرضيًا والجميع يعلم أنه كان يصعد ليلًا على سطح اليخت ويبول في البحر وكان وزنه 140 كيلوجرامًا لذلك من المرجح أنه فقد توازنه وسقط في الماء".
وبعد مصرعه أقامت له إسرائيل جنازة دولة حضرها رئيس الوزراء إسحق شامير والرئيس حاييم هيرتزوغ.
وفي بداية التسعينيات، أتي الانقسام العربي الكبير مع الخطوة التي أقدم عليها الرئيس العراقي الراحل صدام حسين بغزو الكويت، وهو الأمر الذي كان من نتائجه فيما بعد ما سمي "حرب الخليج الثانية"، إذ شنت قوات التحالف العالمي بقيادة أمريكا وبريطانيا، وبمساندة عربية كبيرة، هجومًا جويًا على العاصمة العراقية بغداد، وبريًا في كل مدن الكويت، حتى انتهت معركة الغزو بعدة ندبات في الجسد العربي مازال يعاني منها حتى الآن، والذي بدأ في أول التسعينيات ولم ينته إلى اللحظة الحالية. وعلى الرغم من أن حياة البشر لا تقدر بمال، فإن الخسائر في عالم الحسابات تقدر بالدولارات، وتعكس بالأساس الخسائر الاقتصادية الناجمة عن الحرب التي أدت إلى فورة في أسعار النفط لفترة قصيرة ما لبث سعر البرميل بعدها في الهبوط من 22 دولارًا إلى 17.80 دولار للبرميل. حسب المصدر العربي الرسمي الموثوق، الذي قدر التكلفة المباشرة لحرب الخليج وقتها، "فإنها بلغت 620 مليار دولار، وفي التفصيل، قدر التقرير خسائر الحرب نتيجة دمار آبار النفط وخطوط الأنابيب ووسائل الاتصالات والطرق والمباني والمصانع بقيمة 160 مليار دولار للكويت و190 مليار دولار للعراق. وشهدت البداية بعد حرب الخليج الثانية نبتة تكوين ما سمي "البعبع الإسلاموي" المتشدد والمسمى "تنظيم القاعدة".
لم تقتصر الآثار الاقتصادية لحرب الخليج الأولى على الكويت والعراق أو دول الخليج والمنطقة فحسب، بل ترددت أصداؤها السلبية في العالم كله. ولم تهدأ الأسواق العالمية إلا بعد نهاية تحرير الكويت في ربيع 1991. فشهد الاقتصاد البريطاني ركودًا عالميًا آخر في أواخر عام 1990؛ مع انكماش اقتصادي بنسبة 6% من الذروة إلى القاع، وارتفاع معدل البطالة من نحو 6.9% في ربيع 1990 إلى ما يقارب 10.7% بنهاية عام 1993. على أي حال، انخفض التضخم من 10.9% في عام 1990 إلى 1.3% بعد ثلاث سنوات. كان الانتعاش الاقتصادي اللاحق عظيمًا، وعلى عكس ما حدث بعد ركود أوائل الثمانينيات، ترافق الانتعاش مع انخفاض سريع وكبير في معدل البطالة، ليصل إلى 7.2% بحلول عام 1997، علمًا أن شعبية حكومة المحافظين لم تتحسن رغم الانتعاش الاقتصادي. فازت الحكومة بالانتخابات الرابعة على التوالي في عام 1992 تحت قيادة جون ميجور، الذي خلف تاتشر في نوفمبر 1990. لكن الأربعاء الأسود جاء بعد الفوز بوقت قصير، ما أضر بسمعة حكومة المحافظين وكفاءتها الاقتصادية، ليتصدر حزب العمال نتائج استطلاعات الرأي منذ تلك المرحلة فصاعدًا، لا سيما في أعقاب انتخاب توني بلير زعيمًا للحزب في يوليو 1994 بعد الوفاة المفاجئة لسلفه جون سميث.
