السبت 20 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

القائد الذي سحب «الشايب» يروي قصة الصواريخ المصرية!

بوابة روز اليوسف

بعد عودة الفريق محمد علي فهمي من بعثة دراسية في أكاديمية «لينين» بالاتحاد السوفيتي عام 1965 رفع تقريرا للقيادة العامة للقوات المسلحة طالب فيه بإنشاء قوات للدفاع الجوي كفرع مستقل وأرفق بتقريره هيكلا تنظيميا كاملا للقيادة وللقوات الجديدة.

وفي 1966 ألقى محاضرة أمام قادة وقائد عام القوات المسلحة المصرية، أبرز فيها أن الهجمات الجوية السائدة في فنون الحرب الحديثة ستكون على الارتفاعات المنخفضة والمنخفضة جدا.. ثم شرح التكتيكات الجوية المختلفة لمهاجمة الأهداف على هذه الارتفاعات وأهمية تطوير معدات الدفاع الجوي لكي تقابل مثل هذا التهديد المنتظر.

وكان معنى ذلك بناء شبكة متكاملة من قواعد الصواريخ المضادة للطائرات بأنواعها القصيرة والمتوسطة والبعيدة المدى، والتنسيق مع المقاتلات والمدفعية المضادة للطائرات، ثم اعتماد هذا كله على شبكة إنذار متكاملة توفر الإنذار المبكر لوسائل دفاعنا الجوي، ابتداء من الرؤية بالعين المجردة إلى أحدث وسائل الرؤية بالعيون الإلكترونية.

لكن قبل أن يمر عام واحد وقبل أن تتكامل شبكتا الإنذار والدفاع الجوي، كانت إسرائيل قد انتهت من تخطيط مسبق أعدته منذ سنوات لتضرب ضربتها الجوية في الخامس من يونيو.

وبرغم ذلك فلم يصدر قرار إنشاء قوات الدفاع الجوي كفرع رئيسي مستقل ضمن أفرع القوات المسلحة المصرية إلا في 23 يونيو 1969 وهو ما أضاع على القوات المسلحة سنوات لا يمكن تعويضها.

وفي أول لقاء مع الرئيس الراحل جمال عبدالناصر عقب تعيين الفريق فهمي مباشرة أعرب عبدالناصر عن إشفاقه عليه من المسؤولية الجديدة، أما زملاء القائد المصري في أجهزة القيادة فقد كانوا يتندرون عليه بوصفه اللاعب الذي سحب «الشايب»!

أما هو: «فقد نظرت يومها إلى السماء، فوجدت أنها فسيحة مترامية الأطرافة، فقد أصبحت مسؤولا عن اكتشاف وتدمير أي طائرة معادية في هذا المجال الفسيح.

«أصبح على كتفي وعلى سواعد رجال الدفاع الجوى، القوة الرابعة الفتية، تحقيق هذا الهدف».

وفي بساطة وأمانة يحكي الفريق محمد علي فهمي قصة الدفاع الجوي المصري في أكثر من 200 صفحة من كتابه: «القوة الرابعة».. ومنذ أن كانت مجرد مدفعية مضادة للطائرات عيار 3 بوصة من مخلفات الحرب العالمية الأولى صدت أحيانا غارات ألمانية بأكثر من مائة طائرة في يونيو 1941، حتى أصبحت شبكة متكاملة من أحدث أسلحة العصر غيرت من موازين القوى لصالح مصر أثناء حرب الاستنزاف ودمرت أهم الأساطير الإسرائيلية عندما أصدر الرئيس السادات قرار الحرب في 6 أكتوبر.

