السبت 20 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

د. سعيد بن سليمان العيسائي يكتب:  مشايخُ الطَّربِ والغِنَاءِ

بوابة روز اليوسف

كَثُرَ التساؤل حول علاقة قُراءِ القُرآنِ الكريمِ والمشايخ الأزهريينَ بصفة عامة بالموسيقى والطَّرب والغناء، وثارت أسئلة حول علاقة بعض المطربين، ورموز الطَّرب والغناء بالقرآن الكريم، وهذا ما سوف نتاوله فى هذا المقال، وسنركز حديثنا على من حمل لقب (شيخ) من هؤلاء المطربين والملحنين.

وقبل أن نخوض فى هذا الموضوع لابد من الإشارة إلى الدَّورِ العظيم الذي قامت به مصر فى مجالي التلاوة والفن والطَّرب والغناء، لنتعرف بعد ذلك على العلاقة بين الفنين وعُلومها.

مصر هي عاصمة دولة التلاوة، ومدرسة القرآن الكريم، بكل ما تنفرد به من حلاوة فى الصوت، وفهم وتطبيق لأحكام التجويد، واستيعاب لمختلفِ أنواعِ المقامات.

وقد تربعت مصر على عرش الطَّرب والفن والغناء والموسيقى لِعِدَّةِ قُرونٍ، الأمر الذي شَجَّعَ الكثيرين للهجرة إليها، خاصة الشَّوامِ ثم المغاربة لاحقا.

ونود أن نُشير هنا إلى أنه توجد قواسم مشتركة بين المقرئين والمطربين، أهمها حلاوة الصوت، والمعرفةُ بفَنِّ المقامات، بينما يتميز كلُّ فنٍّ بأمورٍ خاصة، حيث يتميز فنُّ التلاوة بالمعرفة بأحكام التجويد والقراءات والتفسير وغيرها من الأمور التي تدرس فى معاهد القراءات التابعةُ للأزهر، ويتميز فنُّ الغناء بدراسة الموسيقى، ومعرفة الألحان المختلفة.

ويُطلق البعض على هذه العلاقة بين التلاوة والغناء: (تلحينُ القرآن، وترتيل الغناء، الاشتباك المبهر بين القرآنِ والموسيقى).

ولقد أبدع الذين درسوا المقامات والموسيقى من كبار المقرئين فى التلاوة، كما سنشيرُ إلى مُعظمِ هذه الأمورِ في مقالنا هذا.

ويجدر بنا هنا الإشارة إلى عِلْمِ المقامات، الذي هو قاسمٌ مُشترك بين فني التلاوة والغناء، فعلم المقامات هو تحسين الصوت (أي صوتٍ كان) وتجويده، وتنزيهه عن النَّشازِ، فهو لا يختص بالموسيقى والغناء كما يظنُّ الكثير.

يقرأ الكثير من كبار القُراءِ بالمقامات، حيثُ يطبقون ما تعلموه من أنواع هذه المقامات، ويضيفُ بعضهم إليها ما تعلموه من عُلوم الموسيقى وفُنونها، ومن هذه المقامات مقام الرست، ومقام النهاوند، ومقام السيكا، ومقام الصبا، ومقام الحِجاز، ومقام العَجم، ومقام الكُرد، ومقام العراق.

نودُّ أن نشير هنا أيضاً إلى إنَّ المصريين لديهم ولعٌ بالألقاب إلى يومنا هذا، فكل من حمل لقب (شيخ) من الفنانين والمطربين والملحنين فى بداية حياته استمر معه هذا اللقب.

فمِنَ الذينَ درسوا العُلومِ الدينية أو الشرعية، أو درسوا في الأزهر فى بدايات حياتهم الشيخ: أبوالعِلا محمد، المولود فى 1878م، والذي تعرَّفَ على أُمِّ كُلثومٍ بالصدفةِ، وتبناها، وأصبح أستاذها فيما بعد.

مِن أغانيه التي لحَّنها وغناها وغنتها كذلك تلميذته أُمُّ كُلثومٍ أغنية: (أفديه إن حَفِظَ الهوى أو ضيَّعا)، وأغنية: (بحقكَ أنتَ المُنى والطلب)، وأغنية: (الصَّبُّ تفضحهُ عيونهُ).

ومِن الذين حملوا لقب (شيخ)، وكانت بداياتهم دينية الشيخ: سيد درويش، والشيخ: سيد مكاوي، والشيخ: إمام، والشيخ: محمد الكحلاوي، والشيخ: زكريا أحمد و الشيخ سلامة حجازي.

