وردة بيضاء تكفى.. قراءة في رواية "عندما غرد البلبل" لمحمد قطب
أبطاله يسبحون فى رائحة العطر، يشاغلهم الياسمين، وتدفع بهم أوراق الورد إلى عوالم شفيفة من خيال قد يحول بينهم وبين الواقع، لكنه العطر نفسه يجعلهم يعيدون اكتشاف أنفسهم وحيواتهم ومستقبل أيامهم.
في روايته الجديدة.. عندما "غرد البلبل" الصادرة حديثا عن المجلس الأعلى للثقافة يقدم لنا الروائى المبدع محمد قطب رواية يمكن للمرء أن يقرأها مرة كرواية، ومرة أخرى كمجموعة قصصية فكل قصة تعد وحدة أو بنية مستقلة بذاتها، مكتملة كبلورة، لكن هذه الوحدات القصصية تمثل بني فنية مكتملة فى سياق روائى متصل، معقود متسلسل في بناء فنى معبر عن جوهر الشخصيات ودواخلها في البناء الروائي، وتعبر كل قصة وحدها عن رؤية فنية لقصة قصيرة مكثفة.
تحتوى الرواية على تسع عشرة قصة حملت عناوينها مراحل ومحطات في حياة أبطال الرواية، وفى الوقت نفسه اقتنصت القصص تلك اللحظات الإنسانية المعبرة عن القصة القصيرة في معناها وجوهرها إذ تكتشف اللحظة وتلتقط زاوية الرؤية، وبمهارة العارف يستطيع الروائي محمد قطب أن يجعل رائحة العطر رمزا يقرﱢب شخصياته للقارئ، ويشكل رمزية إشكالية في علاقات تتصل وتتقاطع، تلتقى وتُفارق.
- الياسمين
فى قصة "الياسمين" يكشف الكاتب عن حلقة مفقودة فى حياة "سميرة" التي تزوجت رجلا ثريا رغما عنها، لكنها تتعلق بالزهرة المفقودة، زهرة الياسمين التي تشكل عالمها الخيالى والواقعي المنقضى في الوقت نفسه فتصبح زهرة الياسمين رمزا للحب الغائب والحلم الذي لا يتحقق كأنه نفحة من عطر عبق، وبضع زهرات فى الكف مقطوفة من شجراتها دون أن يكون لها ذلك الامتداد الحقيقي في حياة البطلين "سميرة" وحبيبها بطل قصة حبها الأول إذ يلتقيان بعد سفره وهجره لها، فتستعيد عطر الأحبة لكنها تفطن أن هذا العطر لا يستطيع أن يُبرهن على وجوده الحقيقى في حياتها بعد أن تزوجت واستسلمت لقرار حبيبها بالسفر والنسيان وفي مشهد معبر من هذه الرواية الرهيفة تأتى مصائر الأبطال مرتبطة بعطورهم التي اختاروها لأنفسهم: [نهض فخالت جسده يتمايل، مر بالأغصان ومد يده، قطف زهرات الياسمين، وكوَّمها فى كفه وعاد، فرشها على الطاولة، وراح يرسم قلبا، كانت تنظر إليه وتضحك، وكان ينظر إليها ويبتسم، كان القلب ينبض زهرة زهرة، حمل النبض رائحته إليها فثملت، وكان ينظر إليها، ويُدير رأسه وهو يودعها لم يطرأ على بالها ما حدث كأن الزمان يصالحها ويأتى بالأحبة".
وتتضح رمزية هذه النفحة من الياسمين عندما تكتشف البطلة فى حوار مع صديقتها أن عطر القصص الأولى للحب لا تصمد أمام أشواك الواقع: [كانت في زيارة لصديقة لها، أخبرتها صديقتها: أنها ستُخطب قريبا، وحين تساءلت أهو؟
زمت صديقتها شفتيها ولم تجب، أدركت أن القانون السارى هذه الأيام أن يتنحى الحب، ويظهر المال»
وما أعربت عنه الصديقة أكدته أم سميرة لها لترسم الرواية مشهدا واقعيا لحقيقة الحب الأول الذي لا يصمد أمام عقبات الواقع وخاصة الصعوبات الاقتصادية، وصوَّر الروائي هذا من خلال حوار الأم مع ابنتها "سميرة".