النتائج سيئة.. أحيانا

الظاهرة التي تستثير الإعجاب والاحترام أنه رغم العشق الذي يتحدث به الفريق فهمي عن سلاحه الذي بدأ حياته العسكرية فيه على مدفع عيار 3 بوصة إلى أن أصبح واحدا من أكبر خبراء الدفاع الجوي الصاروخي والإلكتروني، فإنه لم يغمط أحدا حقه في بقية فروع وأجهزة القتال الأخرى للقوات المسلحة، ولم يؤلف كتابا للدعاية على طريقة «أحسن من يقاتل وأشجع من ينتصر، ولا يأتينا الباطل من تحت أيدينا أو من خلفنا»!

وبقدر ما يروي الكاتب من بطولات لكل المقاتلين في كل سلاح وللعمال والمهندسين من داخل القوات المسلحة ومن خارجها، لا يتردد في أن يذكر أن الأمر كان:

 «في بدايته صعبا وشاقا والنتائج سيئة..».

أو أن وسائل الدفاع الجوي كانت تخطئ أحيانا «ككل وسائل الدفاع الجوي في العالم وتصيب طائرة مصرية».

لكن ذلك لا يعني أن الفريق محمد علي فهمي تخلى في كتابه للحظة واحدة عن يقظة القائد أمام عدو ماكر يسمع ويرى ما قد لا يسمعه أو يراه القارئ العادي، وهو يروي أسرارا لم نكن نعرفها، لكنها لم تعد أسرارا بالنسبة للعدو ويصرح عند اللزوم، ويمسك تماما عندما يتعلق الأمر بخدعة بارعة أو أسلوب مبتكر لقواتنا لم يكتشفه العدو بعد.

المعادلة ليست صعبة

بعد هزيمة يونيو 1967 أعلن الجنرال إسحق رابين بغرور لا حد له: «أستطيع بقواتي الجوية غزو أي مكان في العالم ولو كان القطب الشمالي»!

كان ذلك تأكيدا جديدا لنظرية المؤسسة العسكرية الإسرائيلية أن ردع الدول العربية يتطلب نقل الحرب بعيدا عن أرض إسرائيل، ولهذا فلابد من التركيز على بناء قوة استراتيجية هجومية ضاربة تتميز بعنف الصدمة وسرعة الحركة والقدرة على الحسم.

ولذلك أصبح لدى السلاح الجوي الإسرائيلي قبل أكتوبر سنة 1973 ستمائة طائرة منها نحو 400 طائرة قتال حديثة من الميراج وسكاي هوك وفانتوم، كما استطاعت إسرائيل أن توفر عددا من الطيارين الأكفاء، وهم أهم من الطائرات، بنسبة ثلاثة طيارين لكل طيارتين وإلى جانب ذلك استطاعرت أن توفر أيضا أجهزة إنذار عصرية وأحدث الأجهزة الإلكترونية للتشويش على أجهزة الاستطلاع والإنذار المصرية. كانت المعادلة التي تبدو بدون حل تقول إنه حتى إذا امتلكنا كل وسائل الإنذار والدفاع الجوي الأرضية والمقاتلات الاعتراضية، فكيف يمكن أن نمتلك زمام المبادرة وتوجيه الضربة الأولى التي يجب أن يحرص عليها كل طرف؟!

إن وضع هذه الوسائل على أعلى درجة من الاستعداد القتالي حتى لا يفاجئنا العدو يعني ضرورة تشغيل معدات الدفاع الجوي بصفة مستمرة، وهو أمر يعني سرعة استهلاكها، واستهلاك رجالها مما تعجز عنه حتى الدول الكبرى.

ومن ناحية أخرى، فإن عدم تشغيلها الدائم يعني أن العدو قد يفاجئنا بالضربة الأولى.

وقد وجد الفريق محمد علي فهمي حلا لهذه المعادلة بعد نقاش طويل - كما يقول - مع أحد أساتذة أكاديمية «كالينين» قال له الأستاذ إنه ليس من المطلوب أن تكون وسائل الدفاع الجوي على أعلى درجات الاستعداد بصفة دائمة، ولكن فقط في الوقت الذي ينتظر أن يقوم العدو فيه بتوجيه ضربة جوية مركزة.

