السلام يد خل الكمبيوتر مرتين في الأسبوع!
وايزمان تليفونيا للعميد أبوشناف: هل تواجهكم متاعب؟!
الجنرال «الكمبيوتر» على مائدة الطعام: لولا أمريكا لأجهزتم علينا في الحرب.. تماما
أليس غريبا يا سناء - أن نجد أنفسنا.. بعد خمس وعشرين سنة من الإرهاب وسفك الدماء.. عربيا وإسرائيليا.. مشتركين فی حوار علني؟! الذي يلقي السؤال «المفاجأة».. كاتب وصحفي إسرائيلي شهير اسمه «عاموس أيلون» مؤلف كتابي «الإسرائيليون.. المؤسسة والأبناء» و«رحلة في أرض الأشباح».
وسناء.. هي سناء حسن.. مصرية شابة.. تدرس وتعيش في أمريكا.. ابنة سفير سابق.. وزوجة موظف كبير في القاهرة.
التقى عموس وسناء «صدفة» فی نيويورك بعد حرب أكتوبر.. ودار بينهما أول حوار «شخصي» و«علني» من نوعه.. تعرفه مصر وإسرائيل قبل «مبادرة» السلام بسنوات.. كانت حصيلته كتابا أقام الدنيا.. ولم يقعدها.. كتاب «بين الأعداء: حوار عربي - إسرائيلي».. الذي سجل أصلا على شرائط «كاسيت».. نافست في انتشارها أغاني «الديسكو».. والزنجية الدافئة الصوت «دونا سمر».. أشهر مغنية في عصرنا!
سناء: أظن أنه كان من الخطأ الجسيم المؤسف.. من جانبنا نحن العرب.. ألا نتكلم معكم معشر الإسرائيليين من قبل.. إننا في حاجة إلى مثل هذا الحوار.. فبدونه تعتبر أية تسوية سلمية مجرد قصاصة ورق.. إن علينا أن نكسر الجمود ونبدد التحامل اللذين يباعدان بيننا.. وأن نزيل الطبقات المتراكمة من الكراهية والبغضاء القائمة بيننا.. إنني أعتقد أننا نحن العرب كنا نعارض بدء الحديث معكم من قبل.. لأننا كنا نشعر بأن ذلك يمنح إسرائيل نوعا من الشرعية المعنوية.. وهذا ما لم نكن على استعداد لأن نفعله!
عاموس: وهل أنتم مستعدون لأن تفعلوه الآن؟
سناء: حتى الآن! يحتمل أن يكون أغلب العرب غير مستعدين لأن يتكلموا معكم.. إنهم مازالوا يفكرون في السلام بأسلوب سلبي.. على أنه مجرد إنهاء حالة الحرب.. وليس شيئا إيجابيا مثل المشاركة والعمل المتبادل.. إنهم لا يرون أن إقامة العلاقات الدبلوماسية والتبادل الثقافي والسياحي والاقتصادي وما إلى ذلك.. سوف تجيء فى المستقبل.. ولكن الواقع أنها آتية لا محالة.. هذا يستلزم وقتا.. وعلينا أن نتذرع بالصبر.. ويجب أن نبدأ أولا بصلح رسمي لكي نستطيع التوصل إلى سلام حقيقي فيما بعد.
عاموس: لكن متى وكيف؟
سناء: قبل كل شيء.. يجب أن نتحدث مع بعضنا البعض.. إن من غير المعقول ألا يعرف أي من بلدينا عن الآخر أي شيء على الإطلاق.. وقد أوقعنا جهلنا في شرك الجمود والتشدد.. وعندما كنا نرى الإسرائيليين في الشارع يخيل إلينا أننا نرى مخلوقات من كوكب المريخ.. وقد تعترينا الدهشة حين نرى أن لهم عيونا أو أنوفا أو أقداما.. إننا نجد حقيقة وجودهم أمرا غير عادي.. ومع أن إسرائيل قائمة.. إلا أننا نعرفها بالمعنى المجرد فحسب.
