في البداية دعونا نتفق على أمر مهم، ألا وهو أليس هذا العقل نعمة أنعم بها الإله علينا، وبما إنه هبة ربانية أليس من الأحرى أن نوظفه في طاعة الله ولا نستعمله في ما يغضبه؟!
أعرض هذه المسألة على أصحاب العقول الصحية الصحيحة، وأصحاب الفطر السليمة الفائقة.
أما أصحاب العقول الشاردة الخامرة التي أسكرتها أوهام المحدثات، أولئك الذين زين لهم الشيطان سوء عملهم فرأوه حسنًا، سولت لهم أنفسهم المريضة أنهم بالعقل يستطيعون أن يفعلوا كل شيء، وأن يناقشوا كل شيء وأن يخوضوا في كل شيء، ولا يعلمون أن كل كلمة وكل فكرة وكل رأي سيصلون إليه سيسألون عنه مرتين، مرة لإضلالهم ذواتهم والأخرى لإضلالهم لكل من يستمعون إليهم ويشاهدونهم ويقرأون لهم، أو حتى يتناقشون معهم. أولئك الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم.
أولئك الذين أضحى فحشهم واضحًا وموبقاتهم واضحة عيانًا بيانًا دون استتار (نعم من أمن العقوبة أساء الأدب)، فلا رادع يردع هؤلاء وأمثالهم.
خصوصًا إن كان هؤلاء محسوبين على أهل الفكر والثقافة وأصحاب الاتجاهات المختلفة. هذه واحدة.
أما الثانية، فكل ما سيقدمونه من مواد فكرية لتخريب العقول وتضليل الناس وإفساد المعتقد على العوام البسطاء سيأتي يوم القيامة شاهد عليهم (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا)، وقوله تعالى (ستكتب شهادتهم ويسألون).
أقول لهؤلاء ومن شايعهم، هل حقا أنتم أهل علم، لا أعتقد ذلك، لأن العلم يهذب صاحبه، لأن أهل العلم الحقيقيين متواضعون، خاشعون، أشد خشية من سواهم لله تعالى (إنما يخشى الله من عباده العلماء)، لا يتعالون بعلمهم على أحد، لا يتنطعون ولا يتكبرون على من وهبهم العقل ووهبهم العلم.
لو أنكم أهل علم لما تطاولتم، تارة على إنكار معلوم من صحيح الدين ثابت ثبوتا قطعيا لا مراء فيه ولا شك، قرآنا وسنة، وليس التشكيك في المعراج منا ببعيد، وليس التشكيك في أمية النبي منا ببعيد، وليس العبث بآيات المواريث منا ببعيد. وليس من أنكر منا البعث ببعيد ومن قال برمزية الجنة والنار ليس منا ببعيد، ومن أنكر الموت ليس منا ببعيد معتنقين فكر أبيقوري يدعو إلى الإفراط في اللذة وأن الموت والخوف من الإله لا ينبغي أن يسبب قلقًا وجوديًا للإنسان، لأن الكون يتكون من ذرات ميتة فليس ثم إله، وأن الإنسان عند موته تزول عنه حواسه فلن يلاقي الموت أبدًا، وأين السؤال وأين حياة البرزخ وأين الآيات التي أخبرت بكل هذه الأمور، وأين آيات الجنة والنار، وأين الميزان وأين الصراط وأين الكوثر وأين الفردوس الأعلى من الجنة، أليست كل هذه مخبرات أخبرنا عنها الله تعالى في كتابه العزيز؟
أنتم لستم معذورين بجهلكم، لكنها لا تعمى الأبصار وإنما تعمى القلوب التي في الصدور. وتارة التطاول على رسول الله في شخصه، إن سبًا أو قذفًا أو رسومًا مسيئة لحضرته ﷺ والطامة الكبرى أن من يفعل ذلك من المنسوبين للإسلام.
وتارة أخرى على صحابته رضي الله عنهم جميعا، والخوض في سيرهم والخوض في أعراضهم.
وكذلك الأمر بالنسبة للفقهاء الأربعة أهل الحل والعقد، أهل الاجتهاد لم يسلموا من الطعن والتجريح والتشكيك في ما رووه من أحاديث صحاح عن النبي ﷺ.
