تسيطر على ذاكرتي نجمة الإعلام الرائعة أوبرا ووينفري، بطريقة لا أستطيع التخلص منها.
بعد أن أصبحت الكتابة عن ذات الفكرة المكررة مثل برامج الإهانة ضخمة الإنتاج، التي لا يتحمل استمرارها الذي يؤكد أنها لن تنتهي صاحبها المهرج المحترف، بل المشاركين فيها، الذين يقبلون تلك المهزلة وتلك الإهانة المعروفة سلفًا مقابل المال.
في الكواليس بعض ممن لم يقع عليهم الاختيار يشعرون بالإقصاء بعيدًا عن عالم الإهانة.
وعن حوارات أخرى مصاحبة تخترق الحياة الخاصة، وتقتحم الخصوصية الشخصية، وعن ضجيج مبهر بتكلفة لا محدودة وعن ملاحظات نقدية متكررة باتت مملة لأصحابها النقاد قبل الجمهور.
كان النور الساطع المختلف لأوبرا وينفري أمرًا يستحق إعادة التأمل.
ولأن الإنسان هو ابن ظروفه العامة وعلى امتداد الصورة الذهنية تطالعنا الأخبار بوفاة السيد فاروق محمد الماوي، بعد أن عقره كلب شرس تربى في بيت المذيعة أميرة شنب، وبعد صياح ورفض الضيوف الإجابة عن عدد من أسئلة برنامج العرافة ذات الطابع الصادم، وبعد خضوع الفنان محمد فؤاد للرعاية الطبية بعد عودته من برنامج التسالي العنيف الذي لا ينتهي، وبعد تصرف البعض من مقدمي البرامج تصرف العالم بالسر الذي يقول الحقيقة الكاملة وحده في خطاب حاد للجمهور العام.
تذكرت أوبرا وينفري وبرنامجها الحواري الأشهر، فقط أود أن نتذكر كيف كانت تحرص على إبراز أجمل الصفات الإنسانية في ضيوفها، ليس على سبيل الدعاية ولكن على سبيل فهم قصص النجاح.
فبدون هذا النور والضمير الإنساني الحي والإرادة الذاتية القوية، ووجود داعمين محبين لك؛ لا يمكن أن تسير في طريق النجاح. لاحظت أوبرا التي تعرف أن الإعلام هو صديق للبشر يجب أن يحبهم ويفهمهم ويدعمهم بكل قوة؛ أن جميع الضيوف كانوا يسألونها: هل سارت الأمور على ما يرام؟ هل كنت مفهومًا عندما تحدثت؟
وكانت تعرف بخبرتها- قبل اعتزالها وهي في قمة النجاح بعد ربع قرن من برنامجها الأشهر حول العالم مع أوبرا وينفري- أنه من المهم جدًا للمحاور التليفزيوني أن يساعد ضيفه على أن يكون حقيقيًا ومفهومًا وفي حالة جيدة.
لأنها تعرف أن ذلك مهم جد للأفراد الفاعلين، وأكثر أهمية لوطنها الأمريكي الذي يجب أن يرى الجمهور فيه نجومه المحبوبين كقصص نجاح تستحق التقدير، لأن نماذج الشهرة في مجالات العلم والفن والرياضة والسياسة والعمل العام هي مجموع إنتاج أي أمة من أفرادها المتميزين الذين يجب أن يشاهدهم الجمهور في حالة صادقة ومفهومة وبسيطة حرصًا على روح الأمة، لأن هؤلاء هم الضوء المرئي الإنساني الذي يتماس مع الضوء الداخلي للجمهور العام الباحث عن التحقق والنجاح والظهور العام.
كانت أوبرا وينفري تؤكد- عبر عملها المهني المنتظم- ضرورة أن يبدو ضيفها مهمًا، ليس بمقياس ما يمتلكه من أموال وعقارات وسيارات فارهة، بل بما قدمه من خدمة للمجتمع وللناس، وبما كان عليه من أصالة شخصية في التعبير عن نفسه كشخص حقيقي أضاف لعمله المهني وللعمل العام، عبر الإجابة عن سؤال من أكون؟ وماذا أريد؟ وكيف كان حقيقيًا بأن كان هو نفسه ولذلك عرف طريق النجاح.
وتميزت وينفري المتعلمة التي حصلت على منحة دراسية جامعية مجانية؛ لكونها من الأوائل المتفوقين، وتخرجت في جامعة تينيسي، وأوبرا ملهمة جدًا بالنسبة لشخصي المتواضع لكونها فنانة مسرحية بالأساس، وهو مجال عملي الاختصاصي، وأستطيع+ عبر فهمي لها كممثلة مسرحية- فهم لماذا نجحت في أن تكون طبيعية ومفهومة وعميقة وذات طريقة مرحة وعاطفية في ذات الوقت. إنه المسرح وإنها الدراما التي تقدم فهمًا عميقًا للإنسان.