عاموس: ومع ذلك لا يستطيع الإسرائيليون جميعهم أن يقابلوا جميع المصريين.. فكيف يمكننا أن نحطم هذا الجمود الذهني يا سناء؟!
إني أحس أن الجانبين كليهما.. أنت وأنا.. أنتم ونحن.. مازلنا نحارب أشباح الماضي.. فالعرب يكافحون ضد أشباح الإمبريالية البريطانية والفرنسية.. ونحن نناضل ضد الأطياف الرهيبة لماضينا الحزين.. إننا نرى خلف كل جندي عربي.. رجلا من رجال البوليس النازي!
إن هناك تحاملا مشابها لذلك من جانبنا.. فنحن في إسرائيل غالبا ما نذهب من أحد طرفي النقيض إلى الآخر.. وإذا لم نر فيكم شياطين نازيين بشعين.. فإننا نميل إلى أن نعتبركم دون الآدميين.. أو أن نسقطكم من حسابنا.. إن التعبير العبري الدارج للعمل المشين القذر هو: «عمل عربي» وإذا أردت أن تقولي لشخص ما: لا تكن أحمق! أو «لا تكن ضالا مارقا».. فإنك تقولين: «لا تكن عربيا»!
ويستمر الحوار بين سناء وعاموس.
لكنني أتوقف عند الجزء الذي فرض على القلق والاضطراب.. وأطار النوم من عيني.. وأنا في طريقي أول مرة إلى العريش وهي لا تزال مدينة تحت الاحتلال الإسرائيلي.
كان كتاب «بين الأعداء».. بين يدي في الأتوبيس العسكري المصري.. الذي تسبقه سيارة «جيب» لقوات الأمم المتحدة.. في المنطقة العازلة بيننا وبينهم.. وهي منطقة تمتد نحو 65 كيلومترا.. تقطعها السيارة ببطء.. وكأنها تسير في شارع رمسيس.. فالألغام مزروعة على الجانبين. وأي انحراف عن الطريق المحدود.. يعرضنا للانفجار.
كنت قلقا.. مضطربا.. وكلما اقتربنا من «المنطقة» الإسرائيلية.. ازداد توتري وارتفع عدد السجائر المحترقة بين أصابعي.. لم أكن لأصدق أنني سألتقي الأعداء.. وأنني سأتحدث معهم بسهولة.. لم أكن لأعرف بالضبط كيف تكون «صدمة» اللقاء بأول إسرائيلي. ولا كيف سيصافح وجهي وجهه؟!
دفنت رأسي في الكتاب «الدليل» أقر ما بين سطوره.. وأحاول رسم «خريطة» للحوار.. أو على الأقل تكون كلمات سناء وعاموس المتدفقة بسهولة ودون تكلف نوعا من أقراص «الاطمئنان»!
وجها لوجه:
وجاءت أحرج وأدق لحظات حياتي..
نزلنا من الأتوبيس المصري وركبنا الأتوبيس الإسرائيلي.
تركنا سائقنا الأسمر الطيب «عم محمود» واستلمنا سائق إسرائيلي شديد الصمت.. ملامحه ألمانية.. وأصله إنجليزي.. واسمه «يوسف زو» وإذا بمرافقنا الأصلي يصعد السيارة.. ويلقي علينا السلامات.. وكأنه مصري عاش وتربى في «بولاق» أو «باب الشعرية» ضابط برتبة «رائد».. يضع البيريه على كتفه.. وتسبق عيناه لسانه في الكلام.. وعرفت بعد ذلك أن اسمه «سيمون» وأنه تعلم اللهجة المصرية وأجادها من زوجته «الإسكندرانية» الأصل.. وحماته التي رافقتها إلى إسرائيل.. وزوجته هي المسؤولة عن مراجعة ترجمة الأفلام المصرية التي يقدم التليفزيون الإسرائيلي فيلما منها كل أسبوع.

