رجائي ونيس.. ذهب إلى حيث يقوده قلبه
من بني سويف إلى القاهرة.. ومن اليابان إلى استراليا
رحلة اليابان فصلت حياتي إلى قسمين ما قبل 1962 وما بعدها
آمنت تمامًا بأن العمل الإنساني أصبح أهم من عمل الفنان وشهرته
لعب جورج البهجوري دورا كبيرا في التأثير على جيل بأكمله
حين نحب فلا نختار، بل نقع فى عشق الغواية، ومن هنا بدأت حياة الفنان الكبير رجائى ونيس الفنية.. فقد كان يذهب دائما إلى حيث يقوده قلبه، حين رأى مجلة روز اليوسف لأول مرة في حياته في منزل أحد أقاربه عام 1949 أدهشته رسومها الكاريكاتورية على الغلاف، فعشق الكاريكاتير منذ تلك اللحظة، وتفتحت عيناه على الوعى السياسى عبر فن الكاريكاتير والرسوم السياسية الساخرة، فهو ينتمى لجيل تشكل وجدانه فى مناخ يمور بالمعارك السياسية، ورغم كل القيود التي فرضها مناخ الاحتلال الإنجليزي على مصر، إلا أن حرية تكوين الأحزاب وحرية الصحافة ــ آنذاك ــ خلقت درجات عالية من الوعى السياسى لدى أبناء هذا الجيل من عمالقة الأدب والفكر والفن والثقافة المعرفية بوجه عام.


ولد رجائى ونيس فى بنى سويف عام 1929 فعاش فترة التكوين فى هذه الحقبة السياسية الغنية بالمتغيرات الحادة والزخم الثقافى، وسط كتابات وأفكار ورسوم رموز الفكر والفن والسياسة، وكان أشهر رسامى الكاريكاتير السياسى فى ذلك الوقت الفنان عبد السميع عبدالله، وعبد المنعم رخا والإكسندر صاروخان.. فازداد تعلقه بهذا الفن المشاكس، وتأكد بداخله اليقين والرغبة فى أن يصبح رساما للكاريكاتير، خاصة أن الرسوم فى عهد الملكية والأحزاب السياسية كانت لاذعة ومباشرة وأكثر جرأة، بدأ رجائى فى سن مبكرة جدا يحاكى تلك الرسوم ويقلدها.. وكان يرسمها أحيانا على السبورة فى المدرسة مما سبب له كثير من المتاعب.. استهوته الشخصيات السياسية العامة فأخذ يرسمها ببراعة تلقائية، مثل النحاس باشا وفؤاد سراج الدين باشا، ثم انتقل إلى رسم الأصدقاء والأقارب المحيطين به بهذا الأسلوب الكاريكاتورى، وكانت رسومه الساخرة سببًا فى مشاجرات طريفة مع أصدقائه فى بعض الأحيان، ويؤكد الفنان رجائى فى أكثر من لقاء وكتب ذلك أيضا: "كان لجورج البهجورى دور كبير فى التأثير على جيل بأكمله، نتيجة هذه النقلة النوعية التي أحدثها البهجورى لتطوير الشكل والخطوط والتكوين فى الكاريكاتير المصري".
كان الفنان رجائى ونيس دائما ما يتبع خطى قلبه، فيذهب دائما إلى حيث يقوده قلبه، بلا حسابات للمكسب أوالخسارة، أو تطلعات للمناصب والنفوذ، فعشقه لفن الكاريكاتير جعله يختار منذ البداية كلية الفنون الجميلة بالزمالك فالتحق بها، حيث التقى بمن سبقه إليها بسنوات، فالتقى جورج البهجورى وبهجت عثمان وإيهاب شاكر، ومصطفى حسين وحسن حاكم، الذين تحولوا جميعا مع بداية صدور مجلة "صباح الخير" إلى المفرزة الأولى لكتيبة الفن المشاكس المؤسسين لموجة جديدة من فن الكاريكاتير المصري الحديث.

