الإعلام والدراما والأفلام هي إحدى أهم أدوات صناعة الأساطير المعاصرة.
وبالطبع صناعة الوعي العام، ولكن استخدامها لخلق حالة وجدانية زائفة تصنع اضطرابًا فكريًا وإنسانيًا وتعيد طرح أفكارًا وهمية عن الإنسان المعاصر، لمحاولة إعادة حكي التاريخ الإنساني بطريقة مزورة، فهي مسألة تستحق المواجهة الإبداعية والفكرية لكشف هشاشة الطرح، وتزويره للتاريخ، وتأجيجه لمشاعر اضطهاد قديمة لا دخل للحضارة المصرية بها.
عن فيلم كليوباترا يدور حديث التزوير، إذ إن الخيال في تناول الشخصيات التاريخية وفقًا للمتعارف عليه في العمل الإبداعي الدرامي يجب أن يحتفظ بالصفات الأساسية للشخصية التاريخية والظروف الموضوعية المصاحبة لتاريخ حياتها.
وهو الأمر الذي خالفته شبكة نتفيلكس في إعلانها التشويقي لفيلمها عن كليوباترا والذي أعلنت عن طرحه على منصتها في العاشر من مايو القادم 2023.
وفيه تظهر صورة للممثلة التي تؤدي دورها في بشرة سوداء داكنة، وفي ظل حالة الغضب على مواقع التواصل الاجتماعي ردت الممثلة أديل جيمس على منتقدي الفيلم وكأنهم يعلقون على لون بشرتها، وليس على اختيارها هي الخاطئ ببشرتها السمراء في دور الملكة المصرية المعروفة ببياض بشرتها، ولكونها ملكة مصرية بطلمية شقراء أيضًا.
والملكة كليوباترا هي آخر سلالة الأسرة المقدونية التي حكمت مصر، وهي زوجة بطليموس الثالث عشر.
وهم أسرة عرفت بالبطالمة وحكموا مصر منذ عام 323 ق.م وحتى مقدم الغزو الروماني عام 30 ق.م.
ومما يحسم الجدل تمامًا وجود الآثار المادية لتماثيل الملكة وصورها المسكوكة على العملة ببشرتها البيضاء التي تعود لأصولها اليونانية.
وهي تعبير تاريخي عن العلاقة الوثيقة بين مصر القديمة، واليونان القديمة الإغريقية التي تعترف بتأثرها بالحضارة المصرية القديمة.
لماذا لم تقم ضجة في إنجلترا عندما تم تقديم الملكة الإنجليزية تشارلوت ملكة بريطانيا في بشرة سوداء عبر دراما "بريد جرتون"، وهي من إنتاج نتفيلكس؟
حدثت بالفعل ضجة كبيرة وتم وصف الأمر بالسقوط والفظاظة والسوقية ولكنه مر بطريقة ما وفقًا لتصاعد حركات استبدال الأدوار السوداء بالبيضاء في إطار شعور العرق الأبيض الأنجلو ساكسوني بالذنب بشأن أصحاب البشرة السوداء Blackifications أو غسيل عقدة الذنب التاريخية في أمريكا المعاصرة والتي تظهر من حين لآخر في العلاقة مع المواطنين أصحاب البشرة الداكنة، وهي ما تعرف بحركة Blackwashing.
وهي حركات اجتماعية تستهدف تحسين مشاعر المواطنين السود هناك.
ولذلك، وفي إطار صبغ الملكات والشخصيات الأشهر بهذا اللون الأسود، يتم تطهير المجتمع الأبيض بثقافته التاريخية عن السادة أصحاب العرق الأنجلو ساكسوني الذين هم في اعتقادهم بأنهم عرق متميز جدًا ببشرته البيضاء وعيونه الزرقاء وشعره الأشقر.
ولذلك فلا يتوقف الأمر عند هذا الحد. ففي إطار هذا الاسترضاء الذي يلهو بالأعراق ويمرح بالأقليات العرقية والجماعات الثقافية المتنوعة، ويستهدف إثارة البشر، وإعادة إطلاق صراعات قديمة متعددة بشكل معاصر.
تقوم نتفليكس بالذهاب في اتجاه مصر القديمة، وهي الحضارة البعيدة عن هذه المشكلة الأنجلو ساكسونية مع الأفارقة واسترقاقهم ودفعهم بعد جلبهم من بلادهم الأصلية خلال فترات الاستعمار الحديث لتلك البلاد الإفريقية، للعمل في الأعمال الشاقة وهي المسألة التي ناضل السود من أجلها نضالًا تاريخيًا ليحصلوا على حقوقهم كمواطنين هناك.
وفي هذا الإطار وبسبب عقدة الاضطهاد التاريخية انتشرت فكرة في القرن التاسع عشر في أمريكا تشير إلى أن السيد المسيح عليه السلام صاحب بشرة سوداء.
ومن الأمور المدهشة أن مارتن لوثر كينج قد أدمج صراعه من أجل الحقوق المدنية للسود، وحركته الإصلاحية في إطار ديني إذ رأى أن نضاله وسعيه لتلك الحقوق هو استمرار لسعي السيد المسيح ونضاله ضد العنصرية لكونه من أم داكنة اللون هي السيدة كريم العذراء، كما تعتقد تلك الحركة.