[نظرت إلى البعيد، تساقط الحزن من ملامحها، وهى تتمتم في رعشة موصولة، وأسى يفيض من عينيها، وهى تتذكر هذا الذي ملأ القلب، ولم يبد رغبة أو يوح بشيء، وظل يُعكر صفوها بحديث السفر أنهضتها الأم، مسحت دمعها، وأخذت وجهها في حضن كفيها وقبَّلتها.
- لا تتعلقى بالأوهام، كلنا تزوجنا هكذا
توسلت بنظرتها إلى الأم
- اعتذروا له ... قولوا له سببا ما
- هو أفضل لك من غيره، اسمعى كلام أمك، تزوجي من يسعى إليك، ويُلح فى طلبك".
- غيمة عطر
استسلمت سميرة للغة الواقع لكنها لم تنس لغة العطور فيصف السارد إدراكها لواقعها وحياتها الجديدة مع زوجها فيقول: "تدرك أنه يُغدق عليها وعلى أسرتها، تجاوزت، وتألمت رضخت لأهوائه، وأوامره فلم تعمل ، واكتفت أن تكون زوجة لرجل لا تراه إلا في الهزيع الأخير من الليل، ألقت بأحلامها عند عتبات البيت، لم يخفف ألمها زيارة الأهل أو لقائها بالأصدقاء والصديقات، ضاقت بوحدتها، وتمنت أن تُرزق بطفل يرمم روحها التي تداعت لكن الطفل غاب، وظل أمنية ترف على الخاطر".
وتكشف الرواية فى متواليتها القصصية عن عطر آخر في حياة الزوج أصبح يُشـﮑﱢل حاجزا بينه وبين زوجته "سميرة"، عطر غائم وبعيد ، عطر كظل مُلازم لا يفيق منه لكنه أيضا به لا يرتوی، إنه عطر ابنة خالته التي يحبها لكنها ستتزوج من غيره، تراوغه مُغوية، وتفر منه بقولها "أنت أخي الذي لم تلده أمى.. خالتك".
بل تعرض عليه الوساطة بينه وبين زوجته فيرفض فتنصحه بأن يذهب إليها ويسترضيها فيرد باقتضاب أن سيذهب، لكنه يغرق خلف لقائهما في عالمه الداخلى الدفين المُعطر برائحتها القوية التي تتأبى على النسيان فيقول في مونولوج داخلی: "تلك التي جاءت وغادرت وقفت حاجزا بيننا، زوجتي تنبهت للأمر، ابنة الخالة تنصلت من تاريخها، وتركت لي عطرها».
ويصفه السارد فيقول: [راح يطارد الرائحة التي تملأ المكان، عطرها الذي لا تغـﻴﱢره، يسبقها كغيمة من عبق ، تترك عطرها وراءها، تشغله به حتى حين".
- زهرة الأنوثة
تواجه سميرة وحدتها فتتعرض لمآزق عدة، وتجارب تقاومها بكل ما أوتيت من إرادة وقوة، فترفض مُراودة زوج صديقتها المسافرة، وتتأبى على مسرات صغيرة تكاد تعصف بها، فيذكرها رجل المصيف الذي التقت به مع صديقتها بعطر الأنوثة الذي لا يجب أن تهمله فتذوى وردتها، تستعيد كلماته في وحدتها، فى مونولوج داخلى يُغالبها فتقاوم سحره وحيلته فتقول: [ رجل الصدفة يوقظني من حلم لا أبتغيه معه ، أو مع غيره ، لكنه لا ييأس ، منذ المصيف وهو يجاهد أن يستكشف السحر فىّ يكرر أمامي دائما: لا تُهملى زهرة الأنوثة فتجف، يتحدث عن زهرة الأنوثة الوردية التي حين نشمها نلمح في غيمة عطرها صورة كالخيال تشع بالنور، يتأملها في لهفة موصولة: هل رششت العطر عليها ؟
- على ماذا؟
- زهرتك
- مُعطرة بالفطرة
وضحكنا معا"
... يمطرها الرجل بكلماته العذبة التي تضفى على لقائهما بهجة ، حذرة هي في قبولها أو حتى التفكير بها، ويصوﱢر السارد ذلك من خلال مشهد مُعبر فيقول: ينبئنى بالمكان فأهرع إليك
- من؟
- القمر
غلبها الانفعال، تلونت ملامح الوجه بوجوم طارئ فهي لا تقوى على سماع الغَزَل، ولا تحب أن تتمادى فتنسى من هي ؟، هو لا يخرج عن المألوف، وهى لا تسمح أن يظن بها ضعفا، وإن أجاد صَبَّ الكلام في الأذن ، كلام تعودته ثم حُرمت منه، لكنه لا يُحرك القلب إلا قليلا، يظل عالقا فلا ينفذ من المسام، يكتفى بالكلام، يستغل الصدفة، فقط يبرع في رسم صورة جميلة تضفيعلى اللقاء بهجة".