بدأ رجائى ونيس حياته الصحفية في دار الهلال في سبتمبر 1955 بعد تخرجه في كلية الفنون الجميلة مباشرة، عن طريق الصحفي الكبير فوميل لبيب الذي رأي فى بعض رسومه في بني سويف موهبة مبكرة فأعجبته فألحقه بالعمل بدار الهلال، وعندما صدرت مجلة "صباح الخير" في 12 يناير عام 1956.. اتصل به الفنان عبد الغنى أبو العينين ليعمل معهم، لأنه كان دائما ما يزور فنان الكاريكاتير الكبير عبد السميع عبدالله، فالتقى هناك الفنان جورج البهجورى فعرفه عن قرب، فاستهواه شعار مجلة "صباح الخير" الذي وضعه الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين "للقلوب الشابة والعقول المتحررة".. فانتقل إلى دار روزاليوسف، وبدأ مرحلة جديدة على صفحات مجلة "صباح الخير"، فعلى صفحاتها انطلقت المحاولات الأولى للفنان رجائى عبر تفتح غير مسبوق لرؤى رئيس التحرير المثقف الشاب أحمد بهاء الدين الذي كان عمره آنذاك التحرير 26 عاما، وإصرار صاحبة الدار على الحرية والتمرد السيدة العظيمة فاطمة اليوسف، فأطلقت العنان لهؤلاء الرسامين الشبان المتحمسين لتغيير الواقع، وتطلع رئيس مجلس الإدارة إحسان عبد القدوس الذي كان يرعى تجارب كتيبة المشاغبين الأحرار عن كسب، يشجعهم ويصطحبهم ليسهروا معه بعد انتهاء العمل فى أحد الفنادق الكبرى، وخلق هذا المناخ الإبداعى الحميم جيل العمالقة من رسامى الكاريكاتير الذين تألقت رسومهم على صفحات مجلة صباح الخير، يتقدمهم جورج البهجورى وصلاح جاهين وأحمد حجازى وبهجت عثمان وإيهاب شاكر وإسماعيل دياب، ثم التحق بهم صلاح الليثى ومحيى الدين اللباد وشريف عليش ورؤوف عياد، وتوالت الأجيال، ورغم هذا الثراء الفنى الكبير كان لكل منهم بصمته وأسلوبه المتميز، ولعل سر نبوغ رجائى ونيس المبكر، هو تفرده بأسلوب مختلف عنهم جميعا، وكانت خطوطه وكائناته وأفكاره لا تشبه خطوط أى فنان ممن سبقوه، أو أى أحد من مجايليه، فتكويناته مختلفه، وأفكاره منطلقة بلا حدود، وأفكاره تنطوى على دعوة صريحة للانحياز للإنسان المصري بوعى فطرى.

أمضى رجائى فترة الخدمة العسكرية في مايو 1962 وفى ذلك العام بدأ يحلم بالانطلاق للسفر ليرى العالم الخارجي، وذلك ما كان يخطط له منذ طفولته، وكان يحلم بالسفر إلي أوروبا، قاصدا ثلاث دول بالتحديد، وهى انجلترا وفرنسا وإيطاليا، وذات صباح من منتصف عام 1962 فوجئ رجائى باستدعاء رئيس تحرير روز اليوسف الكاتب الكبير إحسان عبد القدوس له، طالبا منه أن يستعد للسفر إلي اليابان وهونج كونج مع زميله مفيد فوزي، وفيما كان يفكر رجائى في رحلة إلى أوروبا وبالذات فرنسا أو إيطاليا لرغبته في زيارة المتاحف والمعارض الفنية في باريس أو روما، فوجئ برحلته إلى اليابان التي قلبت أحلامه رأسا علي عقب، وهكذا سافر رجائى على طائرة شركة الطيران العربية المتحدة بمناسبة افتتاحها لخط القاهرة طوكيو في يونيو 1962.

كانت اليابان بداية حديدة لمحطات الدهشة، وأولى خطوات الانطلاق إلى عالم جديد زاخر بالانبهار بحضارة الشرق الأقصى وثقافتهم المغايرة، وقع رجائى في حب المعابد البوذية ومعابد الشينتو (ديانة اليابان الأصلية)، وأبراج الپاجودا والحدائق اليابانية الساحرة، ولكن الأهم من كل ذلك هو عشقه للكيمونو (الزي التقليدي الجميل للمرأة اليابانية) بألوانه المدهشة، هذا العشق الجديد لبلاد الشمس المشرقه جعل قلبه متيم باليابان، فبعد أن أتم رحلته الصحفية عاد للقاهرة ليفكر جديا فى العودة بمفرده إلى اليابان، حاملا فلسفته فى الحياة "إذهب إلة حيث يقودك قلبك". عاد رجائى بالفعل لليابان ليقيم فيها ويدرس فنونها، ليقضى بها أربع سنوات غنية بالتجارب الإنسانية والفنية، بدءًا من الفنون، مرورا بالطبيعة الغنية، ونهاية بالبشر وأسلوب الحياة، فكانت رحلته الثانية تمهيدا لما حدث بعد ذلك من رحلاته إلى أوروبا، ثم رحلة المصير الثانية إلى أستراليا، حيث استقر رجائى نهائيا هناك، ويؤرخ رجائى لنفسه عبر مشوار حياته، فيقول: "رحلة اليابان فصلت حياتي إلي قسمين، ما قبل 1962 وما بعد 1962".