وقبل أن تتحرك السيارة.. قفز إليها سبعة من الجنود الإسرائيليين.. جلسوا في المقعد الخلفي العريض للسيارة.. وقد أمسكوا ببنادق أتوماتيكية.. سريعة الطلقات.. وطوال الطريق إلى مدينة العريش لم يفتحوا أفواههم بكلمة واحدة.. إنهم صغار لم تنبت شواربهم بعد.. ملامحهم غير متجانسة.. وألوان بشرتهم تأخذ كل الألوان.. وشعورهم منسدلة على أكتافهم.. «خنافس» ويبدو أنهم أحسوا بالتوتر من كثرة ما نظرنا إليهم.. أحسوا أننا نتأملهم في دهشة وتعجب.. وكأنهم مخلوقات غريبة عن كوكبنا.. هبطت علينا من عوالم أخرى.. لا نعرفها.. لم ينقذهم الصمت ولم يرحمهم من عيوننا.. فراحوا يخفون توترهم في «مضغ اللبان» والتظاهر بأن السيارة الكبيرة لا تحمل سواهم.
وفي مبنى الإدارة المدنية للعريش وما حولها.. اكتشفنا أنهم يبتسمون وأن لهم أقداما مثلنا وعيونا مثلنا.. ويرتدون ملابس مثلنا.. ولم أصدق ما رأيته بعيني، مشاعر الكراهية والحقد والحرب الساخنة والباردة بيننا وبينهم يمكن أن تتبدل في ثوان.. ولا أعتقد أنهم أيضا صدقوا.. أنه حديث ينافس في خطورته ومفاجأته.. هبوط أول إنسان على سطح القمر.. واكتشاف البنسلين.. وزراعة القلوب.. والتوصل إلى القنبلة الذرية.. كيف يمر إذن بهذه السهولة؟!
أبدا..
لم يمر الحادث بسهولة.. حتى لو بدت الصورة كذلك.
فالجانب الإسرائيلي في المفاوضات العسكرية التي جرت في حجرة بسيطة في الدور الثاني من مبنى «الإدارة المدنية».. كان 25 ضابطا من مختلف التخصصات الحربية والنفسية.. مقابل 16 ضابطا مصريا من الذين وضعوا أيديهم في النيران.. نيران الحرب.. وفي كل جلسة مباحثات.. كانت هناك دائما وجوه تختفي.. ووجوه جديدة تظهر.. في كل جلسة مباحثات.. كانت أربع شخصيات جديدة تستبدل بأربع شخصيات أخرى.. كأنها مباراة كروية شديدة الحساسية.. وكان دور كل الشخصيات «الجديدة» التي تنضم للاجتماعات.. مراقبة ملامح وتصرفات وكلمات وتعليقات الوفد العسكري المصري.. والتأكد من أننا فعلا نريد السلام.. ومقتنعون فعلا بالسلام.. وأن المسألة ليست مجرد مناورة لاسترداد الأرض.
وكل إسرائيلي كان يحضر المفاوضات عليه أن يقدم تقريرا بملاحظاته وأحاسيسه.. وهم يقولون من باب الدعاية ومن باب إبهارنا.. أنهم يدخلون كل هذه الآراء «الكمبيوتر» ليقول لهم ما عجزوا عن التوصل إليه.. وربما ليحس بدلا منهم.. تماما كما فعلوا بخطاب الرئيس السادات في «الكنيست».. حولوا الكلمات إلى ثقوب.. وترجموا الصوت إلى لغة الكمبيوتر.. وانتظروا ما سيقوله العقل الإلكتروني.. الذي اخترعه أصلا عقل بشري.
وفي كل مرة يخرج العميد صفي الدين أبوشناف من حجرة المفاوضات.. يحاصر بأسئلة وكاميرات وأجهزة تسجيل الصحافيين.. إنهم يسألون نفس السؤال بأكثر من صيغة.. وبأكثر من لغة.. ووسط حوار طويل مرة.. وبمباغتة في كل مرة.. وليس من الصعب تخمين ذلك السؤال الذي يحير إسرائيل!
