في بهجة أهل مصر الطيبين ذهبت لحضور حفل افتتاح معرض الكتاب بشارع فيصل المزدحم، وهي الدورة الحادية عشرة للمعرض الذي تنظمه الهيئة المصرية العامة للكتاب.
وبمجرد انصراف د. نيفين الكيلاني وزيرة الثقافة واللواء أحمد راشد محافظ الجيزة الذي حرص على أن يشهد الافتتاح، تم فتح الباب الخارجي ليدخل باقي الجمهور مندفعًا مهللًا في بهجة الاحتفال الشعبي.
كان معظم هؤلاء من الفتيان والفتيات والأطفال، إنهم أبناء حي الطالبية بفيصل والأحياء المجاورة.
لقد جذبتهم أصوات فرقة النيل للآلات الشعبية فحضروا بكثافة مدهشة.
ويبقى مشهد اللانظام في الاندفاع الجماعي لدخول المعرض مصحوبًا بالملابس البلدية المصرية للمندفعين في سعادة غامرة وانجذاب حقيقي مشهد يحتاج للتأمل.
بقيت أراقب من بعيد حركة الذهاب لدور النشر التي تعرض كتبها للبيع فوجدتها قليلة نسبيًا، بالنسبة للإقبال الجماهيري على المسرح الذي يقدم فنونًا من الغناء الشعبي وفنون الساحر وبعض من فنون ألعاب السيرك الفردية.
وظللت أرقب حركة الجمهور، بدأ الحضور ينصرف تدريجيًا قبيل ميعاد الإغلاق، إلا أن المعرض ظل متألقًا بجموع من الأطفال والصبية من الأولاد والبنات.
بقي الصبية على انجذابهم غير العادي بخشبة المسرح وانخرطوا في التواصل مع مسابقة للأطفال أعدتها وزارة الأوقاف حول أسئلة عن حفظ القرآن الكريم.
وبقيت أنظر بتقدير كبير لتلك السيدة التي تدير فصلًا مبهجًا في الهواء الطلق، إنها مندوبة وزارة الأوقاف التي بدت لي خبيرة في التواصل مع الأطفال وهو تواصل نادر يعبر عن إخلاص مهني وإنساني.
ولعل هذا المشهد لتلك السيدة ولإجابات الأطفال المدهشة عن أسئلتها هو دلالة على جدوى العمل الثقافي اليومي المخلص في التفاعل مع الجمهور العام.
بالتأكيد وفي ظل تلك الجاذبية للتجمع الإنساني سوف يتم بيع العديد من الكتب، وبالتأكيد سوف يجد الكثيرون أنفسهم أمام تلك الكتب وفكرة اقتناء الكتب وتكوين مكتبات منزلية صغيرة.
ولا شك أن اهتمام الهيئة المصرية العامة للكتاب ورئيسها الجديد د. أحمد البهي بمواصلة هذا المعرض السنوي بشارع فيصل، لهو اهتمام يدرك أهمية التواصل مع الجمهور العام تعزيزًا لفكرة التفاعل مع الكتب وتدعيمها لعادة شراء الكتب أو خلقها كرغبة إضافية لمن لم يعرف تلك العادة، وجعلها مسألة قائمة في رغبات البسطاء شأنها شأن رغبات الشراء الأخرى.
ولعل جعل تلك الحزم المتنوعة من الكتب رخيصة الثمن متاحة بأسعار مخفضة أكثر ضرورة في مثل تلك المعارض في الأحياء والمناطق التي تبدو بعيدة نسبيًا عن عالم الكتب.
هذا وقد عرفت مصر في العاصمة والأقاليم تلك الدور التي تبيع الكتب بل وبعض من تلك المنافذ والمكتبات العامة كانت علامة على أحياء بعض منها مثل حي الفجالة بالقاهرة.
إلا أن تلك الظاهرة تتراجع بوضوح في تزامن مع ندرة دور العرض السينمائي الخاصة والتي كانت حاضرة في أحياء العاصمة والمحافظات والمراكز الصغرى التابعة لهما.
وبقيت منافذ بيع الكتب في معظمها مملوكة الآن للهيئة العامة للكتاب ولدار المعارف المصرية.
وهي منافذ بيع مهمة ونقاط تاريخية يجب الحفاظ عليها وتجديدها، والعمل على الإشارة إليها في اللوحات الإرشادية بالشوارع والميادين العامة وتأكيد حضورها الرمزي المهم، وفتح منافذ جديدة والتشجيع على مثيلاتها في القطاع الخاص، ربما بمجموعة من المنح الاستثنائية في الضرائب ورسوم لوحات الإعلانات التي تفرضها الأحياء على لوحات إعلانات المحال العامة، وما إلى ذلك من عودة لمنافذ بيع الكتب، حتى لا يصبح معنى المكتبة في مثل تلك الأحياء فقط هو بيع الأدوات المكتبية، وربما تكون نقطة البداية هي تشجيع منافذ بيع الأدوات المكتبية على وجود ركن خاص لبيع الكتب.
كما يمكن ملاحظة أن عملية تجديد المباني منذ عام 2000 الماضي وحتى الآن في قصور وبيوت الثقافة تجعلها أنيقة أكثر نعم، ولكنها تفقدها تلك الإطلالة الزجاجية المفتوحة على الشارع العام، والتي كانت للمباني الأولى في ستينيات القرن العشرين.
ولعل هيبة تلك المباني مكيفة الهواء، والتي تفتقد لميزانيات الصيانة الدورية لتجديدها ولمتابعة عملية التهوية المركزية بها والتي كثيرًا ما تتعطل، وإيجاد جسور ممتدة بينها وبين الأحياء المحيطة بها ضرورة مهمة لعودة فكرة التجمع البشري.
ولعل الأطفال والناشئة هم الطريق الأسرع لإعادة التواصل مع الأحياء والمناطق المتعددة بتنوع التجمعات السكانية المختلفة.
ويبقى معرض فيصل للكتاب موحيًا ومذكرًا بحقوق أحياء مصر المتعددة في مثل تلك الاحتفالات والتجمعات الثقافية.
إنها خاصية الاحتفال الشعبي المصري بطابعه المبهج المتنوع وهي خاصية مصرية تاريخية شأنها شان اهتمام كافة المجتمعات الإنسانية بفكرة الاحتفال الشعبي والتجمع الإنساني. كم أسعدني جدًا أهل فيصل في الطالبية والأحياء المجاورة بحضورهم الكثيف، وكل هؤلاء الأطفال متقدي الذكاء والحيوية.
إنهم هؤلاء أهل مصر في الأحياء الشعبية بعيدًا عن هؤلاء الذين لا نعرفهم في الصور التليفزيونية في الدراما الرمضانية التي لا تزال تصر على تصوير الحارة الشعبية كمجموعات من المغامرين المختصين في أعمال العنف.
إنهم أهل مصر الحية الجميلة وما أحوجنا جميعنا إلى التجمع الثقافي المنتظم معهم، ذلك أن الثقافة هي كلمة السر في الأمل في المستقبل، وفي تفسير معنى المواطنة وجدوى الحياة اليومية.