وعندما أبدى القائد المصري دهشته متسائلا: ومن أين لي أن أعرف التوقيت؟ أجاب الأستاذ: إن ذلك من أولى مهام أجهزة الاستطلاع الاستراتيجي والمخابرات.

فالقيام بضربة جوية مركزة يحتاج لعديد من الإجراءات والتحركات ومهما حاولنا أن نجريها في سرية وكتمان فلن ننجح إلا في خداع البسطاء.

ومن هنا بدأت مهمة الفريق فهمي ورجاله، إنها تتلخص في «حرمان العدو من تفوقه الجوي» أو حرمان العدو الإسرائيلي وقواته الجوية من حرية العمل ومن التأثير على بناء وأعمال قتال قواتنا المسلحة وحماية المجال الجوي كله بشقيه العسكري والمدني. المشكلة ليست السلاح

لم تكن قد مضت عدة أشهر على قرار تشكيل قوات الدفاع الجوي حتى بدأت حرب الاستنزاف وبدأت غارات الطائرات الإسرائيلية على جبهة القناة ثم القاهرة ثم الأهداف الحيوية في العمق المصري وكانت ظروفنا صعبة ولكنها أبدا لم تكن حالكة.. وبقدر ما بذلت قواتنا والمواطنون المدنيون من دماء زكية وهم يبنون أضخم شبكة إنذار وصواريخ مضادة للطائرات تحت قصف القنابل والصواريخ الإسرائيلية، بقدر ما تعلمنا دروسا ثمينة في علوم وفنون القتال كانت خير معين لقواتنا في حرب أكتوبر المجيدة.

ويقول الفريق فهمي إن أحد أهم العوامل في تحقيق ما وصلت إليه قوات الدفاع الجوى، هو اختيار قيادات من الضباط ذوي الأفق المتفتح والتفكير المرن ويتحلون بثقافة عسكرية عميقة، وعلى درجة كبيرة من الثقافة العامة، وكان هؤلاء المقاتلون من مهندسين وضباط وراء كثير من التعديلات التي أدخلت على أسلحتنا وكان العامل الأهم كما يقول ليدل هارت «إن المشكلة لم تكن في نوع السلاح، ولكن في طريقة استخدامه».

ولهذا تركز البحث في استحداث أفضل أساليب الاستخدام القتالي للمعدات.

«وبدأنا التدريب على أسس جديدة، وكانت المعركة الدائرة تضغط علينا لاختصار الوقت إلى أقل زمن ممكن، وأفدنا من مواقف التدريب الحقيقية التي هيأتها لنا المعركة للإسراع في رفع مستوى الأفراد، واستجاب الجنود بسرة للتدريب وأصبحوا سادة السلاح».

الاستنزاف والاستنزاف المضاد

وفي عام 1968 أعلنت مصر عن سياستها الحربية الجديدة التي عرفت باسم «الدفاع الوقائي»، ومعناه ألا تسمح مصر لإسرائيل بتحويل خطوط المواجهة إلى خطوط للبقاء تحسنها وتثبت فيها أقدامها، وتولت المدفعية المصرية دورها دون إبطاء، مما أدى إلی تزايد حجم الخسائر الإسرائيلية وأيقنت إسرائيل أن الرد الوحيد الذي يمكن أن «يردع» المصريين هو استخدام «ذراعهم الطويلة» أو سلاح الطيران الإسرائيلي.. وبعد أن قامت القوات الإسرائيلية بكل العمليات التمهيدية اللازمة بدأت في ضرب أهداف عسكرية ومدنية داخل العمق المصري لكي تحقق أهدافا عسكرية وسياسية وتتحطم الروح المعنوية.

وخلال الفترة من يوليو 1968 حتى يناير 1970 لم يتوقف العدو الإسرائيلي عن استخدام كل وسائل وتكتيكات الهجوم الجوي ابتداء من أساليب الطيران الألماني في الحرب العالمية الثانية، وانتهاء بأحدث وسائل التشويش الإلكتروني وصواريخ «شرايك» الأمريكية.