ويبدو أن القيادة الإسرائيلية قد خافت من أن ينزعج الوفد المصري من هذا الإلحاح.. خافت أن يشعر بما في داخلهم من قلق قد يصل إلى الطرف الآخر على أنه فقدان ثقة.. فتزداد الهوة بينهما بدلا من أن تلتئم.. وتنفجر ألغام من المتاعب لم تكن في النية الاقتراب منها. كان وزير الدفاع الإسرائيلي «عيزرا وايزمان» يعالج الجروح التي يفتحها رجاله.. ويتصل برئيس الوفد المصري.. العميد أبوشناف في كل مرة تجتمع اللجنة العسكرية المشتركة.. يسأله بلغة عربية سليمة:
- هل هناك مشاكل تواجهكم؟
وفي كل مرة يقول له:
- أرجوك أن تبلغني فورا عن أي مشكلة تعترض طريقكم.
شهادة إسرائيلية:
والعميد أبوشناف رجل هادئ.. لا ينفعل.. من الصعب استفزازه.. لا يدخن.. سريع التصرف.. ابن بلد.. لا تفارقه الابتسامة.. يدرك جيدا ما يفعله.. من السهل جدا أن يكسبك إلى صفه.
إنه كما تقول الأوراق الرسمية الصادرة عن مكتب المتحدث العسكري الإسرائيلي.. مولود عام 1931.. ضابط مشاة.. تخرج في الكلية الحربية عام 1953.. تخرج في كل القادة والأركان عام 1966.. في الفترة من 55- 1958 خدم في الجبهة الشرقية.. عام 1975 تخرج في أكاديمية ناصر العسكرية في حرب أكتوبر «يوم كيبور» كان مساعدا للميجور جنرال أبوسعدة.. ما لم تقله الأوراق الإسرائيلية عن العميد أبوشناف.. إن جنوده هم الذين أسروا لواء مدرعات ضابطهم «عساف ياجوري».. وأنهم أيضا أسروا أول إسرائيلي أيام حرب الاستنزاف. على مائدة طعام الغداء أضاف العميد أبوشناف هذه المعلومات للضباط الإسرائيليين الذين يجلسون حوله.. ويشاركونه المفاوضات العسكرية فقال أحدهم:

- إننا نخشى أن تأسرنا الآن!
وضحك الجميع.
وعلى مائدة الطعام دار حوار مثير بين العميد أبوشناف والجنرال الإسرائيلي «تيمر» الذي يقال عنه إنه أخطر عقلية عسكرية في إسرائيل.. وأن رأسه كرأس «أينشتين» لا تحمل عقلا بشريا عاديا.. بل تحمل كمبيوتر.
سأله الضابط المصري الكبير سؤال بسيطا:
* ما رأيك سيدي الجنرال في حرب أكتوبر؟
قال جنرال تيمر:
إنها شهادة عسكرية في صالحكم تماما!
وتوقف الجميع عن تناول الطعام.. في انتظار شهادة الجنرال «الكمبيوتر».
قال الرجل:
- لو كانت لكم إمكانياتنا بدلا من إمكانياتكم المحدودة.. ولولا الجسر الجوي الأمريكي.. لكنا قد انتهينا تماما ولم تقم لنا قائمة بعد ذلك.. لقد خطفتم جميعا إعجابنا من أصغر نفر إلى أكبر ضابط.
على الطرف الآخر كان يتولى العميد «دوف شيمون» رئاسة الوفد العسكري الإسرائيلي.
عمره 58 سنة، تخرج عام 1910 في «كارباتي» في موسكو، حصل على بكالوريوس العلوم العسكرية من جامعة «هيرو» في القدس.. خدم في تنظيم «الهاجانا».. خدم مع الجيش البريطاني في إيطاليا خلال الحرب العالمية الثانية.. كان في القدس أيام حرب 1918.. بعد الحرب سافر لندن للدراسة لمدة عام.. من عام 1959 حتى عام 1962 تولى منصبا دبلوماسيا في سفارة إسرائيل في لندن.. في حرب يونيو 1967 حارب مع جنرال شارون.. كان متحدث رسميا في يونيو 1971.. رقي إلى رتبة قائد كلية الدفاع في إبريل 1976.. متزوج وله ابنتان.
