في رحلتي بحثت دائمًا عن النجاح، لم أكتف بالطرق الممهدة، تغربت، سافرت، اقتحمت القمم الصخرية الشاهقة دون تذمر، بذلت الجهد مؤمنًا أن في كل جهد الجزاء كافٍ عنه وأن الآفاق الواسعة تنتظرني في آخر الطريق. زملاء وأصدقاء منهم من قضى نحبه غرقًا في سبيل الحلم وآخر هاجر إلى جهات بعيدة ليحظوا بفرص حياة. وآخرون اختاروا الوظيفة من أجل الأمان كمن يجرفه النهر فيرضى بحفرة صغيرة بدَل السقوط في وادٍ مفتوح أو بِئْر عَمِيقة، بينما اخترت أنا- وأمثالي من الحالمين- البقاء وسط النهر والقتال. ومع عنف شبابي سرت حسب المقولة "إننا نسير.. يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر".
مؤمنا بنصيحة الإمام الشافعي: "تَغَرَّبْ عَن الأَوْطَانِ في طَلَبِ الْعُلى... وَسَافِرْ فَفِي الأَسْفَارِ خَمْسُ فَوَائِدِ: تَفَرُّجُ هَمٍّ، وَاكْتِسابُ مَعِيشَةٍ، وَعِلْمٌ، وَآدَابٌ، وَصُحْبَةُ مَاجِد". تَغَرَّبْتُ من القاهرة لبيروت ولندن وكازابلانكا.
لملمت أوراقي التي باحت بخبايا الصحافة المغربية، وما تدفق من معلومات عن مطابعها وعدت إلى لندن لألتقي الجارالله و"فوزي الموريشوسي" القادم من موريشيوس، الأمين على ماله والمنتدب من مكتبه بلندن إلى المغرب لمتابعة الأمور المالية. نثرت على طاولة الاجتماع كل ما أتيت به من معلومات من أروقة كازابلانكا الإعلامية، تبث عطر الطمأنينة لمشروع طباعة جريدة "السياسة" بالمغرب، مضيئًا لهم معالم الطريق.
استقبل الجارالله ما طرحته من اقتراحات تتلخص في أهمية إنشاء قسم لصف الأحرف "التنضيد" لندرة إمكانيات جمع أحرف اللغة العربية في المغرب ولأهمية حروف المتون من حيث قيمتها البصرية وهدفها ليس لجذب انتباه القارئ فقط إلى المادة المطبوعة، بقدر مهمتها في توصيل المحتوى إلى القارئ. ويخضع استخدام حروف المتن من الناحية التيبوغرافية لاعتبار أن تتم قراءتها بيسر، لهذا جاء اختياري لماكينات لينوتايب للصف الضوئي مع استخدام برنامج "الناشر الصحفي" الذي أطلقته وقتها مؤسسة "ديوان للعلوم وتقنية المعلومات" لقدرته الفائقة وسهولة التعامل معه والسيطرة على عملية التصميم، معطيًا المستخدم والمصمم المحترف الأداة الفنية والتقنية السهلة والمتطورة التي تمكّنه من إنتاج أي شكل من أشكال التصميم الصحفي. أما بالنسبة لتقنية فصل الألوان للصور الملونة من سلايد أو صورة مطبوعة على Drum Scanner، فقد وقع اختياري على شركة كروسفيلد Crosfield المتميزة في تقنية فصل ألوان الصورة المتعددة الألوان إلى أربعة ألوان أساسية CMYK بالليزر لإنتاج ألوان التشغيل الطباعي: الأزرق "السيان" والأورجواني "الماجنتا" والأصفر والأسود، على أفلام قبل نقلها للوحات الطباعية. تقنيات طباعية من الصعب فهمها لمن لا يعمل بالطباعة حتى لو كان من أصحاب الصحف أو العاملين بها. أنصت الجارالله لأفكاري ومقترحاتي ووافق عليها، إيمانًا بقدراتي المهنية والفنية، لم يعترض أو يناقش، ترك الأمر لي وأعطاني الثقة ودعمني، ثم أعطى تعليماته لفوزي المحاسب لتيسير وتسهيل مهمتي. وبدأت مرحلة شراء الماكينات والإعداد إداريا لبناء فريق عمل صحيح متكامل يمكن الاعتماد عليه كمفتاح أساسي لعمل ناجح، استنادًا على خبرة السنين.