ويروى الفريق فهمي معركتين استطاعت فيهما قوات الدفاع الجوي المصرية رغم قصور الإمكانيات أن توقع خسائر فادحة بالعدو الإسرائيلي، كانت الأولى في الأردن عندما هاجمت الطائرات الإسرائيلية في إبريل 1969 موقعي رادار مصريين يدافع عنهما عدد محدود من الرشاشات المضادة للطائرات، واستطاع المدافعون المصريون إسقاط ثلاث طائرات إسرائيلية من بينها طائرة قائد السرب.. أما الثانية فهي خدعة أوقعت بالعدو الذي اشتهر بالدهاء خسائر فادحة هي ثلاث طائرات نظير تدميره لموقع صواريخ مصري هيكلي، بعد أن نقلت قوات الدفاع الجوي المعدات الحقيقية إلى موقع آخر تبادلي، بسبب توقعها الهجوم الإسرائيلي الذي سبقته عملية استطلاع إسرائيلية دقيقة، في 18 سبتمبر سنة 1969.

حتى بدأت حرب 73

وواصل رجال الدفاع الجوي المصري العمل ليل نهار لاستيعاب الأسلحة الجديدة وبناء قواعد الصواريخ الحصينة على اتساع مصر. لكن رغم التضحيات الخارقة التي تحملها رجال المدفعية المضادة للطائرات كان العدو ينجح في معظم الأحيان في هدم ما أمكن تشييده كما يقول الفريق فهمي.. ولكن ذلك لم يدفع إلى اليأس، بل إلى ابتكار أسلوب جديد في استكمال شبكة الصواريخ، وهو أسلوب «الزحف البطيء»، الذي يتلخص في إنشاء تحصينات كل نطاق دفاعي ثم احتلاله تحت حماية النطاق الخلفي له وهكذا، وكان على قيادة الدفاع الجوي أن تقيم تحت قصف الطائرات الإسرائيلية على ارتفاعات منخفضة 24 قاعدة صواريخ وتجهيز مراكز القيادة والسيطرة واحتلالها لمواقعها ومعها وسائل الدفاع المضاد للطائرات المباشر عنها ووسائل الإنذار اللازمة، مع دفع مجموعات مهن مهندسي الإلكترونيات لضبط واختبار وتجهيز هذا العدد الكبير من المعدات، على مدى ليلتين فقط، وهكذا بدأت قواعد الدفاع الصاروخية عن القاهرة من شرقها ثم تم إنشاء ثلاثة نطاقات جديدة تمتد إلى منتصف المسافة بين القاهرة وجبهة القناة، وهكذا إلى أن استكملت قوات الدفاع الجوى وجودها، وفوجئت الطائرات الإسرائيلية في 30 يونيو 1970 بحائط الصواريخ المصرية الذي أنزل بها خسائر فادحة لم تكن في الحسبان.. وقالت جولدا مائير يومئذ:

«إن كتائب الصواريخ المصرية كعش الغراب كلما دمرنا إحداها نبتت الأخرى».

وقال أبا إيبان: «لقد بدأ الطيران الإسرائيلى يتآكل.. ففي الفترة من 20 يوليو إلى 8 أغسطس 1970 فقد الإسرائيليون وفقا للبلاغات المصرية 16 طائرة».

لكن مجلة «أفييش ويك» ذكرت من مصادر مطلعة أن خسائر إسرائيل بواسطة حائط الصواريخ المصري بلغت 51 طائرة منها 17 طائرة دمرت تماما و24 طائرة أصيبت، وتساءل «بير جيس» الدبلوماسي المشرف على المصالح الأمريكية في القاهرة يومئذ بعد أن توقف إطلاق النار عن السر الذي يدعو مصر للتقليل من حجم الخسائر الإسرائيلية، ورد المسؤول المصري مازحا: «لنوقع بينهم وبينكم، فعندما يتقدمون لكم بطلبات الاستعاضة ستتهمونهم بالكذب والمغالاة من واقع أرقام الخسائر التي تذيعها..»، لكن الحقيقة هي أن القوات المصرية كانت تحرص إلى درجة المغالاة تحديد ما تحققه من انتصارات.