وانتشرت هذه الدعوة لتصبح بمثابة اعتقادًا راسخًا بالمسيح الأسود.
وفي هذا الامتداد، ومع محاولة تأجيج مشاعر حقيقية في الواقع المعاصر عن هجرات جماعية من جنوب الصحراء إلى تونس والمغرب، واستخدام لون البشرة لصنع توترات اجتماعية، والحركة المغربية النشطة التي ترى أن شمال إفريقيا كان لونه أسودًا في التاريخ الأصلي، وأيضًا الإشارات إلى سواد بشرة الطوارق في الصحراء الليبية وما إلى ذلك، مع محاولات قريبة لاستخدام النوبة المصرية استخدامًا غرائبيًا في هذا الإطار، مع بعض الإشارات لعرب الصحراء المصرية وخلط للتاريخ بالكتب المقدسة ومغازلة الاستعمار الحديث من بعض الباحثين والكتاب، ومنهم مشاهير لهم اعتراف عربي ودولي كبير مثل الروائي الليبي الشهير إبراهيم الكوني الذي يفسر العهد القديم تفسيرًا غرائبيًا عن أمر الرب لموسى بالعيش في البرية، والكوني يحدد تلك البرية بأنها سيناء، ويصفها- رغم كونه المثقف العربي- بأنها أرض الميعاد الحقيقية.
إنها إشارات تبدو للوهلة الأولى مثيرة للضحك والسخرية لمخالفتها الواضحة للتاريخ العام ولتاريخ الحضارات.
إلا أن اللهو بالأعراق والألوان حقًا لهو أمر بالغ الخطورة، في عصر الثقافة المسموعة المرئية الشفاهية والتي لا يعرف معظم من يتعاطون معها ومع صورها المتكاثرة عبر الشبكة الدولية للمعلومات التاريخ الإنساني الحقيقي، كما كتبه الباحثون الجادون، ومنهم ديو رانت وكتابه المهم تاريخ الحضارة.
وعلى امتداد الصورة المشوهة، وفي إطار سعي إثيوبي صادم للسيطرة على مياه النيل، ومحاولات إعادة تقسيم السودان الشقيق يتم محاولة تأكيد ذلك النزوع الإفريقي المعاصر بأصابع الاستعمار المعاصر بحقوق وهمية مسلوبة لهم لدى مصر في سعي محموم لاجتزاء التاريخ المصري القديم واتصاله الطبيعي بالامتداد الإفريقي لمصر، سواء بدول حوض النيل أو ما هو أبعد من ذلك بكثير، وفي محاولة أيضًا لمحو نضال مصر التاريخي بعد 1952 لحصول الدول الإفريقية على سيادتها واستقلالها عن الاستعمار الأوروبي الأنجلوساكسوني والفرانكوفوني التاريخي.
وذلك بالإشارة للتنافس الإنجليزي الفرنسي الأشهر في تاريخ الاستعمار الحديث والمعاصر، والذي امتد أيضًا لدول أوروبية أخرى، كما هو معروف ومستقر في التاريخ الحديث.
ولذلك فالعودة لاستخدام مفهوم المركزية الإفريقية هو عودة غوغائية دعائية تستخدم الصور الافتراضية اللامحدودة للترويج لأحد أبرز وأخطر الأفكار المنتمية لتلك الحركة بعد فكرة المسيح الأسود، وهي الإشارة الوهمية إلى أن أصل الحضارة المصرية القديمة هو أصل إفريقي فقط.
ولذلك وبالعودة لفيلم كليوباترا السوداء فإن دعوات منع عرضه هي دعوات غير مجدية بل هي منتظرة من شبكة نتفليكس لإحداث شهرة كبيرة ورغبة في مشاهدة كليوباترا السوداء.
الأهم والضروري الآن هو حماية الداخل المصري والعربي من تلك الأكاذيب الملونة بالاهتمام بتقديم أعمال من الثقافة المصرية القديمة وتدريس اللغة المصرية القديمة في المدارس، وتخصيص برامج واضحة في المناهج التعليمية والإنتاج الفني والثقافي عن الحضارة المصرية القديمة.
أما العالم الخارجي في المحيط الإقليمي والأوروبي والأمريكي والآسيوي وفي كل بقاع الأرض، فلديه ولع خاص بالحضارة المصرية القديمة، وهو ولع يحتاج لاهتمام ثقافي إبداعي لتأكيده ونشره في الدوائر الجماهيرية، لأنه مستقر في الدوائر الأكاديمية هناك.
الحضارة المصرية القديمة وكليوباترا الرائعة أكثر رسوخًا واستقرارًا وحضورًا في التاريخ الإنساني.
لا يهدد تاريخ مصر القديمة فيلم قادم على شبكة نتفليكس، فهو أرسخ وأوضح وأكثر استقرارًا من أي حقائق إنسانية أخرى.
مصر أقدم حضارة عرفها التاريخ البشري، مصر فجر الضمير الإنساني.
أما نحن فإننا أحفاد المصريين العظماء القدماء بلا شك وبكل فخر واعتزاز.



