الفانتوم تحترق فى سماء المنصورة
الناس فى شمال الدلتا، كل الناس، فى كل مكان، فى المصانع، فى البيوت وفى الحقول، يعيشون جو الحرب بكل معانيه.
وقد ذهبت إلى هناك، منجذبًا بفعل مغناطيسية المعركة، وبفعل الأنباء التي كانت ترد إلينا مع بعض البيانات العسكرية عن معارك ساخنة تدور بين الحين والآخر فوق هذه المنطقة الجميلة الخضراء ذات الموقع الاستراتيجى المهم عبر التاريخ القديم والحديث. وقد حضرت من الساعات الأولى لوصولى، معركة من أكبر معارك الطيران فى سماء المنصورة والقرى المجاورة لها.. معركة سيظل كل الناس.. وكل الأجيال الذين شاهدوها.. هى ومثيلاتها.. يذكرون مشاهدها الأسطورية ويدركون من خلالها نوعية الحرب التي أقدمنا عليها، وأدخلتنا فكريا ونفسيا عصر الفضاء.
لقد زال الصدأ من على القلب، وبدأ الشعب يملك حكايات جديدة لبطولة الإنسان المصري، وعلى أحدث مقياس عصرى.
وقد ترسب الإحساس بالنصر فى النفوس، إلى الحد الذي رأيت معه الناس لا يلوذون بالمخابئ أو بالأدوار السفلى، بل يهرعون إلى الشوارع أو النوافذ أو الأسطح يتابعون مقاتلاتهم المصرية وهى تتصدى بجسارة لطائرات العدو وتسقطها.. ويتابعون أيضا، بدقات القلب، حركة الصاروخ وهو يطارد الطائرة مطاردة سحرية غريبة! كان الطيار يحاول بكل حركات الفزع البهلوانية أن يزوغ منه ويتجنبه، لكن الصاروخ - بخفة ويقظة غريبين - كان يحاصرها من جميع الجهات.
ولا يدع الطائرة إلا بعد أن يصيبها، ومع صوت الانفجار، تسمع صرخة الانتصار.
جملة واحدة تجدها هنا على كل لسان.
- الطيارة التي تدخل هنا، لا يمكن أن تخرج سليمة.. محال.
وقد شاهدت بعينى ثلاث طائرات إسرائيلية تحترق فوق الحقول. كان المنظر مثيرا للزهو وللذهول فى الوقت نفسه: هذه الفانتوم «واسمها.. الشبح بالإنجليزية»، كطائر هزيل يترنح فى الفضاء ويهوى متخبطا كالأعمى، يسقط منفجرا فى أحد الحقول، أو مصطدما ببعض بيوت إحدى القرى الآمنة!
وقد كدت، فى لحظة أذهب ضحية لإحدى هذه الطائرات المحترقة.. حدث ذلك فى لمح البصر. كنا منطلقين بإحدى العربات على الزراعية، عائدين من معاينة بعض أجسام غريبة أسقطتها إحدى طائرات العدو فوق أحد الحقول، وفجأة قال أحدنا وهو يمد بصره من خلال الزجاج الأمامى للعربة:
- هناك طائرة مضروبة.. انظروا.
أوقفنا العربة على الفور.. هبطنا.. وقفنا نرقب الفانتوم يخرج منها دخان كثيف أسود.. وفجأة، تحول اتجاهها، ورأيناها مقبلة علينا فى اندفاع جنونى، ارتمينا على الأرض بجوار إحدى الترع.. مرت من فوق الأشجار.. ثوان، ثم إذا بنا نرى كتلة نار حمراء، تصعد لمسافة قصيرة فى الفضاء.. ثم تهوى ف رالحقل، ودوى صوت انفجار رهيب ردد صداه فضاء الحقول!
مع صرخة الانتصار كنت ألهث، من أين وكيف ظهرت فجأة كل هذه الألوف من الفلاحين الذين انطلقوا جريا يغطون الحقول ويحاصرون الطيار الذي كان يهبط بالبراشوت؟!
