… واستكملت رحلة الغربة في وقت تشابكت وتزامنت أحداث ما كان متصورًا لها أن تتزامن وتتلاحق هكذا، اشتداد الأزمة الاقتصادية والسياسية بالمغرب، وسنوات الرصاص التي وقعت فيها انتهاكات جسيمة، وأوضاع الإعلام والصحافة عام 1985 عندما تولى إدريس البصري الداخلية التي لقبت في وقته بـ"أم الوزارات" لهيمنتها على مفاصل الدولة، وجمع معها وزارة الإعلام، وهي كلها بتداعياتها قد أدت إلى المشهد العام في المغرب بهذه الفترة التي قضيتها متنقلًا بين لندن وكازابلانكا مشرفًا على إصدار السياسة الكويتية من الدار البيضاء.
في الوقت الذي كان فيه وزير الداخلية إدريس البصري أقوى رجل في المغرب، وهو ابن بلدة سطَات القريبة من الدار البيضاء، أثيرت فضيحة الحاج ثابت ونزواته الجنسية التي اختلط فيها الخيال بالواقع، والتي هزت المغرب وتزامنت ووقعت أحداثها في الشهر الكريم، فتم القبض على قائد الشرطة الشهير بالحاج ثابت، والذي نفذ فيه آخر حكم بالإعدام عام 1993 بتهم تتعلق بالفساد والاغتصاب والاختطاف.
تمّت متابعة "الضابط"، بعدما تقدّمت سيّدة بشكوى ضدّ شخص تتهمه في مضمونها بالاحتجاز والاغتصاب في إحدى شقق الدّار البيضاء. التحريات التي باشرتها الشّرطة القضائية تبيّن أن الأمر يتعلّق بمحمد مصطفى ثابت، المعروف بلقب "الحاج ثابت"، الذي كان يشغل منصب رئيس الاستعلامات العامة لأمن الحي المحمدي عين السبع، والذي اعترفَ خلال البحث التّمهيدي بأنّه "كان يتوجه إلى أبواب المدارس والكليات أو الشوارع على متن سيارته ويعرض على الفتيات مرافقته، وكلما ركبت معه إحداهن يتحايل عليها، ومن رفضت يهددها ويذهب بها إلى شقته الموجودة بشارع عبد الله بن ياسين، وإن رفضت أرغمها على الاستسلام له". وأظهرت التّحقيقات أنّ الجاني الذي اعترف بالمنسوب إليه مع حوالي 500 امرأة وفتاة قاصر، كان يعمدُ إلى تصوير جميع أفعاله ويضمّها إلى أشرطة مصوّرة توثّق الجرائم التي توبع بها، بحيث كان يحتفظُ بها في شقّته. لا أحد صدق الأمر في البداية..
القضيّة تَابعها الملك الرّاحل الحسن الثّاني شخصيًا عن بعد، عبر كاميرات كانت منصوبة في قاعة الجنايات بمحكمة الاستئناف بالبيضاء. فعلا كانت محاكمة الحاج ثابت أول محاكمة في تاريخ المغرب تتابع عن بعد من طرف جلالة الملك المغفور له الحسن الثاني ومن طرف وزارة العدل. ولم يكن سرا تنصيب كاميرتين طوال أزيد من شهر في قاعة الجنايات بمحكمة الاستئناف بالبيضاء، كما أنها كانت مجهزة بتقنيات متطورة جدًا لنقل المرافعات، بحيث كانت أي همسة تسمع، إلى درجة أنه تم التنبيه على السادة المترافعين إلى انتقاء العبارات والجمل حفاظا على قدسية ومقام من يتابع مرافعاتنا، وفعلا كانت المرافعات- رغم شدتها وشراستها- في مستوى كبير من الترافع، كما كان هناك مكتب يسهر عليه قاض كبير مختص في نقل جزئيات المرافعة إلى الوزير شخصيا.
وكانت أول محاكمة يجرى تتبعها عن بعد، وكل ذلك كان يدخل في مراقبة توافر عناصر المحاكمة العادلة من طرف أعلى سلطة في البلاد، نظرا لما تبع هذه المحاكمة طبعا من تداعيات لدى الرأي العام الوطني والدولي، إلى درجة تخصيص فقرات من الإذاعات الأوروبية والصحافة الأمريكية جزءا من مرافعاتها وأحكامها في زمن لم تكن الإنترنت خرجت للوجود.
الحاج ثابت مصطفى أحد أبناء الزاوية في "درب غلف" بالدار البيضاء، ينحدر من أسرة متواضعة، والده كان يعمل قيما دينيا على مسجد درب غلف العتيق، والدته تتحدر من مدينة تاونات، وكان الحاج ثابت يحبها حبا كبيرا لأنها الأم الحنون والعطوف أمام قسوة الأب الذي ربى ثابت الابن الوحيد لأبويه تربية دينية محافظة، حتى إنه ختم القرآن خمس مرات بالمسجد العتيق في درب غلف، وكان أستاذا للغة العربية في التعليم الإعدادي، متزوج بامرأتين، له من الأولى بنتان وولد، ومن الثانية الصغرى بنت وولد، «كان يحب فريق الرجاء البيضاوي لكرة القدم حتى النخاع، رجل شعبي ونخوة ويحب المطالعة وأفلام «الأكشن» والخيل، وبداية مساره المهني في التعليم كان خطأ تم تداركه».