وفي الساعات القليلة التي سبقت تنفيذ وقف إطلاق النار وفقا لمبادرة «روجرز» تمكنت قوات الدفاع الجوي من استكمال حائط الصواريخ بصورته النهائية، وكان الوصول إلى ذلك يستدعي شهورا عديدة وفقا للخطة الأصلية، وبدأت قوات الدفاع الجوي مهمتها الجديدة صباح السابع من أغسطس وانتهت قبل وقف إطلاق النار في الدقيقة الأولى من يوم الثامن من أغسطس سنة 1970.

ولهذا يعتقد الفريق فهمي بحق أن دور القوات المصرية عامة وقوات الدفاع الجوي بشكل خاص هو الذي دفع الولايات المتحدة الأمريكية لتقديم مشروع روجرز لوقف إطلاق النار، كما أجبر هذا الدور إسرائيل على قبول المبادرة الأمريكية.

ويعتقد أن الصفحات الرائعة التي سجلتها قوات الدفاع الجوي المصرية، وضعت في عام 1970 اللبنة الأولى في صرح الانتصارات العظيم للجيش المصري في حرب أكتوبر.

لكل مشكلة حل:

في اليوم التالي لوقف إطلاق النار مباشرة فوجئ قادة تشكيلات وأركان قيادة الدفاع الجوى بدعوة من قائدهم في مكتبه.

كانوا يعتقدون أنه مجرد اجتماع لتوجيه الشكر إلى الضباط والجنود على البطولات التي حققوها ضد العدو.

لكن دهشتهم ازدادت عندما طلب إليهم القائد أن يعد كل منهم فيما يخصه دراسة تفصيلية عن المشاكل والصعوبات المتوقعة أمام قوات الدفاع الجوي في معركة العبور والتحرير وإعداد المقترحات لحلها. وكان الأكثر إثارة هو عدم تحديد موعد معين من جانب القائد لتلقى هذه الدراسات، بل استجابته للموعد الذي حددوه هو، وهو ثلاثة أشهر!

«وعلينا - كما قال القائد - أن نعترف بأن التفوق الإسرائيلي الجوي حقيقة لكي ينبغي ألا ننسى أننا استطعنا تحدي هذا التفوق مرات عديدة خلال حرب الاستنزاف.. وفي معركتنا المقبلة سيكون علينا أن نهزم هذا التفوق ونحطم الأسطورة.

وجاء الموعد بعد ثلاثة أشهر من يوم التاسع من أغسطس سنة 1970، واستمع القائد إلى تقارير المعاونين وضباط الأركان كانت الصورة كما يقول الفريق فهمي «قاتمة» والمشاكل والمصاعب لا حصر لها، وبعضها خطير ومعقد أشد التعقيد..».

وبعد الاستماع إلى كل التقارير أخذ القائد يقلب في أوراقه وقرأ عليهم فقرة:

«إن لكل مشكلة مهما عظمت حلا وينبغي وضع السيناريو كاملا لكل موقف حتى نكون على بينة بمراحله وتطوراته المنتظرة ونقدر لكل قدم موطئها».

وكانت هذه هي نص كلمات القائد الأعلى للقوات المسلحة الرئيس السادات، سجلها قائد الدفاع الجوي في أول اجتماع للرئيس بقيادة القوات المسلحة بعد توليه المسؤولية.

