رجل.. والرّجال قليل في زمن الجبن والهوان.. مقولة تتكرر كثيرًا في زمن قلّ فيه الرجال وكثر فيه الذكور، في نهاية ثمانينيات وبداية تسعينيات المغرب، بما حملت أمواجه المتلاطمة من أهوال وتناقضات ومفاجآت، كان هناك رجال، ظلوا يحملون هموم أمتهم، ويعانون آلامها، ويجسدون آمالها، مناضلين عن حقوق الأمة، ذائدين عن حماها، بشجاعة الفارس النبيل، الذي لا يستسلم ولا يرفع الراية البيضاء، وإن رأى من حوله يستأسرون، ويسلمون يتمسك بالحق، الذي أمن به، وإن رأى من حوله يتنازلون عنه واحدًا بعد الآخر.
رجال ليسوا ككلّ الرّجال، تعرّفت عليهم في مرحلة تواجدي بالمغرب من خلال مسيرتي الصحفيّة، في المرحلة التي انهالت عليّ الذكريات بكثافة، وأنا أسجل هذه المرحلة في رحلتي تذكّرت مواقفهم العمليّة الّتي تنبع في قحط وجدانهم الّذي يتدفّق حرارة على مصلحة بلدهم ومجتمعهم وشعبهم، كانوا يتدفّقون ثقة بالنّفس تدفعهم إلى الوقوف بثبات على هذه الأرض الّتي أحبّوها بعمق فبادلتهم هذا الحبّ.
مجموعة رجال من المغرب التقيت بهم معًا على مائدة غداء بدعوة كريمة من الزميل الصديق رمزي صوفيا، ضمت على رأسهم الكاتب والصحفي المغربي مصطفى العلوي وبعضًا من أصدقائه من الوسط الاعلامي والسياسي القريبين من القصر الملكي، المائدة استضافت ايضًا المؤرخ والدبلوماسي والصحفي محمد العربي المساري والفنان التشكيلي عبد اللطيف الزين والممثل السينمائي محمد حسن الجندي والشاعر محمد بنيس والروائي والناقد محمد برادة والإعلامي عبدالله شقرون، الذي سخر حياته للعمل الإعلامي الأدبي والفني، وأغنى الخزانة الوطنية ورصيد التوثيق بخمس وخمسين مؤلفًا تناولت حقول الشعر والمسرح والإذاعة والتليفزيون، وجاء مجلسي إلى جواره، وكنت التقيت به من قبل في إحدى الأمسيات الفنية مع زوجته الممثلة المغربية أمينة رشيد التي قالت عنه "لولا وجوده في حياتي لما كنت اسمًا معروفًا ومشهورًا".
ارتبط اسم الاعلامي عبدالله شقرون بالتليفزيون المغربي منذ تأسيسه، في مرحلة كان المغرب منذ استقلاله عام 1965 اللغة الفرنسية تحكمه، فقد نجح الفرنسيون في فرض سيطرتهم الكاملة على الأرض والألسنة والعقول والقلوب وعقول السكان وألسنتهم، ورغم أنهم رأوا ألا يخلو برنامجهم المدرسي من حصة للغة العربية، ينتدب للقيام بها شيخ من شيوخ الكتاتيب القديمة يتمثل فيه الجهل والتأخر والقسوة والغلظة، يختزنها في ذاكرتهم البكر صورة للغة العربية مقترنة دائمًا بصورة الشيخ القاسي الغليظ، مقارنة بصورة المدرس الفرنسي الخفيف الأنيق الممتلئ شبابًا وحيوية وفهمًا وإدراكًا، فينجح كمدرس، وكمبشر بحضارة فرنسا وثورتها وآدابها.
وفي ظل أجواء تأسيس التلفزيون المغربي، كان المغرب يحتاج أن تأخذ فيه العربية وتاريخ الحضارة الإسلامية والمغربية مكانًة ملحوظة واهتماما زائدًا، فكان الإصرار أن تجتمع في المدير المسؤول الإلمام باللغة العربية، وهكذا تم تعيين مدير جديد للتليفزيون خلفًا لعبدالله غرنيط الوزير السابق، الذي جاء إلى المنصب باعتباره رفيق دراسة الملك الحسن الثاني وصديق طفولته، ولم يكن المدير الجديد سوى عبدالله شقرون، الكاتب المغربي الشهير المهموم بالتأليف المدرسي. وهو على عكس سلفه كان رجلًا عصاميا، انطلق من مدينة سلا، عاش طفولة عصيبة عرف فيها اليُتم، فقد أبويه معا وهو طفل، نبغ في اللغة العربية وقواعدها منذ تعليمه الأول، وكان من اوائل المغاربة الذين حصلوا على دبلوم الدراسات العليا من الجامعة الفرنسية بالجزائر، وتوجه إلى باريس ليدرس الإخراج الإذاعي والتليفزيوني والحصول على دبلوم، ليصبح من اوائل المغاربة الذين تخصصوا في هذا المجال، وساعده الإلمام الأكاديمي باللغتين العربية والفرنسية لكي يعمل بالراديو والاذاعة المغربية في بداياته مشرفا على البرامج التمثيلية، والاشراف على الإخراج التلفزيوني للمسرحيات.
