الإثنين 22 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

فلاح مصر الذكي

بوابة روز اليوسف

عندما استقبله الرئيس السادات لأول مرة، كان ذلك بمناسبة كتابه عن حرب أكتوبر.. فقد تابع عبد الستار الطويلة أحداث الحرب في ساحة القتال كمراسل حربي بمؤسسة روزاليوسف وسجل رؤيته للحدث التاريخي، في كتاب بعنوان «حرب الساعات الست في يوميات مراسل حربي» نشرته الهيئة العامة للكتاب في القاهرة وبيروت، وقد أثار الكتاب اهتمام الرئيس، فاستدعي الكاتب وشجعه، وطلب منه أن يعيد كتابته بعد أن أصدر توجيهاته، بأن يطلع عبد الستار الطويلة على أسرار الحرب ووقائعها من القادة العسكريين. وسوف يصدر الكتاب الجديد خلال أيام، وقد أذن الكاتب لمجلة روزاليوسف، أن تنشر - مقدما - بعض فصول الكتاب، واخترنا من بينها، هذا الفصل المثير عن عمليات الخداع والتمويه، التي ضللت العدو تماما، وجعلت هنري كيسنجر يتساءل في عجب.. لماذا أخفقوا «إسرائيل» في تفسير الحقائق التي كانت تحملق في وجوههم! لقد اختار عبد الستار الطويلة «ساعة الصفر السياسية» عنوانا لهذا الفصل، ونحن نقدمه بعنوان آخر. ضحك الكثيرون في أكمامهم.. وقالوا هذا تسويف جديد > رصيد الهزيمة - إن كل باب طرقته قد أوصد في وجهي بمباركة أمريكية، لقد نام كل إنسان ولكنهم سرعان ما سيفيقون! واستطرد الرئيس أنور السادات يقول: - لهذا إذا لم نأخذ قضيتنا بأيدينا.. فلن يتحرك أحد. وعاد ارتودي بورجريت كبير مراسلي النيوزويك يسأل وقد «راعته» كلمات الرئيس الحازمة. > هل لي أن أستنتج يا سيادة الرئيس من حديثكم أنكم ترون أن الحرب هي الطريق الوحيد؟ أجاب الظسادات: - نعم.. أنت مصيب تماما.. وكل شيء في هذا البلد يعد الآن من أجل تلك الحرب التي لم يعد هناك مفر منها! جري ذلك الحديث في آخر مارس 1973. وكنت أقوم بجولة للمرة الثانية في أووبا الغربية في ذلك العام.. ولم تخرج تعليقات الصحف الأوروبية في معظمها والتي تناولت تلك التصريحات عن عبارة مألوفة في تلك الأيام. وعاد الرئيس المصري مرة أخري يردد أحاديثه المعتادة من شن حرب ضد إسرائيل»! وطبيعي أننا نحن المصريين الزائرين أو العاملين في أوروبا عندما كنا نقرأ مثل تلك التعليقات كنا نصاب بالغم والنكد. فقد انحدرت مكانة العرب بعد هزيمة 1967 إلى المستوى الذي أصبح العالم يقابل فيه كل حديث عربي عن العزم العربي للتحرير، مجرد أوهام.. أو دخان في الهواء لا يعنى أحد بالالتفات إليه أو أخذه على مجمل الجد. ولم نكن ندري أن هذا هو عين ما قصد، وخطط له قائد المعركة في القاهرة! كنت أتحدث مرة مع وزير خارجية سويسرا في برن في يوم من أيام شهر مارس 1973 عن النزاع العربي الإسرائيلي ورددت أمامه الكلام المعروف عن اعتداء إسرائيل واحتلالها للأرض العربية.. واغتصابها لحقوق شعب فلسطين وتشريدها لذلك الشعب و.. و.. واستمع لي الوزير السويسري الاشتراكي الديمقراطي طويلا.. ثم ابتسم في النهاية وقال: - نحن في سويسرا وافقنا على قرار مجلس الأمن. ولما سألته عما إذا كان ممكنا أن تفعل سويسرا شيئا مع المجتمع الدولي لإجبار إسرائيل على تنفيذ ذلك القرار.. صاح قائلا: - بحق السماء.. افعلوا شيئا: فاوضوا أو قاتلوا.. وما قاله الوزير السويسري لا يختلف عما كنت أسمعه من كل الأصدقاء أو حتى المحايدين.. في إنجلترا.. في فرنسا.. ألمانيا الغربية.. هولندا.. إيطاليا.. في كل مكان كان الجميع يردد كلاما لا يخرج في معناه عن تلك العبارة المكثفة التي كان يرددها الزعيم الوفدي مكرم عبيد قبل الثورة: اتفضلوا أو انتفضوا. أما أصدقاؤنا من اليسار الأوروبي فكانوا يقولون: ماذا تريدون منا؟ تريدون تأييدنا لكم؟.. نحن نؤيدكم منذ عام 1967 بل منذ فجر الحركة الوطنية عندكم. فأقول: ولكننا نريدكم أن تتحركوا عمليا لتأييدنا. فيردون في دهشة: - تحركوا أنتم أولا.. أنتم أصحاب القضية ونحن نتحرك معكم. وربما أضافوا: - هل نتظاهر من أجل قضية ميتة مثلا؟ ألا ترون كيف تتحرك أوروبا وأمريكا بل العالم كله من أجل فيتنام.. ولم يمل العالم من التحرك. لماذا..؟ لأن الشعب في فيتنام عامل النضال.. ولا تراجع أمام فداحة التضحيات. فإذا ما تطرق الحديث بيننا عن احتمال شن العرب لحرب تحريرية كوسيلة الحرية إذا ما فشلت كل الجهود السليمة.. كان المرء يصدم عندنا يرى هؤلاء الأصدقاء الذين يكتسبون عن قضايا الكفاح المسلح لكل الشعوب التي حملت السلاح من أجل التحرر.. يمصمصون بشفاههم في شك وإشفاق ويقولون: هل تريدون الحرب فعلا؟.. لا تكاد تصدق.. وإذا ما حاربتم ألا تخشون الهزيمة الساحقة من جانب الإسرائيليين؟ إن رصيد الهزائم العربية السابقة.. وحالة الركود التي سميت باللاسلم واللاحرب كانت المنبع لكل هذه التشككات في القدرة العربية أو بالأحرى الجدية الغربية.. فقدراتكم لا تقل عن قدرات الشعوب الأخرى.. أنتم لستم أقل عن شعب فيتنام ولكن المشكلة هي حشد تلك القدرة وتنظيمها.. كما كان يقول لي بثقة كاملة كارلوا بابيتا عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي الإيطالي ومتزعم كل التنظيمات الصديقة والمؤيدة للحق العربي في إيطاليا، جامعة لكل الاتجاهات السياسية من اليمين إلى اليسار. لم يكن هناك أحد يصدق أننا سنقاتل.. وإذا ما صدقنا البعض فإنهم كانوا مقتنعين مسبقا بهزيمة العرب! وقد حدث في زيارتين لي لموسكو عام 1972 في الوفد الصحفي الذي رافق الدكتور عزيز صدقي رئيس الوزراء حينذاك أن جرت مناقشات مستفيضة حول هذا الموضوع مع الأصدقاء السوفييت. لقد كانوا يؤكدون أن قرار المعركة هو قرار مصري بحت.. تتخذه مصر وقتما تشاء وفي أي ظروف تشاء. ولكنهم ما كانوا يصدقون أي حديث عن نية اتخاذ مثل ذلك القرار فعلا.. وكانوا لا يخفون شكوكهم في احتمال هزيمتنا إذا ما فرض واتخذنا مثل ذلك القرار ومن هنا كان تحييدهم للحل السلمي وإن طال الأجل. لماذا أيها الأصدقاء؟ وكانت الإجابة عجيبة حقا من بلد تبنى قضايا القتال المسلح لشعوب العالم ضد القهر والاستعمار منذ ظهرت الدولة السوفيتية الاشتراكية في العالم عام 1917. كانت الإجابة التي نتلقاها: - إننا نشفق من تجارب الماضي أن تهزموا. > ولكن هذا تثبيط للهمم؟ يبتسمون في أدب ويقولون: - لكن الحقائق المادية الصلبة هي التي نعتمد عليها.. ما جرى عام 1956 و1967.. والسلاح السوفيتي الذي لم يستعمل في سيناء.. وبيع لنا مرة أخرى من خلال دول محايدة وصديقة، إذ ليس لإسرائيل فائدة منه. وتجر المناقشة الأصدقاء السوفييت إلى حد التشاؤم من أن الهزيمة العربية المتوقعة ستضع الاتحاد السوفيتي في مواجهة ذرية مع الولايات المتحدة لأن من الأسس الثابتة للسياسة السوفيتية عدم السماح للاستعمار والصهيونية بأن يسيطر على المنطقة العربية ويسقطا النظم العربية المتقدمة. > انتظار «جودو»: هكذا كانت نظرة أكثر أصدقائنا في العالم فعالية.. فالاتحاد