ومع نهاية عام 1972 وبعد أن استنفدت مصر كل الوسائل السياسية والدبلوماسية اتخذ الرئيس السادات قراره بالاستعداد للحرب وبالتخطيط لعملية هجومية استراتيجية مشتركة بالتعاون مع القوات السورية.

جبار كلمة السر!

وواصلت قوات الدفاع الجوي تحقيق هدفها الجديد بالاستعداد للحرب، كانت إحدى مهامها حرمان إسرائيل من أفضل مصادرها للمعلومات وهي طلعات الاستطلاع الجوي التي تطير شرقي القناة لالتقاط صور وتحركات قواتنا، وأمكن عن طريق عمليات خاصة رغم استمرار وقف إطلاق النار تكبيد العدو خسائر فادحة ومتلاحقة كانت ذروتها إسقاط الصواريخ المصرية لطائرة استطلاع إلكترونى إسرائيلية من طراز «استراتوكروزر» في سيناء ومقتل جميع من فيها وهم نخبة من علماء وخبراء الحرب الإلكترونية.

ورد العدو كما توقع قادة الدفاع الجوى المصري باستخدام أخطر الأسلحة الإسرائيلية من الصواريخ المضادة للرادار وهي صواريخ «شرايك» أطلق الإسرائيليون عشرة صواريخ من خارج مناطق تدمير الصواريخ المصرية ضد محطات رادار الإنذار وتوجيه الصواريخ المصرية، لكن كل صواريخ «شرايك» طاشت بفضل الأسلوب المبتكر الذی اتبعته القوات المصرية.

وفي يوم السبت 6 أكتوبر الموافق العاشر من رمضان كان كل شيء يسير كالمعتاد حينما بدأت القوات المسلحة تنفذ «المناورة الكبرى» السنوية، وكانت كل القوات في أقصى درجات الاستعداد.

وفجأة، في الواحدة والنصف بعد الظهر أمسك قائد قوات الدفاع الجوي في مركز العمليات الرئيسى لقواته بالميكروفون ونطق بكلمة واحدة: «جبار»، وبدأت الحرب بالنسبة لقوات الدفاع الجوي.

وبقدر ما كان المشهد صاخبا - كما يقول الفريق فهمي - والمعركة محتدمة كان هناك صمت وسكون مثير يخيمان على مواقع الدفاع الجوي.

وكان جميع القادة قلقين على المعابر التي امتدت من غربي القناة إلى شرقها تحمل القوات والمعدات والدبابات الثقيلة بعد أن نجحت الموجات الأولى من القوات البرية في اقتحام خط بارليف بمعونة القوات الجوية وأكثر من ألفى مدفع ثقيل.

الجميع قلقون إلا واحدا!

لكن قائد الدفاع الجوي الذي اختبر رجاله ومعداته طوال الفترة من 1968 حتى 1973 لم يكن قلقا بأي شكل، كان واثقا من قدرة حائط الصواريخ المصري علی صد الطائرات الإسرائيلية التي ستحاول تدمير المعابر المصرية، «إن الأيام العصيبة والمريرة والمجيدة أيضا، التي مرت بها قوات الدفاع الجوى خلال حرب الاستنزاف لم تضع هباء».

ولم تكن الصورة وردية دائما كما يقول الفريق فهمي، ولكن النتيجة كانت رائعة، فبعد ساعتين من محاولات مستمرة لسلاح الطيران الإسرائيلي لتدمير المعابر كانت الطائرات الإسرائيلية تتهاوى أمام أعين الجنود فتشعل حماس العابرين وحميتهم، وعندما فشل العدو في تدمير المعابر التقطت أجهزتنا إشارة لاسلكية مفتوحة تحمل أمرا من الجنرال «بيليد» قائد القوات الجوية الإسرائيلية إلى طياريه بتحاشي الاقتراب من القناة لمسافة تقل عن 15 كيلومترا شرقا!