تتخلص من سحره حين تشعر بالخوف من هذا التواصل ، وهذا القُرب فيصف السارد ما يدور بخلدها من أفكار
[خشيت أن يحدث المحظور ، ويتجرأ حين قال لها: يصطادنى قمرك فأركض
إليك…
قد ينسى حذره الذي تعودته، رأت فى عينيه المُحدقتين وهجا يكاد يسيل، تجنبت نظرته وقالت في حسم لا يجرح
- لا تنظر إلىّ هكذا ولا تقترب]
- وحدة وارتحال
تمضى سميرة عميقا في وحدتها فتكتشف أنها ليست وحدها، تلتقى بالأرملة الوحيدة في النادى فى قصة "ارتحال" إحدى الوحدات الفنية القصصية التي صوَّرت معاناة البطلة، نصحتها الأرملة بأن تقترب من زوجها وتقبل عليه ولا تبتعد، ويشكل الحوار أحد أهم التقنيات الفنية التي اعتمد عليها الروائى فى إحكام بنيته السردية، ويصور المشهد الذي التقت فيه سميرة بالأرملة وحوارهما فى النادى، لتكتشف سميرة وحدة هذه السيدة الجميلة المتأنقة:
[- النادى يقيم رحلة إلى مارينا، خذى أسرتك، وغـﻴﱢرى جو
تنهدت السيدة وصمتت
- هل لازلتِ تعملين
مرت بيدها على غلاف المجلة ، ووضعت إصبعها على رقم 7، على المعاش من سنوات، وأنتِ]
- لا أعمل
.. حدقت فيها السيدة وأمعنت
- خسارة ، ستضيقين بالفراغ
وابتسمت ، وأشارت إلى يدها
- أرى خاتم الزواج في يدك
تنهدت هي الأخرى وقالت:
- رفض أن أعمل
- من ؟
وتابعت في نبرة حزينة ، لم يغب عن السيدة معناها
- اكتفى بعمله وتركنى
صمتت ولم تكمل عبارتها فأكملت الأخرى
- للفراغ والوحدة
مدت السيدة رأسها، وحركت يدها، ولمست المحمول والجريدة، ونظرت إليها في ود وحنان :
- تدللی، تزینی، وتجملي، وأقبلى عليه اغمسى كلامك فى العسل، واطلبي العمل، لا زلت صغيرة، ولن يرفض]
- زهرة الفُل
وتلتقى سميرة في رحلتها المغتربة أو في اغترابها النفسى بمن يساعدونها فى اجتياز أسوار وحدتها ففى لقائها بالرجل الوقور قريب زوجها، ينصحها أيضا بالاقتراب من زوجها، وتعلم كيف نصنع علاقتنا المهمة على أعيننا فيقول لها:
[ - علينا أن نتعلم كيف نحيا
همست في صوت خافت لا يبين
- سوف أحيا
دارت عيناه فى البهو الأنيق، وتوقفتا على صورة له ولزوجته الراحلة، صورة لهما بثوب الزفاف ، وباقة تزهو في يدها ، وعينين تحملان نظرة تائهة
- اقتربى منه ، ولا تعاندى فتخسريه ويضيع منك
تنهد ، علا صدره وخرج هواؤه ساخنا
- الوحدة قاسية
- سأحاول ]
يعاود الرجل نصحها فيقول:
[القرب بين الزوجين يُبعد الجفاء، جرَّبي
وحدق في صورة زوجته الراحلة
[وأشار بيده إلى ملامح الوجه وزهرة الفُل، والفرع الرقيق والورقتين الخضراوين ثم قال في زهو:
- ها هى أمامك تملأنى]
- سر الورد
الرجل الوقور لا يريد لها حياة تقوم على حفنة من الذكريات ، وصورة معلقة على الحائط، يريد لها حياة حقيقية لا تهدرها وإنما تعيشها بصدق فيدلها على رائحة العطر، وعلي سر الورد فيقول:
[اقتحميه يا بُنيتي ، لا يقف كل منكما في طرف مُغاير ، اقطعي المسافة واقتحمی ، لا تبالى بردود الفعل، مرة، وثانية ، وثالثة ، صدقينى سيدرك وسيتغير، تنهد، وخرج صوته يحمل ودا وعطفا، قدمى له الزهور والورود جَرَّبی ]
وهنا تتجاوب المرأة الشابة مع حكمته ومع لغة العطور فتتطلع لتشكيل حياتها من جديد فتقول: سأزرع البيت زهورا ونباتات عطرية لعل أنفه يشم وقلبه يعود لنبضه ، تهلل وجهه كأنما وصله ما كانت تفكر فيه، فقال فى تؤدة حانية.