ولأن المسرح الأمريكي الحديث، بأبرز رموزه مثل ميللر وتينسي ويليامز وغيرهما، يعرفان ضرورة أن يكون المسرحي عطوفًا على الإنسان باحثًا عن ذلك النور الداخلي فيه.
ولأن الحياة العملية في أمريكا تتيح للبشر التعبير عن أنفسهم في المسرح والإعلام والعمل العام والتمثيل في الدرامات التليفزيونية والأفلام، فقد مارست وينفري تلك الأعمال المتنوعة بمنتهى الحرية والصدق مما فتح أمامها أبوابًا للنجاح الكبير.
ولذلك فلم تجعل أوبرا وينفري معها حراسًا أشداء، ولم تملك كلابًا للحراسة الشرسة، ولم تذهب بثروتها الكبيرة ولا نفوذها الاجتماعي الذي جعلها عضوة في الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم إلى عزلة اجتماعية، منتمية فيها إلى عالم الأثرياء.
لم تنفصل عن الفتاة المكافحة التي ولدت في ريف ولاية مسيسيبي، التي عاشت طفولة قاسية جدًا في أسرة عانت انفصال الأب والأم، وما إلى ذلك من ضغوط اجتماعية حرصت على أن تعلنها للجميع في إطار الشفاء الروحي والعقلي من عدوان وتحرش وتشرد تعرضت له وهي طفلة.
قدمت نفسها كروح حقيقية ووظفت ثروتها الكبرى التي جنتها من عرض برنامجها الحواري في 125 قناة في توقيت واحد، ومن أرباح الاستوديوهات التي تمتلكها في هاربو وغير ذلك من الأعمال، في أعمال الخير.
ولأنها تعرف أن خير الخير كله هو أن تعلم الشخص كيف يصطاد السمكة لا أن تعطيها له مرة واحدة، فقد وجهت أعمالها الخيرية في معظمها للتعليم.
لأن التعليم هو النور الذي يعيد إنتاج الإنسان ويفتح أمامه أبواب الصعود الاجتماعي.
فقد وفرت أوبرا وينفري عبر مؤسساتها الخيرية فرصًا للحياة الآمنة وللتعليم الجيد، عبر منح دراسية لخمسة وستين ألفا من البشر طوال ربع قرن.
بعضهم أصبحوا أساتذة في جامعة هارفارد، وبعضهم أصبحوا قادة وعلماء يشار لهم بالبنان.
وامتد اهتمامها الإنساني لأصولها الإفريقية، فقدمت واحدًا وخمسين مليونًا من الدولارات لصالح تعليم الفتيات الفقراء في إفريقيا.
ولأن وراء كل نور وهج يدعمه فجدير بالذكر أن ينفري هي صديقة شخصية للشاعرة الأمريكية الشهيرة مايا إنجيلور، التي كانت هي الأم الحقيقية الروحية لها، ومايا أيضًا هي أحد أبرز النماذج لتعدد الإبداع الإنساني، فهي شاعرة وكاتبة مسرحية ومخرجة سينمائية وممثلة وراقصة وأستاذة جامعية.
وأحد أبرز كتاب السير الذاتية، وهي التي ساعدتها على الخلاص من الألم الذي عاشته طفلة صغيرة، وهو باب كبير، دفع بأوبرا لأن تكون على هذا المستوى من الإنسانية.
إنه الإنسان الحق عندما يملك الثروة، إنها أوبرا وينفري التي ترى أن نجاحها المادي قد زودها بقدرة على التركيز في الأمور المهمة فعلًا.
ومنها أن تكون عندما تملك قوة المال قادرًا على إحداث تغيير للأفضل ليس في حياتك فحسب، بل أيضًا في حياة الآخرين.
إنها حقًا صورة إنسانية ملهمة لفنانة مسرحية وممثلة أفلام وإعلامية كبيرة تستحق التأمل وتستحق التأثر بنورها الإنساني الساطع، وهي درس حي نابض لهؤلاء الذين يملكون المراكز الجديدة في الإعلام، والذين حصدوا ثروات هائلة من الفن، ومعظمهم عاش ظروفًا موضوعية قاسية في البدايات الصعبة.
فهل يبادرون إلى أعمال ثقافية لتعديل المسارات المهنية التي منحتهم كل شيء؟
هل يقدمون للمجتمع رسالات خير في تعليم الفقراء وفتح أبواب الأمل؟
هل يدركون- على أقل تقدير- أهمية أن تكون إطلالاتهم على الجمهور الذي جعلهم من النخب التي يشار إليها بالبنان، إطلالات محترمة وإنسانية وقادرة على أن تصدر نورًا ساطعًا يعطي لتلك المهن قيمتها الحقيقية التي تبدو وكأنها تغيب؟
فقط، وعلى أقل التقديرات، يجب أن يتوقف هؤلاء تمامًا عن كونهم مادة للتسلية عبر الإهانة، احترامًا لأنفسهم وللجمهور الذي أحبهم.