وهدأت المعركة في السماء إلى حين، وتوقعت قيادة قواتنا أن يزداد حجم وكفاءة الطائرات الإسرائيلية المغيرة بعد أن يستعيد القادة الإسرائيليون توازنهم المفقود، وحاول الإسرائيليون دون هوادة أن يكرروا ضربة يونيو سنة 1967 في اليوم الثاني للمعركة، لكن التاريخ لا يكرر نفسه كما يقول القائد المصري. ثم غير الإسرائيليون تكتيك الهجوم على المطارات المصرية في وقت واحد ليصبح الهجوم على مطار واحد من جانب 16 أو 24 طائرة إسرائيلية.. لكن النتيجة كانت مخيبة لآمال الإسرائيليين مما دعا الخبراء شرقا وغربا إلى الاعتراف بأن التفوق الجوي الإسرائيلي لم يعد حقيقة ثابتة، وأن مزاعم «القيام بعمل سريع ضد العرب في حالة تجدد القتال كانت مزاعم غير دقيقة»، وهكذا اضطر موشى ديان إلى أن يقول من خلال التليفزيون الإسرائىلي في 14 أكتوبر:

«إن القوات الجوية الإسرائيلية تخوض معارك مريرة.. إنها حرب ثقيلة بأيامها.. ثقيلة بدمائها».

انتصارات وهزائم

ويقول الفريق فهمي إنه يرجو ألا يتبادر إلى ذهن القارئ أن الصورة كانت وردية دائما وأن المعركة لم تكن إلا انتصارات مستمرة.. لم يكن الأمر كذلك فلقد تكبدنا في كل يوم إصابات في المعدات وخسائر في الأفراد.. وهي وإن كانت أقل بكثير مما توقعناه إلا أنها كانت ستؤثر بلاشك لو تركت لتتراكم على كفاءة شبكة الدفاع الجوي.. لكن التخطيط الجيد لنواحي الإصلاح والتأمين الفنى والجهود البطولية التي بذلها مهندسو الدفاع الجوي حققت استعادة الموقف أولا بأول وكفلت لشبكة الدفاع الجوي الصمود والاستمرار والكفاءة طوال أيام القتال.

ثم يتحدث الفريق فهمي عن الثغرة التي بدأت في يوم 16 أكتوبر، والتي أدت إلى ضرب بعض قواعد الصواريخ المضادة للطائرات بالمدفعية الإسرائيلية من غرب القناة.. لكن كان هناك تصميم من جانب القوات المصرية على ألا تحدث ثغرة في حائط الدفاع الجوي واستطاعت القوات المناورة اتخاذ مواقع تبادلية فيما عدا قاعدتين دمرتهما القوات المصرية لكي لا تقعا في أيدي العدو.. وبذلك «تقوس» حائط الدفاع الجوي المصري إلى الخلف قليلا، لكنه «لم يشق أو يشرخ».

كابوس دائم

وانهارت نظرية تقول «الكيف الإسرائيلي» علی «الكم العربي» وتأكدت حقائق أكثر لعل أخطرها ما قالته الجيروازاليم بوست الإسرائيلية على لسان قائد جوي إسرائيلي:

«إن الدفاع الجوى المصري يتمتع بكفاءة ليس لها مثيل في تاريخ الحروب تفوق تلك التي واجهها الأمريكيون في فيتنام».

وهكذا شاركت قوات الدفاع الجوي في ملحمة أكتوبر «بدور هجومي»، كما قال خبير عسكرى أمريكي، وتغيرت مفاهيم عسكرية كثيرة لدى أقوى وأحدث جيوش العالم.. وبدأت إسرائيل تطور أسلحتها مرة أخرى وفقا لدروس أكتوبر، ولم تتوقف مصر عن أن تفعل نفس الشيء مصممة على أن يظل ذلك النظام المتكامل لشبكة الصواريخ المضادة للطائرات هو الكابوس الذي يؤرق إسرائيل في الحاضر والمستقبل.  

 

روزاليوسف العدد 2577

تم نسخ الرابط