ومن تطاول متنطعا قائلا بتاريخانية النص الديني، وتلك فكرة خبيثة لا يفكر فيها إلا شيطان مارد، يريد أن يحصر النص في فترة زمنية محددة، وما أن نتخطاها يذهب معها النص ويذهب الدين.
لكن في هذه المرة بلغ التطاول مداه ومنتهاه، طال التطاول الذات العلية، طال التنطع والتطاول الله جل جلاله (ويحذركم الله نفسه).
التطاول على الله والتأله عليه ليس جديدًا، فحدث ذلك عند المجسمة وعند المشبهة وعند المؤلهة الذين أنكروا وجوده تعالى وألهوا الطبيعية، وعبدوا الحجر والشجر والبقر والنجوم والكواكب والنار.
لكن يظهر الآن من يقول: "لو أجرى الله على نفسه استفتاء وحصل على سبعين في المائة فليحمد ربنا".
ما هذه العقول الخربة العفنة، ما هذه العقول التي شاخت وهرمت ومردت على النفاق والضلال؟
ما هذا الهذيان، ألهذا الحد صرنا؟!
من الذي يستفتي ومن المستفى عليه ومن المستفتون، هل نحن من سنضع الله تعالى محل استفتاء، سبحان الله العظيم، هل الله تعالى يستفتى عليه، يعني يصلح إله أم لا! هل أدى ما عليه من واجبات تجاهنا أم لا، ولو كانت النتيجة سبعين بالمائة فليحمد نفسه أنه نجح في الاستفتاء.
أيها المهرطقة، أيها المأفونون، فاقدي الوعي ألهذا الحد أزكم الشيطان، حتى أنساكم أنفسكم وجعلكم تتطاولون على الله؟
يبدو أن خمركم هذه المرة مغشوشة، كشفتكم على حقيقتكم، كشفت وجوهكم العابسة العابثة الكلحة.
ألهذا الحد وصل بكم السفه والعته والإسفاف أن تتطاولوا على الله تعالى.
ماذا تريدون، أتريدون أن تطفئوا نور الله بأفواهكم، أبشروا لن تفلحوا، ولا يفلح الساحر حيث أتى، أبشروا إن الله منجز وعده ومتم نوره ولو كره المجرمون، ولو كره الكافرون.
نعم أيها المارقة إن الله بالغ أمره قد جعل لكل شيء قدرا.
أعيروني انتباهكم وعقولكم وقلوبكم وأفئدتكم، أيدكم الله بروح منه، وأنعم عليكم بنور البصر والبصيرة، هل الله أعطانا العقل لنوظفه في ما يغضبه، هل أعطانا هذه النعمة لنكفر به، أما أعطانا إياه لنستخدمه في طاعته من خلال العمل الصالح ونشر العلم ونشر الفضيلة، والبعد عن كل ما هو مرذول مقيت.
أليست الآن حاجاتنا ملحة إلى عقول مستنيرة حقا تعي ما تفكر فيه وتدرك ما تقوله وتتصدى لكل هذه الترهات والخزعبلات.
أليست الآن حاجتنا ملحة إلى شرح وتبسيط صحيح المنقول بحجة سلسة وبسيطة دونما تعقيد حتى يفهمه الجميع؟
حقا إنها لرأس الكبر والتي هي نذير للبشر أن تتطالوا على الله جل جلاله وتنزهت ذاته. نعم صدق فيكم قوله تعالى (اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون عليم).
صدق فيكم قوله تعالى (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب سينقلبون).
صدق فيكم قوله تعالى (قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر)
صدق فيكم قول الشاعر فاروق جويدة:
افعل ما شئت ولا تخجل فالكفر مباح
أفعل ما شئت ولا تخجل فالكل مهان.
فلا تنقادوا خلف هؤلاء المهرطقة، سدنة معابد عقولهم الخربة، أغلقوا في وجوههم أبواب عقولكم ولا تعيروهم اهتمامكم.
وأختتم حديثي بقول رائع لسيدي فريد الدين العطار، أوجهه إلى كل من ظن أنه بعقله يستطيع أن يدرك كل شيء (فإن العقل أشبه بغربال إذا وضعته في الماء ثم أخرجته، بماذا سيخرج لا شيء)، هكذا العقل إذا أقحم نفسه في أمور لا طاقة له بها سيصيبه الخزي والخذلان.
أستاذ الفلسفة الإسلامية – آداب حلوان