ومِن النساء اللاتي حملت لقب (شيخة)، وجمعت بين التلاوة والطَّرب الشيخة: كريمة العَدلية، التي قدمتها الإذاعة المصرية عام 1936م مرتين فى يومٍ واحدٍ، الأولى كقارئةُ للقرآنِ فى الساعة السابعة صباحاً، والثانية كمطربة فى العاشرة وأربعين دقيقة، وهي من النوادرِ اللاتي جمعن بين الفنين، وحملن لقب (شيخة).

 

ومِن شَوامِ مصر الذين حملوا لقب (شيخ) الشيخ: أبو خليل القباني، رائد المسرح العربي، ومن كلماته وتلحينه أغنية:

يا مال الشام يا الله يا مالي.. طال المطال يا حلوة تعالي

ويُقال إنه عَمُّ توفيق القباني، والد الشاعر السوري الكبير نزار قباني، والواضح أنَّ تعليمه وبداياته كانت دينية، لهذا السبب حمل لقب (شيخ)، واستمر معه هذا اللقب طيلة حياته الفنية.

وفي إطار حديثنا عن مشايخ الطَّرب والغناء، وبخاصة شوام مصر، فإنه تجدرُ الإشارة إلى: شاكر أفندي الحلبي، الذي نقل القُدود الحلبية (الموشحات الحلبية) إلى مصر عام 1840م، وقام بتلقين أصولها وضُروبها لعددٍ من الفنانين المصريين الذين حفظوها بدورهم، وأورثوها لمن جاء بعدهم، وأبرز من اهتم بهذا الفنِّ من الفنانين المصريين: عبدهُ الحامولي، وسيد درويش.

وندبج حديثنا عن الفنانين الشوام بالمطرب السوري الكبير: صباح فخري، الذي جمع بين الغناء والتلاوة والأذان.

وننتقل الآن إلى علاقة بعض كبار القُراء المصريين بالموسيقى، وبعض المطربين، ونبدأ حديثنا بالشيخ: مصطفى اسماعيل رحمه الله، الذي يكادُ يكون أكثر القُراءُ انفتاحاً، وحُباً للموسيقى كما عُرِفَ عنه خفةُ الدَّمِ، والظُرفِ والروح المرحة، وقد تحدث عن ذلك فى أكثر من مقابلة أجريت معه فى الإذاعة والتليفزيون.

كان الشيخ مصطفى اسماعيل على علاقة طيبة بأُمِّ كلثوم بحكم الجيرة، حيث دعتهُ فى فِيلتها بالإسكندرية أكثر من مرة لتناول الطعام لتسأله فى نقلات المقامات التي أتقنها.

أما علاقته بالمطرب الكبير: محمد عبدالوهاب، فهناك مقطع فيديو نادر يجمعهما أثناء حضورهما سهرة فنية فى لبنان، وهما يتبادلان المزاح والدعابات.

أمَّا الشيخ: محمد رفعت، فقد درس الموسيقى، فكان يقتني أعمال بيتهوفن وموتسارت.

وقِيل إنه كان يغني فى الإذاعات الأهلية قصائد عربية، وذلك بسبب أنه كان قد درس الموسيقى.

وحضر الشيخ: عبد الباسط رحمه الله حفلاً غِنائياً لأُمِّ كلثوم فى مسرح الأزبكية فى القاهرة.

ومن المعروف أن مجموعة من المطربين والمطربات في مصر لهم تلاوات قرانية مسجلة.

وقد امتاز بعضها بالالتزام بقواعد التلاوة والتجويد ومقاماتها المعروفه فيما أخفق اخرون في ذالك.

ونختم مقالنا بابتهال: (مولاي إني بباكِ مولاي) للشيخ: سيد النقشبندي رحمه الله.

لهذا الابتهال، أو هذه الأغنية قصة مفادها أنَّ الرئيس المصري الراحل: محمد أنور السادات احتفل بخطبة إحدى كريماته عام 1972م، وفى رواية كريمة الرئيس الراحل: جمال عبد الناصر، فقال لبليغ حمدي: لِمَ لا تُلحن للشيخ سيد؟

ويُروى كذلك أنَّ الملحن المبدع: بليغ حمدي قال للشيخ النقشبندي: سألحن لك أغنية تعيش مائة عام، وطلب الملحن بليغ حمدي من الشاعر: عبد الفتاح مصطفى أن يكتب له أغنية دينية، فكتب له: (مولاي إني ببابك مولاي)، وأعتقدُ أنَّ هذه الأغنية هي الأغنية الوحيدة التي أنشد فيها الشيخ النقشبندي قصيدة مُلحنة استخدم فيها العزف على الآلآت الموسيقية.

وهكذا كانت جسور التواصل الفني قائمة بين أهل هذين الحقلين: التلاوة والغناء، مع احتفاظ كل حقل بحدوده وخصوصياته الفنيه والاجتماعية.

د. سعيد بن سليمان العيسائي كاتب وأكاديمي ودبلوماسي من سلطنة عمان

تم نسخ الرابط