بعد عام من انطلاق التلفزيون المغربي، ابدى الملك الحسن الثاني ملاحظاته على مستوى المحتوى، وكان شقرون يحظى بشهرة كبيرة بين المسرحيين المغاربة، وهو ما جعل اسمه يحظى بتزكية أكبر لدى الملك ليسلمه مسؤولية إدارة التلفزيون المغربي، مسؤوليته كانت تتجاوز الإشراف على إخراج المسرحيات، وتصل حد تحمل المسؤولية امام الملك، خصوصًا فيما يتعلق بتغطية الأنشطة الملكية، وقد كلفه الملك بتطوير جودة التلفزيون وغيرها من المهام. وباعتباره أديبًا وعضوا في اتحاد كتاب المغرب اهتم بدخول الشباب المثقفين إلى التلفزيون، بالإضافة لعدد من المواهب والطاقات البشرية الهائلة سهروا على إداراتها والقيام بكل المهام الاعلامية عبر وظائف الإخبار والتثقيف والترفيه.
تعرفت على عبدالله شقرون عن قرب، كان الداعم الاساسي والمكتشف لزوجته الفنانة أمينة رشيد في مختلف المجالات التي عملت فيها، واسمها الحقيقي جميلة بنعمر، وكانا قد تعارفا داخل أروقة الإذاعة المغربية، وقتها كانت تقدم برنامج "مشاكل وحلول" وبرنامج "خليهم في قهوتهم"، وأول أعمالها الفنية السينمائية، وأول فيلم لها "طبيب بالعافية" عمل فرنسي مغربي مصري، من إخراج الفرنسي هنري جاك بمشاركة ممثلين مصريين منهم كمال الشناوي، اميرة أمير ومحمد التابعي وآخرون مغاربة. تزوجا وانجبا ابنين، حرص الزوجان على أن يكون لابنيهما مسار مهني مختلف، وأن يسيرا إلى أبعد نقطة في التعلم، كانت الفنانة امينة رشيد زوجته سيدة طيبة، نموذجا للزوجة والأم المحبة ودودة، مضيافة مرحبة وكريمة، رغم انها عُرفت في اعمالها بشخصية المرأة المتسلطة، وغالبًا تظهر في دور الحماة.
في لقاء تم في منزلهما العامر، كانت هناك "مريم" زوجة ابنها جمال، فقد ارتبطت الاسرة بعلاقة مصاهرة ربطت سيدة الأعمال مريم بن صالح بأسرة بن شقرون، تزوجت مريم بجمال الابن ولها منه ثلاثة أبناء، قدمتها امينة رشيد لي على انها ابنتها، مؤكدة أن علاقتها بمريم ليست أبدا علاقة حماة بزوجة ابنها، بل هي علاقة أمومة وبنوة، مضيفة أنها طيبة ونباتها طيب وعشرتها طيبة، وهي إنسانة بكل ما في الكلمة من معنى، وفيها كل الصفات التي تتمناها أي أم في ابنتها، ايضا كان شقرون فخورًا بزوجة ابنه التي عوضته عن انجاب الابنة، كان معجبًا بجرأتها وعلمها، وقتها كانت مريم عائدة من الولايات المتحدة بعد حصولها على درجة ماجستير إدارة الاعمال من جامعة دالاس، بعد عودتها إلى المغرب، عملت مريم بنصالح، لمدة عامين في مؤسسة الإيداع والقروض (SMDC). ثم انتقلت إلى المجموعة المالية التي يرأسها والدها، حيث تسلمت منصب المديرة الإدارية والمالية لشركة المياه المعدنية بأولماس. وقد ساعدت في توسيع نطاق أعمال الشركة التجارية، حتى أصبحت تحتكر وتسيطر على 70% من سوق المغرب.
كان شقرون معجب بجراءة زوجة ابنه في قيادة طائرتها الخاصة، وركوب الدراجات النارية من طراز هارلي ديفيدسون، وهي لاعبة جولف ماهرة، فازت بجائزة سباق كأس الغزلان في المغرب لسيارات الرالي، ومبهورًا بنجاحها في عالم الأعمال التجارية، وبتحديها للصعوبات، شغلت مناصب عديدة في المؤسسات الرائدة. فهي عضو في مجلس بنك المغرب (البنك المركزي المغربية، كما أنها عضو في مؤسسة محمد الخامس، ورئيسة المجلس الأورومتوسطي للوساطة والتحكيم، وعضو في المجلس العربي للأعمال، واللجنة المديرية للمجلس المغربي– البريطاني للأعمال، ومنظمة الرؤساء الشباب، كما أنها عضو في مجلس إدارة مجلس الأعمال العربي، وعضو في مجلس رجال الأعمال المغاربة والبريطانيين، وهي تشغل العديد من المناصب المهمة في المنظمات المغربية والدولية. حصلت مريم بنصالح شقرون على العديد من الجوائز، ومن بينها (وسام الاستحقاق الوطني– المغرب)، ووسام الصليب الأكبر للاستحقاق المدني من إسبانيا. وتم اختيارها كواحدة من “أكثر 25 امرأة مؤثرة في مجال الأعمال في إفريقيا” من قبل مجلة Jeune Afrique. كما جلست على مقاعد التحكيم في لجنة جوائز مبادرة كارتييه للمرأة، واليوم هي تتصدر قائمة Forbes لأقوى 100 سيدة أعمال في الشرق الأوسط.
رجال ونماذج مشرفة، يتدفقون من تسابيح الفرح والبهجة في المغرب وانشودة الحكمة، فأنجبت بشرًا ونماذج ملهمة، أشخاص عطاؤهم متصل وعملهم صامت ودؤوب مساهمين في تنمية المجتمع بالمعرفة وطيب المعاملة.
.. سنتواصل معهم.



