نشبت منذ أيام الحرب السودانية السودانية بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، وبدأت وسائل الإعلام في جميع أنحاء العالم تنقل لنا الأحداث أولا بأول، وأخذ كل طرف من الطرفين المتصارعين يبرر موقفه، ويحمل المسؤولية على الطرف الآخر، وأن هدفه من شن الحرب هو المساهمة في تحقيق التحول الديمقراطي المنشود، وأن تتولى حكومة مدنية إدارة شؤون البلاد.
وفي الحقيقة هناك عدة تساؤلات تفرض نفسها بشأن هذه الأزمة: هل إعلان طرف سوداني الحرب على طرف سوداني آخر هو السبيل لتحقيق الحلم في وجود الديمقراطية؟! وهل يحقق ذلك الحفاظ على معنى الدولة الوطنية؟! أم أن هذه الحرب السودانية السودانية ستأخذ السودان إلى نفق مظلم؟!
وللإجابة على تلكم التساؤلات يجب أن نحدد بداية الضوابط التي ينبغي أن تتم هذه الإجابة في اطارها، لأننا لو تركنا الأمر دون وضع ضوابط، سيجيب كل طرف حسب ما تمليه مصلحته، وليست مصلحة السودان، وأعتقد أن هذه الأخيرة هي الأساس الذي يجب أن تدور مواقف كل الأطراف معها وجودا وعدما، فلا مصلحة تعلو فوق مصلحة السودان، والحفاظ على مقدراته، وحماية حقوق الشعب السوداني من المساس بها، وعدم السماح بتهديد وحدة هذا الشعب وتماسكه، وعدم المساس بأمنه واستقراره.
تلكم هي الضوابط التي يجب أن تحكم الإجابة على التساؤلات التي تم الإشارة إليها سلفا، فما يحدث في السودان الآن يمثل عقبة أساسية في تحقيق التحول الديمقراطي، ويشكل حاجزا مانعا من ممارسة أي نشاط سياسي أو غيره يصب في مصلحة السودان، كما أن ما يحدث الآن في السودان يقضي على معنى الدولة، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون لها كيانا قويا يصعب المساس به، في ظل هذا الانقسام الذي يضرب الجيش الوطني في الصميم!
فلا ريب أن فكرة الجيوش الموازية هي نبت شيطاني، بهدف تفكيك الجيوش الوطنية، وانهيارها، ومن ثم تضرب الحرب أوزارها في كل بقعة من بقاع الدولة، ليتم القضاء على الأخضر واليابس، وحرمان الشعوب من تحقيق أحلامهم، وطموحاتهم في تعزيز ودعم الحقوق والحريات، وتحقيق التنمية الشاملة في كل المجالات.
فما حدث من قبل في سنوات حكم البشير، وخاصة ما يتعلق بإنشاء قوات الدعم السريع بمعزل عن الجيش، ليس مقبولا على الإطلاق، لأن ذلك يعد بداية الانهيار للجيش الوطني، بسبب وجود ميليشيات مسلحة موازية، مما قد يترتب عليه استغلال هذا الانقسام من قبل كيانات أخرى خارجية، لتتحكم في دفة المصير السوداني، والتحكم في تحديد لحظة الوصول إلى شاطئ الأمان!
فليس منطقيا للقضاء على التمرد في مكان معين في الدولة، أن تحدث انقساما في الجيش، وتعمل على إنشاء قوات منفصلة عن الجيش، وليست تحت قيادته، لأن ذلك قد يترتب عليه أن تصبح هذه القوات متمردة على الجيش نفسه، على أساس أنها ليست تابعة له، ويحدث ما لا يحمد عقباه نتيجة هذا التمرد، وتنشب الحرب بين أبناء الشعب الواحد، بدلا من أن يكون هناك جيش وطني واحد يضم في صفوفه كل أبناء الوطن للدفاع عن مقدراته، وسيادته، واستقراره!
ولعل ما يحدث الآن في السودان يمثل تهديدا كبيرا لاستقرار السودان ووحدة أراضيه، كما أنه يمثل تهديدا لاستقرار المنطقة بأكملها، وإذا لم يعي الطرف المسؤول عن الحرب الدائرة في العاصمة السودانية وبعض المناطق الأخرى خطورة الموقف، فإن ذلك سيأخذ الأزمة السودانية إلى طريق اللاعودة، وسيكون الشعب السوداني هو المهزوم الحقيقي في معركة ليس طرفا فيها، وستتراجع كل الفرص في تحقيق التنمية المستدامة، والتي يعتبر الأمن والسلام من أهم أهدافها!
ولعل المتابع للموقف في الدول التي حدث انقسام في جيوشها، يدرك أنها ما زالت في طريق اللاعودة، وقد أصبح شبه مستحيل تحقيق الوحدة، وعودة التماسك المجتمعي، فمنذ ما حدث من انقسام في السنوات الماضية للجيوش العراقية، والسورية، والليبية، واليمنية، لم يعد أمرا سهلا عودة هذه الجيوش إلى سابق عهدها، من حيث القوة، والترابط، والكفاءة، ولن تسمح بعض الأجهزة والكيانات العميلة في تحقيق هذه العودة، لأن في استمرار الانقسام ما يحقق مصالح هذه الأجهزة، وهذه الكيانات!
فهل يدرك أصحاب القرار في السودان هذا الأمر قبل فوات الأوان؟! وهل يتم طرح المصلحة الشخصية جانبا من أجل مصلحة الوطن؟! أعتقد أن الأزمة السودانية السودانية لا نعرف إلى أين ستأخذ الشعب السوداني، وكل المنطقة، إذا لم تخلص كل الأطراف النوايا حفاظا على استقرار المنطقة.
ولعل المتابع للموقف المصري في هذا الشأن، يرى أن القيادة السياسية المصرية قد تعاملت بحكمة مع هذه الأزمة، ولم تتعامل مع قضية احتجاز بعض الجنود المصريين المشاركين في بعض التدريبات مع الجيش السوداني إلا بقدر من العقلانية، وتحقيق التوازن بين المصلحة المصرية التي لا يمكن على الإطلاق السماح في مجرد التفكير في المساس بها، وبين المصلحة السودانية التي ترى القيادة السياسية المصرية أنها أساس كافة مواقف القاهرة حفاظا على استقرار الخرطوم، ووحدة الشعب السوداني وتماسكه.
فإذا أيقن كل طرف مصير الحرب القائمة بين الجيش وقوات الدعم السريع، وما قد يترتب عليها من ضياع لقضية الشعب السوداني المتعلقة بأمله في وجود سلطات تعمل في إطار الدستور والقانون، وإذا أيقن أيضا الجميع ضرورة العمل على سرعة دمج قوات الدعم السريع في صفوف الجيش الوطني، وأن يعمل الكافة تحت قيادة واحدة هي القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية، وإذا تم الأخذ بالمناشدات والمبادرات المصرية وغيرها من الدول، فإن الأزمة قد تنتهي، وينتهي الخوف من آثارها المدمرة.
أما إذا لم ير كل طرف إلا مصلحته الشخصية، ضاربا بعرض الحائط مصلحة الوطن، فإن التناحر على السلطة سيستمر، ولن تنتهي الأزمة، وقد يطول الصراع سنوات وسنوات، وقد يؤدي ذلك إلى نشوب حرب أهلية، وخاصة إذا تم فتح الأبواب للأجندات الخارجية والداخلية، التي لا تعترف بحق الشعب السوداني في الاستقرار وتحقيق التنمية.
أستاذ القانون ونائب رئيس جامعة أسيوط السابق