- وردة بيضاء تكفى ]
- العربة
ثم تنتقل بنا هذه الرواية بوحداتها القصصية في بنائها المتماسك إلى مشهد العربة وقصتها لتقدم رحلة في الزمان وفي الأحداث التي ستتغير بعدها حياة الزوجين ، سميرة وزوجها.
فتصف القصة مشهدا يُعبر عن أزمة زوجين آخرين داخل عربة فتتماهی سميرة وزوجها مع هذين الزوجين اللذين تمر حياتهما بمحنة حقيقية فهما في عربة انزلقت في مساحة من زيت فتعلقت العربة بسور الكوبري، جزء منها على جسم الكوبري، والجزء الآخر في الفراغ، هل تلك هي حياة سميرة وزوجها كما هى الحياة نفسها التي يعيشها بطل العربة وزوجته ، وهل حالتهما الراهنة التي اقترنت بأحداث ثورة ٢٥ يناير، وما صاحبها من اضطرابات كانت تستدعى حكمة تأمل هذه الأحداث، والخروج من فكرة الفُرجة على ما يحدث إلى فكرة التفاعل بعد تأمل، لتحريك الوضع ناحية الأمان، ويَرصد السارد تطور وعي بطلته "سميرة" وإدراكها لما يجرى حولها تدريجيا بعد خروجها من دائرة السلبية والهروب فى حياتها الخاصة إلى محاولة الفهم، وإدراك ما يجرى، فيصوﱢرها السارد وهي تتأمل واقع ما يجرى حولها من أحداث، شغلتها عنها تفاصيل حياتها ووحدتها فيقول:
[ها أنتِ الآن تفتحين نافذة الشرفة، لتتأكدى من الفرقعات التي تصلك، تطلين من الشرفة فتجابهك أصوات الخرطوش وأدخنة القنابل، وقطع الحجارة الطائرة، أدهشك الشباب الذين يقذفون الحجارة ويشعلون النار تجاه شباب مثلهم، شباب الوطن يتعارك وينقسم، أضحى الحاضر في عيني كالعتمة التي صنعها الدخان]
ومن النافذة التي شرعها السارد فى حياة بطلته "سميرة" تكتشف ما يحدث من حولها، وتتبصر بأمر العربة التي لا بد من إنقاذها، عربتها وعربة الزوجين، بل عربة لابد أن يشارك الجميع في إنقاذها، ودفعها بحكمة نحو الأمان، وفى مشهد مهم من أكثر مشاهد الرواية حيوية يظهر صوت السارد قويا مخاطبا بطلته: [جاءك الموت على شرفة بيتك ، فمم تتخوفين إذن ؟، كان بك رغبة أن تشاهدى ما يحدث، وآن لك أن تقتربى، أن تخلعى رداءك، وترتدى رداء الحالة الراهنة وتتعرفى]
ثم يرصد بعينىّ بطلته خروجها من عزلتها إلى الفضاء العام، بل والمشاركة في إنقاذ العربة فتقول "سميرة":
[أطل على طريق النصر، وعلى مهبط الكوبري، عربة الإسعاف تدُوى، تنزلق عربات بفعل بقعة الزيت، ثمة تصادمات مؤلمة، أصابني الهول وأنا أرى بعينى عربة خاصة تجنح، وتهتز، وتخرج عن السيطرة وتصطدم بالسور الحديدى، اخترقته، استقرت في الوسط كأنها وسط الميزان إن مالت أو تحركت ، سقطت ، رأيتهم يهرولون ويصعدون ، الهلع على من بداخلها جعلهم يفكرون فى مخرج آمن لهم، كدت أسقط وأنا أقف على أطراف أصابعي عَـلَّى أن أتحقق مما يحدث، ارتجف قلبى وخشيت أن تسقط العربة، غاظنى المشهد وأصابني بالكمد ]
ثم تصف محاولات إنقاذ العربة فتقول:
[شباب يهرولون، يقطعون الطريق، ويقذفون العربة، ومن حولها بالحجارة،ذكرنى الموقف ما كنت أراه فى التليفزيون من كر وفر وصدام حول مطلع كوبري أكتوبر، وكوبري قصر النيل، والمتحف المصري بميدان عبد المنعم رياض، لم يتغير شيء، السلوك العنيف، نحن لم نتغير، وصلنى صوت جارتی، كانت هى الأخرى تراقب الموقف من نافذة شرفتها المجاورة
- ادخلی کفی ما حدث]
- محاولات
لكن بطلة الرواية التي تماهت مع الزوجين المحبوسين داخل العربة، وضعت نفسها مكانهما، أبت أن تقف موقف المتفرج فتقول : [غَيَّرت موقعی وابتعدت، وعيني على العربة التي تكاد تهوي من أعلى الكوبري، أتلهف على رؤية من بداخلها، لمحت رجلا وامرأة بجانبه، ثابتان لا يتحركان خوفا من خطر مفاجئ، كان الرعب يأكل ملامح الوجه وينز من العين دمع يبتهل، ثمة مناوشات، شباب يطارد بعضهم بعضا، عطلوا بصخبهم الفرصة لنجدة العربة ومن فيها حتى واتتهم فرصة طارئة فراحوا يطاردون جماعة من الشباب تقف بجوار سيارة الأمن فى الطرف الآخر من الشارع، انتهز الحاضرون فوق الكوبري الوقت الذي سنح لهم وأحاطوا بالعربة وصفوا أحجارا أمام العجلتين الخلفيتين، حرصوا ألا يهزوها أو يفتحوا أبوابها فحركة رعناء غير مقصودة ستهوى بالعربة]
ثم تصف محاولات إنقاذ العربة ومحاولة بعض الشباب ربطها بجنزير طويل من الحديد إلى السور المقابل ثم يحكمان ربطه بها من ناحية (الصدّام) الخلفي، فتساءلت [ لماذا يبذلون كل هذا الجهد لإنقاذ العربة ؟ لماذا لم يطلبوا عربة الإنقاذ ، أتمثل لهم أملا؟، تنهدتُ بعمق وقلتُ هامسة لنفسى ، ها هو المصري تظهر أصالته في المواقف الحرجة، تنبهت إلى بعض الشباب الذين يقفون تحت الكوبري مباشرة وكأنهم يستعدون لالتقاطها إن هوت منهم، وتوجستُ خيفة]
- تفكير إيجابى
لمعت فكرتها فى ذهنها لإنقاذ العربة، طلبت من البواب أن يذهب لإحضار عمود من الخشب ليضعه الشباب فى استقامة السور ليحجزوا به العربة وكأنه بديل للجزء الذي تهدم، وتصف "سميرة" ما تحقق من تفكيرها الإيجابي:
[استقر عمود الخشب بجوار السور وامتداده وبدا كأنه سور جديد يحمى العربة من السقوط ، ارتفعت الرؤوس إلى السماء، وامتدت الأيدى إلى الجنزير، قبضت عليه في قوة، وصوتهم يصيح باسم الله ، تزحزحت العربة قليلا، أعادوا لف الجنزير، واحتفظوا بالمسافة الجديدة، تحركت العربة إلى الداخل، ارتج قلبها واستراح، قالت فى صوت واضح تنبه له الحضور: سينقذون العربة وسيحيا أصحابها ]
- حادث مفاجئ