كانت المفاوضات العسكرية تستمر يومين كل أسبوع.. وكان الاجتماع الواحد يمتد أحيانا إلى سبع وثمان ساعات.. تقطعه ساعة لتناول الغداء.. وكان يتولى الترجمة من العبرية إلى العربية والعكس.. بعض العرب من أصل فلسطيني أحيانا.. ممن يعملون في خدمة الإدارة الإسرائيلية.
وكانت مهمة إعلان قرارات اللجنة توكل غالبا للعميد دون شيون. لأن القرارات التي كان يعلنها غالبا ما تكون في صالح المصريين.. ومن الأوقع أن يتولى الجانب الإسرائيلي إعلانها.
قال دون شيون:
إن حفل تسليم مدينة العريش سيتم يوم الجمعة 25 مايو.. حوالي الساعة الثانية عشرة ظهرا.. وستسلم السلطة على جميع أنحاء المنطقة الساحلية والعريش للسلطات المصرية.. وذلك في طابور تنزيل العلم الإسرائيلي ورفع العلم المصري الذي سيجري في ساحة جانبية من مبنى القيادة الإسرائيلية.. أمام «المطعم». بحضور الجنرالات من الجيشين.
وفي اجتماع اللجنة العسكرية المشتركة يوم الاثنين الماضي.. كان موضوع البحث عن المفقودين وموضوع المحافظة على النصب التذكاری للجيش الإسرائيلي.. من بين جدول أعمال الجانبين.. وكان الانتهاء منه نهاية مرحلة مبدئية فى المفاوضات.
رجل أم امرأة؟
وكما كانت الرغبة الإسرائيلية مشتعلة داخل اجتماعات اللجنة العسكرية.. للتأكد من نية المصريين في السلام.. كانت أيضا خارجها.. كان كل مصري يقع بين أيديهم يحاصرونه بأسئلتهم الاختيارية.. حتى رجال الإعلام والصحافة الذين جاءوا ليلقوا هم الأسئلة.. لم يفلتوا من الحصار غير المعلن.. مجندة إسرائيلية من أصل إنجليزي اسمها «ديفورا نيكسون» أصرت على أن تكتب في مفكرتي الصحفية عبارة باللغة العبرية للشعب المصري.. «نحن نأمل جميعا في أن يأتي السلام حالا»، مجندة إسرائيلية من أصل عراقي اسمها «فيولا عبدالعزيز» فتحت حوارا سريعا عن السلام.. بعد أن قدمت لي نفسها كقارئة لـ"روزاليوسف".. وتعرفنا جميعا على الورق.. فردا فردا.
ثم وجدت نفسي فجأة محاصرا بكاميرات سينما وميكروفونات تسجيل.. وأسئلة لا نهاية لها ولا حصر لها.. لا أنا عرفت من الذی سألني ولا عرفت من الذي يصورني وكان السؤال نفس السؤال:
* ما هو رأيك الشخصي في السلام؟
وعندما أجبت:
- إنه أخطر على إسرائيل من الحرب!
وجدت الدائرة تختنق.. والعيون ضاعفت من بريقها.. والحماس لمعرفة التفاصيل.. تفاصيل التفاصيل.. كان مضاعفا.
* ماذا تقصد بالضبط؟
- عندما يواجه المجتمع.. أي مجتمع.. قضية وطنية.. وخطرا مشتركا.. فإنه يؤجل تفجير تناقضاته الاجتماعية.. يؤجلها تماما كما كان المجتمع المصري أيام الإنجليز.. وكما كان الحلفاء ضد النازية.. وكما كان المجتمع الإسرائيلي ضد العرب.. إنها حالة الحرب.. هو في الوقت نفسه شد لفتيل التناقضات الاجتماعية.. كل فئة أو جماعة ترى طريق المجتمع على مزاجها وأفكارها الخاصة.. وإذا كان هذا يحدث في مجتمعات متجانسة من أصل واحد فإنه يصبح أكثر انفجارا والتهابا في مجتمع متعدد الجنسيات والأنماط واللهجات والألوان والعادات مثل المجتمع الإسرائيلي.