لم يستهوه التعليم فالتحق بالأمن بعد اجتياز الاختبار كحارس أمن، وهي أدنى رتبة في جهاز الأمن، التحق بعد ذلك بمركز بوقنادل حيث خضع لتكوين تخرج منه برتبة مفتش شرطة، عمل في بداية مساره الاستعلاماتي في الأمن بمدينة أكادير، وفيها تعلم الأمازيغية ونسج شبكة من العلاقات مع أعيان وتجار المدينة، ونهل الأسس الأولى للتجارة والربح عبر البيع والشراء، وفتحت بذلك شهيته في عالم المال والأعمال، فقد كان يدخل في صفقات تجارية في المجال الزراعي بالدرجة الأولى، كأن يشتري محصولا زراعيا ويعيد بيعه وتصديره، بدأت بعد ذلك أطماعه التجارية تتوسع لتشمل العقار، صفقات درت عليه أموالا طائلة، وحينها فقط بدأت «رائحته تصل الأنوف» أصبح الرجل تحت دائرة الضوء ولم تعد أطماعه لها حدود، تلذذ بالثروة والجاه والسلطة وحينها فقط أصبح رأسه مطلوبا».
ولم تخب أضواء الحاج في عالم الاستعلامات ولم يؤثر البيع والشراء على مساره المهني الاستعلاماتي، بل بالعكس حافظ الحاج على مساره التصاعدي في الاستعلامات العامة، إذ تمت ترقيته إلى رتبة ضابط للشرطة القضائية، ثم تعيينه رئيسًا مكلفا بمحاربة التنظيمات الماركسية اللينينية ومد الجماعات الإسلامية، خاصة العدل والإحسان، «كان رجلا للاستعلامات العامة من الطراز الرفيع، حتى إنه تم اختياره وضمه في اللائحة التي قدمت للحسن الثاني والتي بها رجال الأمن الذين سيسهرون على السير العادي لألعاب البحر الأبيض المتوسط بالدار البيضاء»، ورقي إلى رتبة عميد، وبعدها انتقل إلى أمن سيدي عثمان حيث اشتغل رئيسًا للاستعلامات العامة، وبعدها في بداية التسعينيات تمت ترقيته إلى عميد ممتاز وأسند له منصب رئيس الاستعلامات العامة بقطاع عين السبع الحي المحمدي، وبقي في ذلك المنصب حتى تم تفجير قضية الحاجة حليمة التي تقدمت بشكاية تتهم فيها الحاج ثابت، المحاكمة كانت علنية، إلا عندما طالبت النيابة العامة بجعلها سرية في الجانب المتعلق بعرض وسائل الإثبات، وهي 118 كاسيت فيديو، كما أنها تحمل صورا لضحايا نساء ورجال متهمين، ليس لأي أحد الحق في الكشف عن عوراتهم أمام الجمهور في جلسة علنية. لذلك طالبت النيابة العامة باقتصار مشاهدة وسائل الإثبات على المحامين وهيئة المحكمة دون غيرهم، ضمانا لحقوق الدفاع والمتهمين. واستمرت النيابة العامة في الدفاع عن حق الضحايا اللاتي تجاوز عددهن خمسمائة امرأة حضرت بعضهن كشاهدات، ودافعت عن حقوقهن وعدم ذكر أسمائهن، حتى لا يؤثر على سمعتهن، خصوصا أن الكثيرات منهن أصبحن متزوجات ولديهن أطفال.
وعليه أصدرت غرفة الجنايات بمحكمة الاستئناف في الدار البيضاء، حكما بالإعدام على ثابت محمد، مع تحمل كافة مصاريف المحاكمة وبإتلاف الأشرطة المحجوزة ومصادرة المحجوزات، وبإغلاق الشقة الكائنة بشارع عبد الله بن ياسين بالبيضاء. وتم تنفيذ عملية الإعدام في حقه فجر الأحد 5 سبتمبر "ايلول" 1993 بسجن القنيطرة.
لم تكن فضيحة الكوميسير الحاج ثابت الوحيدة التي تزامنت مع شهر رمضان فقد ارتبط الشهر في تاريخ المغرب بالكثير من المحاكمات الشهيرة، والتي غالبا ما كانت تعرف متابعة ومواكبة سواء في الداخل أو الخارج، وما زال عالقًا بذاكرة المغاربة في العشر الأواخر من شهر رمضان من عام 1973م، الحكم بالإعدام الذي أصدره القضاء المغربي على ضباط شاركوا في محاولة انقلابية على نظام الملك الراحل الحسن الثاني، وسرعان ما نفذ الحكم رميا بالرصاص.
وتبقي أهم الأحداث التي ميزت رمضان عام 1972 الحكم بإعدام منفذي محاولة الانقلاب الثانية بقيادة الجنرال أوفقير، بإصدار المحكمة العسكرية حكمًا بالإعدام على 11 قياديًا في الجيش المغربي، ونفذ فيهم حكم الإعدام في شاطئ "شليحات" بالقنيطرة.