لم تكن مهمة شراء الماكينات بالأمر العسير بل الأهم عملية بناء الفريق الكفء لكي تنجح المهمة، فريق متكامل قادر على دعم المشروع. اخترت شابا أردني الجنسية، من الخبراء الذين وضعوا بصماتهم على ماكينات صف الحروف، سواء على مستوى التركيب والتنضيد، والتطوير لماكينات الصف الإلكتروني، واحدا من الشباب الذين يعملون معي بلندن لقيادة وتدريب فتيات وفتيان من المغرب. أما صعوبة الاختيار فقد كانت في اختيار الفني الخبير في المسح الضوئي للصور والرسوم لفصل وفرز ألوانها، وهي مهمة لها مهارات خاصة وخبرة عالية طويلة في التصوير والضوء، والليزر والماسحات الضوئية، ومرشحات ونقاط شبكات اللون وخطوطها ووظائفها، وقيم الأشكال الظلية وكثافتها، وتصحيح اللون إلكترونيا، وتحسين مستوى جودة الألوان، وخبرات أخرى كثيرة، وهم قليلون، فلم أجد منهم من قَبِل التغرب والعمل في الخارج.
بحثت في الذاكرة، هداني تفكيري لثلاثي من المهندسين خريجي كلية الفنون التطبيقية رضا وعبد الرحمن حسب الله وعزيز المصري، كانوا من الأوائل في دراستهم ومن أول المتخصصين في المهنة، تصيّد كفاءتهم الصديق والزميل المهندس عادل فؤاد مدير مطابع روزاليوسف في مطلع السبعينيات. كانت المهمة من نصيب عزيز المصري الذي وافق على السفر للمغرب ليساهم معي بجهده، وبالعمل على ماكينة فصل الألوان التي تم تركيبها بالاستعانة بصديق مهندس ألماني أتى من هامبورج إلى كازابلانكا لهذه المهمة، وعدت ثانية للمدينة الجميلة التي عشقتها، ومرة أخرى كان رمزي صوفيا في انتظاري بالمطار.
اختار صوفيا للمشروع الجديد مقرا بنفس المجمع السكني روماندي لمستثمر كويتي في المنطقة الأنيقة الراقية Casa -Anfa، ودارت عجلة الاستعداد للانطلاق … تم اختبار 20 شابة وشابا من المغاربة الذي يجيدون الكتابة على الآلة الكاتبة لتدريبهم على صف الأحرف إلكترونيًا، قام بتدريبهم الشاب الأردني عوني القادم من لندن. اختير منهم 12 فتى وفتاة، وعدت لطاولة الرسم لأصمم صفحات طبعة المغرب للسياسة الكويتية، وأعمل في تناغم مع صحفي مخضرم تولى إدارة التحرير الصحفي، مع مدير التحرير مصطفى أبو لبدة. أذهلني بطاقته الكبيرة وحماسته التي لا تنطفئ جذوتها بل تزداد توهجًا كل يوم. تزاملنا في العمل، وخبرت عن قرب مدى إخلاصه وتفانيه، لا يكَلّ أو يمّل، ولا يستعجل انتهاء الساعات بقدر ما يهمه إنجاز عمله على أحسن وجه، فهو لا يكاد يرفع رأسه عن أوراقه، يقرأ ويمحص ويدقق ويدفع بما ينجز لي، في عملية سباق مع الزمن ومع الذات... ومع كل شيء.. نموذج لصحفي أمين ونزيه، صاحب كلمة صادقة، يملك أدوات الشعور بالمسؤولية. ولأننا كنا في مهمة تخطت العلاقة بيننا ساعات العمل، فما أكثر الليالي التي قضيناها معا، يحكي لي ذكرياته في العمل الصحفي بالأردن، وأحكي له عن مغامراتي في فضاء الإعلام، وقتالي مع أساطين الصحافة المصرية واللبنانية والإنجليزية، التي كان يستقبلها أحيانًا بدهشة وكأنها حكايات خيال علمي، رغم أنها حكاوى من أوراق الحقيقة. خلقنا معًا فريق عمل متجانسا، من صحفيين مغاربة ومصريين وسودانيين، سأعرّف بهم وسأحكي عنهم مع تجربة الإصدار الجديد.
… تمت كل التجارب وأصبحنا جاهزين ليستضيف المشهد الإعلامي ذوقا آخر من الصحف يزين صدر المغرب بالإصدار الجديد.