وعندما نودع الفنان المصري العالمى رجائي ونيس، فإننا نحاول أن نلقى الضوء على مشوار حياة وأحد من مؤسسى مدرسة الكاريكاتير المصرية الحديثة، فهو واحد من أهم كتيبة الفن المشاغب ابناء دار روزاليوسف (الأولى) التي اشرف بالانتماء إليها، فهو من الرواد المؤسسين لمجلة "صباح الخير"، منذ العدد الأول، حيث قدم رؤية جديدة فى الخط واللون والفكرة والموضوع، ثم هاجر نهائيا فى منتصف الستينيات لاستراليا ليمارس دورا جديدا لمعالجة الاضطرابات النفسية لنزلاء إحدى مستشفيات الصحة النفسية بولاية "بيرث" بغرب استراليا بالرسومات الفنية.. محققا نجاحات غير مسبوقة، ويقدم للعالم تجربة فريدة فى العلاج النفسى بالفنون التشكيلية، ويحكى رجائى عن هذه الفترة فى كتابه الذي سجل فيه هذه التجربة فيقول: "كانت أكبر مستشفيات الأمراض النفسية فى ولاية غرب أستراليا تبحث عن فنان ليعمل بوحدة علاجية باستخدام الفن، فتقدمت ووافقوا على الفور لانضمامى إليها، وهكذا أسهمت فى تأسيس أول وحدة علاجية بالفن فى الولاية، كان ذلك فى عام 1969 أى بعد أقل من عام من وصولى لأستراليا، وفى البداية كنت أحلم بالعمل لفترة صغيرة ثم أعود بعدها لممارسة الفن، ولكن مع استجابة المرضى لى وتفاعلى مع مشاكلهم استمرت مدة عملى لأكثر من 25 عامًا منها 7 سنوات كرئيس للوحدة، وفى تلك الأثناء قررت التخلى عن الفن تمامًا وتكريس نفسى للعناية بهؤلاء المرضى، فقد آمنت تمامًا بأن العمل الإنسانى أصبح بالنسبة لى أهم من عمل وشهرة الفنان، فأنت تتعامل مع إنسان مًتعَب أعماقه مجروحة بشدة، لذلك قررت البقاء بجوار هؤلاء المجروحين حتى النهاية".
كنا نتحاور معا عبر التواصل الاجتماعى حتى فترة قريبة عبر (الماسينجر) ربما اقل من شهر، والحوار كان بيننا موصولا حول أشياء مصرية حميمة، كان يفتقدها فى غربته، وقد نشأت الصداقة بيننا فى العدد 2000 من أعداد مجلة "صباح الخير"، الذي صدر عام 1994، حين قدمت ملفا كاملا عن كل فرسان الكاريكاتير المشاغبين بمجلة صباح الخير، واحتفيت به على وجه الخصوص بشكل يليق بتجربته المتفردة، فأرسل لى (فاكس) طوله متر و20 سم عامر بالرسومات الكاريكاتورية وكلمات الشكر والامتنان، شرفت بلقائه مرتين عندما حضر إلى مصر وشرفت بتنسيق موضوعات كتبها ورسمها عن اليونان عندما حل ضيفا على العاصمة أثينا حيث أقام معرضا هناك وكتب عن اليونان وشعبها، إنه أخر الفرسان من جيل العمالقة الذين أحدثوا نقلة نوعية فى مدرسة الكاريكاتير المصرية والعربية الحديثة، برحيلك يا عم رجائي نفقد ركنا هاما من تاريخ الصحافة المصرية المجيدة التي أسهمت بإبداعاتك فى تأسيسها وداعا يا عم رجائي لروحك السكينة والسلام ولمصر والمصريين خالص العزاء.