يتعرض زوج سميرة إلى حادث مفاجئ يغـﻴﱢر حياتهما، الحادث العنيف تعرض فيه الزوج لمن ألقى جذع شجرة أمام سيارته فتوقفت ، فسُرقت السيارة وما معه من مال ، لكنه عاد سالما لبيته، ويصف السارد العالم الداخلى للزوجعندما استشعر لهفة زوجته وقلقها عليه : [داوم النظر إليها مندهشا ، كان لكلامها أثر واضح في نفسه ، أحس أن كلماتها كقطرات الندى تنعشه لكن أهى صادقة في مشاعرها ؟، أخافت عليه فعلا ؟، أم خافت أن تحيا مع زوج عليل ؟ ، أو بدون زوج كما شعر من لهجتها وقلقها ، راح يسأل نفسه، أيمكن أن يزيل هذا الحادث المفاجئ صدأ الأيام؟، هل بلغت الحياة بيننا مدى يستدعى حادثا أليما يعيدنا إلى مسارنا الصحيح؟ أثمة أمل يحي الموات؟]
ويصف السارد العالم الداخلى للزوجة بعد تعرض زوجها لحادث العنف فيقول: [بقلب مفعم طارئ، أرسلت نبضها في شغف اليه، كيف فَرَّطت في أمورها إلى هذا الحد!، والآن ها هو أمامها مستسلما لحالته ، عليها ألا تدع شيئاً يحول بينها وبين تحقيق أمنيتها فى سعادة كانت ترجوها يوما، ها هو أمامها منهك وحزين، يكفى أنه معها، وتألقت عيناها بحلم بعيد، لم تسمح لنفسها أن تبتذل ، استطاعت أن تضع حدا بين الهوى والجموح، وتساءلت أكانت رعناء حين سارت فى اتجاه واحد و أوصلها إلى اليأس، وأدخلها فى هوس الحبيب الذي هجر ؟
حركة خفيفة على الشفتين، حمدت اللهعلى نجاته من الموت أو من عاهة دائمة]
- تغريدة البلبل
ويصوﱢر السارد فرحتهما بهذا التلاقي، وهذا الدفء الذي يبعث في علاقتهما أملا جديدا بالتواصل والحب فيقول : [ وصلهما صوت منغم يُرعش البدن، ويدلف إلى القلب، أطلا من نافذة الشرفة، واجهتهما أغصان الشجر الملتف، وأوراقه الخضراء، سمعا تغريدة تتواصل وتتقاطع، تمتد وتقصر، صادته العيون، البلبل زاهى اللون، بَهى! النغم، يقف على فرع شجرة تبزغ منه زنابق مكتنزة وزهور بيضاء، كان البلبل يغرد ويترنم، يرف بجناحيه ويُطلق نغمه، ويدير رأسه إليهما كأنما يرسل إشارة.
.. اهتز الفرع بهبة ريح خفيفة، رفرف البلبل بجناحه فارتجفا، انساب النغم صافيا فتلقفته الأوردة ، وضبطا معا القلب وهو ينبض، ويدفع دمه إلى الوجه فيتورد، قرآ معا وهج العيون وابتسما، كانت البسمة طارئة، لم تعرف طريقها من زمن، لعلهما يدركان لمَ غرد البلبل هنا الصباح الباكر بعد ليلة أرقا فيها، وتألما.
أيدركان تغريدة البلبل ؟
لوَّحا له فرحا، أطلق صفيرا متقطعا يُحاكى نغمه ، تنبه لهما فراح يترنم، أدار رأسه ثم حَلَّق في الفضاء، مرق أمامهما، وحرك رأسه، وأرسل نغمة كأنما يُلقى التحية ، ويترك وديعته، تغريدته.
تلهفا عليه، وفتحا القلب وتلقيا النغم.
حين غَـيَّبه الفضاء ابتسما، وانسحبا، مرقا إلى الداخل يستقبلهما فِراش يتوق إلى الدفء الذي حُرما منه، همست في خدر لذيذ:
"كيف لم تسمع تغريده من قبل ؟ ] .
.... أصدر الروائي المبدع محمد قطب العديد من الأعمال الروائية مثل: "الخروج إلى النبع"، و"الضوء والظلال"، و"حرث الأحلام"، ومن أعماله القصصية "البنات والقمر" و"صانع البهجة " وغيرها.
حصل على جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام ٢٠١٧.