السوفيتي إحدى الدولتين الكبيرتين في العالم.. وهو الوحيد الذي يمدنا بالسلاح.. ويساعدنا في التنمية الاقتصادية التي هي الخلفية الأساسية للحرب المسلحة. أما العرب والمصريون منهم بالذات، العاملون والدارسون في الخارج؛ فقد عانوا من الشك والتمزق طويلا.. حتى إن الكثيرين منهم قد فقدوا الثقة في كل شيء.. وسقط بعضهم طواعية واختيارا في أنشوطة ابتذال العقول الذي تنفذه الولايات المتحدة والدول المتقدمة بشكل عام بهمة ونشاط. ولقد كان شيئا مزعجا حقا.. أن تتفشى الأفكار الغاشمة، والأوهام القدرية بين هؤلاء.. وأولئك. ولربما وجدت الكثيرين في انتظار جودو. أو معجزة من السماء! وكانوا يصمون الآذان في أي حديث عن نية وجدية النظام المصري في استعداده للمعركة ضد العدو.. بل ربما تاروا وتهجموا على من يردد مثل ذلك القول ويتهموه بالعمالة والعيش على فئات أجهزة السلطة والنظام. كان التمزق المصري في الخارج.. صورة مضاعفة للتمزق في داخل المجتمع نفسه والذي انعكس في تحركات الشباب والطلبة في الجامعات. وفي جو كهذا مفعم باليأس.. انفسح المجال للشائعات.. وتضخمت الأخطاء والهتافات.. وأصبح نشر صورة مرفهة تشير تعليقات ساخرة وقائظة. وانتشرت النكت وتنوعت.. وذاع الهجو واللغو. وقد رأيت في العواصم الأوروبية الغربية والشرقية أيضا الكثيرين من العرب يتداولون متطوعين مقالات كأنها منشورات سرية لصحفي بريطاني اسمه دافيد فيرست يحرر في الجارديان. وهي مقالات سوداء مليئة بكل ما يشير اليأس والقنوط.. وكان مصر على حافة الهاوية إن لم تكن قد تردت فيها أصلا. ومحور مقالات ذلك الكاتب وأشباهه: أن مصر لن تدخل حربًا ضد العدو لأن النظام لا يقدر على مواجهة قوة إسرائيل الهائلة. وربما كانت أقسى تجربة مر بها قائد معركة العبور.. هي تجربة تحرك الطلبة في الجامعات المصرية وقد مزقتهم الغيرة الوطنية فتظاهروا مطالبين بيده معركة التحرير. وتطرف البعض منهم وخرج عن التقاليد النمطية للوحدة الوطنية فأذاع الترهات والشائعات ونشر مقالات صبيانية غير مسؤولة في بعض جرائد الحائط.. ومع ذلك لم يستفز أنور السادات وتقبل ذلك التحرك بتفهم عميق فنحن في سنهم كنا وطنيين ومتحركين مثلهم.. وفي مرتين في عامين متتاليين تجاوز بصفته رئيس السلطة التنفيذية عن ذلك الخروج والانتهاكات للتقاليد الفضائية، متأكدا من وطنية الحركة الطلابية، لاعبا بذلك دور راتب الصدع الوطني وروسيا تقاليد المحافظة على الوحدة الوطنية حتى لو خرج بعض الشباب الوطني المتحمس المحدود الخبرة عن تلك التقاليد. والحقيقة أن من يستقرئ التاريخ السياسي - الحديث على الأقل - لمصر لن يجد حاكما صمد لضغوط واستفزازات وتحمل تهجمات وتخرصات مثل تلك التي تحملها أنور السادات. كان قد اتخذ قراره فعلا.. وقال في اجتماعه بالطلبة في 25 يناير 1973 إن قرار الحرب قد اتخذ.. وليست هذه مجرد كلمات تقال. ولكن أحدا لم يستطع استفزازه لإطلاق الرصاصة الأولى قبل موعدها المحدد المناسب. واعتصم بالحكمة والصبر.. والصمت أيضًا.. وأطلق هذه الكلمات كشعارات.. لكن فات الكثيرون في حمى القلق إدراك مغزاها الحقيقي. في مارس 1973 عندما أعلن السادات في خطاب استمر ثلاث ساعات تقريبا أنه يعد الأمة كلها للمعركة من أجل ذلك فإنه يعلن تركيز السلطات كلها في يده بموجب التفويض الذي منحه له مجلس الشعب، فيتحمل عبء رئاسة الوزارة بجانب رئاسة الجمهورية قائلا إن