* أيهما أكثر تأييدا للسلام في مصر: الرجل أو المرأة؟
- قضية السلام.. قضية سياسية.. لا أعتقد أنها قضية «جنسية».. وإذا استطعت أن تقول لي: هل السلام رجل أم امرأة؟ لاستطعت أن أرد على سؤالك!
على أن ما أثار انتباهي أكثر.. هو أن ما قلته.. أصبح علی كل لسان إسرائيلي في دقائق.. حتى الذين لم يسمعوا ولم يروا بأنفسهم.. تعاملوا معي كأنهم سمعوا وشاهدوا وحضروا بأنفسهم.. ويكفي أن تطلب طلبا من شخص.. حتى يسألك كل الناس، هل وصل إليك ما طلبت؟!
إنه مجتمع «أمن» مئة في المئة.. ليس بأجهزته ومخابراته وجواسيسه فقط.. إنما بكل فرد من أفراده.. بكل من ينتمي إليه ويحمل جنسيته. وهم يخشون المصريين إلى درجة كبيرة.
في أيام احتلال العريش لم يثقوا في أن يتولى «مصري واحد منصبا قياديا.. حتى لو كان هذا المنصب «كبير» السعاة.. وضعوا في كل المناصب «فلسطينيين» من الشرطة للصحة.. ومن الزراعة لصيد الأسماك.. ومن تدريب الفتيان على صنعة إلى مصنع الملابس الجاهزة. ورغم أن معظم أهالي العريش أصبحوا يجيدون العبرية.. فإنهم يفضلون المترجمين الفلسطينيين.
وعندما فتحت أبواب العريش لدخول المصريين.. قال ضابط إسرائيلي شاب هو أصلا أستاذ مساعد بالجامعة:
- لقد جاء الفراعنة، وإذا جاء الفراعنة فإن الله وحده هو القادر عليهم.
ولم يكذب المصريون خبرا.. فى ساعات قليلة.. كانت عشرات السيارات العملاقة.. ومئات الرجال.. وأطنان المواد.. والمعدات داخل العريش.. وفي اللحظة التي كان الإسرائيليون يتركون مكانا.. كان المصريون يدخلون مكانا آخر.. وفى اللحظة التي قطع فيها الإسرائيليون تيار الكهرباء.. كان المصريون يشغلون محطة للكهرباء.. وعندما أصر الإسرائيليون على دخول القوات المصرية قبل الفجر.. حتى لا يراهم أهالي العريش.. وينقلب استقبالهم إلى مظاهرة لا يعرف مداها إلا الله.. فوجئوا أن أهالي العريش لم يناموا ليلتها أصلا.. ووضعوا آذانهم علی الأبواب والجدران والطريق.. وقفزوا فی جماعات تحوط السيارات المصرية العملاقة بالأحضان والقبلات.. وحدث ما كانوا يخشونه! علق النقيب الإسرائيلي «صموئيل المتان» وشهرته عندنا في أنه يعد رسالة ماجستير في أدب نجيب محفوظ:
- إنني أعرف المصريين جيدا.. ربما كانت أكثر الإسرائيليين معرفة بهم.. أن تمردهم لا نهاية له.. وأحاسيسهم لا حصر لها.. وعواطفهم أكبر من كل حاجز يقف في طريقهم.. وأي قيد يعطلهم.
شاب مصري من العريش قال لى عندما نقلت إليه تعليق النقيب الإسرائيلي:
- أصل اللي ما يعرفش الصقر يشويه!
وهو مثل عريشي قديم.. عمره آلاف السنين.
روزاليوسف العدد 2659