كانت القضية.. قضية العدوان واضحة تماما.. ومن خلالها كانت فكرة الموت والحياة تأخذ معنى جديدا!
فقد يكون الفلاح منهمكا فى عمله فى الحقل بهدوء شديد، وفجأة تصيبه شظية من قنبلة محترقة.. إن كل إنسان هنا يقول لك، بل إن منطق اللحظة يقول أيضا: لكل أجل كتاب، وحيوية الانتصار دفاعا عن الأرض تعطى للموت معنى الاستشهاد، وتملأ النفس حنينا للاشتراك فى الجهاد.
كل إنسان قابلته هنا، يحيا لحظات الخطر المجيدة، ويواجهها بكل ذرة من نفسه بشجاعة هنا أرض معركة ساخنة، غرف العمليات أقيمت على جميع المستويات، من الأمانة العامة للاتحاد الاشتراكى فى المحافظة، إلى الجمعية التعاونية الزراعية الصغيرة فى كل قرية.
كل قرية تحس أنها قطعة حية ومتلاحمة من كيان مصر. كل فرد يحس أنه الدرع الخلفى لأبطالنا فى سيناء.. الشباب الذي كان يعانى تمزق الضمير ويصرخ طالبا المعركة. . الآن هو فى عز المعمعة.. عضوا فى إحدى لجان الدفاع الشعبى، أو الدفاع المدنى. إن الروح تعود، والتمزق يلتئم.
الكل مجمع على أننا على أعتاب مرحلة جديدة.. فجر جديد لمصر الجديدة.. مصر الماضية أبدا على طريق الثورة.
كم دفعت مصر، ومازالت تدفع، كى تبقى شامخة بدورها الثورى العظيم بين الأمم؟!
هاهى أجزاء الفانتوم وقلبها المحترق، بعضه غائص فى الأرض، وبعضه غائص فى قلب بيوت إحدى قرى الدقهلية.
لا تزيلوا حطام هذه الطائرة.. أبقوها فى مكانها للتاريخ.. أثرا شاهدا على وحشية الفاشيست الجدد؟!
هل أحكى لكم قصة الطفلة «سحر» الوحيدة الباقية من أسرة دهمتها الفانتوم وهم يعيشون معا فى لحظة سلام؟! هل أصف لكم منظرها؟!
لا.. إن قصة «سحر» ليست قصة اليوم.
قصة اليوم، هى قصة القرية نفسها، فى مواجهتها للموقف، قصة الشعب فى مكافحته للحريق، ودفن الموتى فى لحظات، والوقوف صفا واحدا.. متحفزين.. وكأن شيئا لم يكن.
فقط مزيد من الغضب.. ومزيد من الإصرار.
إن فلسفة جديدة تولد منى لمعنى الموت والحياة يموت الفرد هذه الأيام سعيدا.. مبتهجا لأنه سيترك أرضها بعد أن عادت إليها الروح وعم القلب الضياء.
يموت سعيدا، لأنه رآها ولو للحظة واحدة وقد نهضت من كبوتها، ووقفت تواجه التحدى الرهيب وتنتصر فيه.
قلت لرفاق جولتى وأنا أنظر عبر الحقول:
- هل تلاحظون أن معركة البعث بدأت فى شهر أكتوبر؟!
انظروا فى كل الحقول.. إنه شهر الحصاد والبذار.. شهر الخير العميم.
كانت صفوفا صفوفا تجمع القطن أو الأرز، وصفوفا صفوفا تبذر القمح أو البرسيم، نعمل.. ولا تعبأ بالموت.. إنها معركة أخرى، معركة العمل والإنتاج.
فى هذه الأيام، يحب الناس أرضهم كما لم يحبوها فى أى وقت آخر.
ولقد بذرنا.. وسنظل نبذر.. وحصدنا، ومازلنا نحصد وعلى الطريق التاريخى العظيم نمضى.. رغم كل شىء.
عدد صباح الخير 929 أكتوبر 1973