وعصفت بالاتحاد السوفيتي أزمة اقتصادية هائلة وأدت إلى تفككه. استقلت الدول التي كانت تحت سلطته، وانتقلت السلطة إلى بوريس يلتسن، لتتحول هذه التجربة بالنسبة لجيل التسعينيات، إلى تاريخ انتصار الرأسمالية الأمريكية وانهيار الأحلام الشيوعية. ومع بداية العقد التاسع ومع مرحلة انتهاء الحرب الأهلية في لبنان، وتوحَّد الجيش وحُلَّت الميلشيات، وتسلّمت الدولة المرافئ والمرافق العامة والمؤسّسات، عادت بعض الصحف المهاجرة، بعد أن اتاح التواجد في لندن وباريس فرصة للصحفي لأن يمتلك أفقًا أوسع في الاطلاع السياسي والثقافي والفكري وانعكس هذا في كتاباته ومعالجته للمواضيع، وتطوير بعض الجوانب الصحفية مثل الصحافة الاقتصادية، حيث قدمت جيلًا من الصحفيين العرب يستخدم التكنولوجيا في العمل الصحفي، وساعدت في تطوير وتسريع بناء الكوادر البشرية المتكاملة بالوسائل الاعلامية الجديدة. قدم الاعلام المهاجر صورة متقدمة في التحليل الصحفي والتكنولوجيا، لكن بقيت الرغبة في البحث عن الحرية خارج الوطن. ومع بروز شعار الديمقراطية بدأ التفكير في إنشاء المدن الحرة لاستقطاب الكيانات الإعلامية، وبدأ أنشاء مدن للإعلام العربي في دبي والأردن ومصر. كانت فكرة جيدة تكشف عن وعي الدول العربية بأهمية الإعلام والثورة التقنية التي حدثت له والرغبة في مواكبة العصر في زمن ثورة الاتصالات. أتيحت فرصة لبناء إعلام عربي بأسلوب جديد مختلف عن سابقه عنوانه التركيز على انشاء تليفزيونات بدلًا من إنشاء الصحف، منها MBC وART وغيرهما وصاحبها نوع آخر من الصحف تأسست في المهجر مثل الشرق الأوسط وجريدة الحياة. كانت جريدة "الشرق الأوسط" هي أول يومية عربية تصدر من لندن عام 1978 بتمويل سعودي من الأخوين هشام ومحمد حافظ، وكانت توزع بالطائرة في أكثر من عاصمة عربية في نفس الوقت. تلتها جريدة الحياة اللبنانية عام 1988 التي أعاد إصدارها بعد توقف طويل جميل مروّة وريث العائلة العريقة التي أسست الجريدة عام 1946 ثم اشتراها الأمير السعودي خالد بن سلطان عام 1990. وتأسست "القدس العربي" برئاسة عبد الباري عطوان عام 1989، ثم صدرت جريدة الزمان العراقية عام 1997 وتسلم رئاسة تحريرها سعد البزاز. كل هذه الصحف تصدر من لندن وتوزع في الوطن العربي عن طريق السواتل. وبينما تحتل جريدة "القدس العربي" الموقع الأعلى من حيث التأثير والمصداقية والتصفح الشبكي بسبب اقترابها من نبض الشارع العربي وقضاياه الأساسية، إلا أن جريدة الحياة هي الأكثر توزيعا كونها تطبع في أكثر من عشرين مدينة.
تميزت الصحف اليومية الثلاث بكونها عربية أولا قبل أن تكون إقليمية وتخاطب الشعوب العربية مجتمعة وقضاياها المركزية كفلسطين والعراق والسودان ولبنان. فبينما تولي "الشرق الأوسط" التطورات في السعودية والخليج اهتماما خاصا، تهتم الحياة بشكل أوسع بالأوضاع اللبنانية في حين تحتل القضية الفلسطينية قمة اهتمامات "القدس العربي". أما جريدة الزمان فظلت مهتمة بالشأن العراقي وقد كانت هذه الصحيفة من أوائل الصحف التي بدأت توزع في العراق بعد الاحتلال ثم فصلت بين طبعتها الدولية في لندن وطبعتها العراقية في بغداد.
إعلام تأسس لأسباب بعضها سياسي وبعضها تجاري، ظنًا منهم أن الصدور في أوروبا يتيح هامشًا من الحرية ليس ممكنًا في البلاد العربية.
أما الإعلام في لبنان بعد العودة من بلاد المهجر، فقد كانت الدويلات المتعددة التي عرفها اللبنانيون خلال حربها الأهلية قد راحت منذ العام 1990 تخلع أعلامها وأناشيدها ومسلّحيها ومرافئها ومطاراتها وقضاتها وكتبها والمقتنيات الضرورية المستوردة لقيامها عند عتبة الجمهورية الثانية، ودخلت كلُّها أو بعضها إلى الوطن، فإنها لم "تخلع" مدارسها وجامعاتها، وأجهزتها الإعلامية، خصوصًا التلفزيونية منها، ببرامجها ولغاتها الخاصة قطعًا، بل دخلت الدولة في "استمرارية" لمناخ حروبها وتعويضًا عن "أمجادها" الغابرة.
وسط هذه المتغيرات، حبلت السنوات ثورات وتبدلت الأحوال، احتلت دولة عربية دولة عربية أخرى، وتلاها زلزال أرعب المصريين رغم أنه لم يكن مدمرًا مثل زلازل ضربت دول أخرى. صار الاقتصاد حديث الناس بعد أن كان حديث النخبة وتحول التضخم لمانشيت شعبي. وصدرت اتفاقية أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل. سيطر التليفزيون على العديد مما أطلق عليهم "جيل تليفزيونجي"، وظهر ما سمي "الفيديو كليب"، واستيقظ العالم يومًا على وفاة الأميرة ديانا، ومغامرات الرئيس كلينتون مع سكرتيرته مونيكا لوينسكي. وشهدت التسعينيات تطورات تقنية غير مسبوقة بانطلاق الشبكة العنكبوتية "الإنترنت".
..ومع فقاعات الأحداث المتتالية، أصبحت النفس إلى بلادي مشتاقة، وإلى مسقط رأسي توّاقة، لترابها وماءها، وأحاديث الأهل وأزقة شوارعها وذكرياتي الجميلة.. حنين لأحضان ودفء ليالي مصر الجميلة.