هذا قدري! ضحك الكثيرون في أكمامهم.. وقالوا تسويف جديد! وعندما أعلن تحمله لمسؤولية الحاكم العسكري قال كثيرون أيضا: «ها قد ظهر المستور.. ألم تقل لكم أن الهدف من التغيير الوزاري هو إقامة الديكتاتورية»!! وعندما كان الرئيس السادات يزور المواقع العسكرية ويحضر مناورات القوات المسلحة مرتديا البدلة العسكرية، ويتحدث إلى الضباط والجنود قائلا إننا سندخل المعركة ولن نتوانى عن بذل أي تضحية. لم يكن أحدا يصدق أن ثمة تضحية من أي نوع قادمة في الطريق! لأنه لسنوات ثلاث كان الرئيس يتحدث عن الحرب ولا حرب.. عن الحسم ولا حسم! كان ثمة غياب كثيف حول الحقيقة. لم يستطع أحد أن يشق أستاره وتلك كانت قمة البراعة والعبقرية للقيادة السياسية. حرب.. ولا حرب.. حسم ولا حسم.. حرب.. ولا حرب!!.. ولكن.. فجأة.. حرب.. وهي حرب فعلا. > تل أبيب في 6 أكتوبر: بعد ظهر ذلك اليوم السادس من أكتوبر.. والعاشر من رمضان.. كان الناس يتجمعون أمام الجمعيات التعاونية في طوابير غير منتظمة.. ويتزاحمون من أجل مواد التموين اللازمة لرمضان. وفي البيوت جلست ربات البيوت وربما الأزواج أيضا يعدون السلطات اللازمة للإفطار بعد ساعتين أو ثلاث. وعلى المقاعد في كافيه ريش.. فقد بدا بعض المثقفين يخرجون من أعمالهم ويجلسون على الموائد في المقهى يستأنفون ثرثرات الأمس واليوم وكلها تدور حول موضوع واحد هو المعركة. وكان خطاب الرئيس في 28 سبتمبر زادا جديدا للحديث حول الموضوع. كانت الكلمات القليلة التي تناول بها المعركة دليلا جادا لأنصار التشاؤم - وهم الأغلبية في ذلك الوقت - على أن ثمة تراجعا جديدا عن الوعود السابقة بخوض المعركة! وفجأة بعد الثانية بقليل.. تسمرنا جميعا في مقاعدنا.. وقد أرهفنا السمع والقلوب تدق بعنف.. فقد كان صوت المذيع يملأ لا الغرفة.. بل البيت.. بل كل بيت.. بل كل شارع في مصر.. وفي العالم العربي كله. بيان رقم واحد صادر عن القيادة العامة للقوات المسلحة: بيان رقم واحد - هذه هي الحرب إذن - إن المسألة ليست مسألة اشتباكات أو انتهاكات متبادلة لوقف إطلاق النار.. ولا هي بداية حرب استنزاف.. فالشعب لا يريد أقل من حرب تحرير.. وقد وعد القائد الشعب بحرب تحرير. وها هو القائد قد صدق وعده.. وصنع السادات المعجزة!.. وحدث ما طال انتظاره.. علي طول العالم العربي كله بل ففي تلك الأيام كان الإسرائيليون مشغولين بالانتخابات.. وحوائط الشوارع في المدن الإسرائيلية قد غطيت بالملصقات عن حزب كذا وحزب كذا.. وكلها أحزاب صهيونية ما عدا حزب «راكاح» العنيد الصغير. وكانت الصحف تتحدث عن مائة مليون دولار هي جملة نفقات الحملة الانتخابية. وفي عيد الغفران.. يوم 6 أكتوبر كان الناس يتزاحمون أمام أهم الأفلام والمسرحيات في شوارع تل أبيب.. «عين ابن أوي» و«قطة على سطح صفيح ساخن» والنساء مرحات في وندسور.. ولجنة الإسكان في الكنيست الإسرائيلي غارقة في حوار ساخن مع ممثلي عمال الفنادق حول بناء فندق كبير جديد باسم «العمال» وكان الخلاف الذي شغل الرأي العام هو هل يبني الفندق على جبل صهيون أو في مزارع الزيتون بالكرمل؟ ولكن عند حائط المبكي بالقدس.. كان بعض المتعيدين يبكون في هستيريا وهم مستندون إلى الحائط. ولكن رغم أن بعض طائرات الفانتوم مرقت كالسهام فوق رؤوسهم في اتجاه الحدود السورية الإسرائيلية. ولم يكن مألوفا أن تزمجر الطائرات في السماء في عيد الغفران.. هكذا.. اللهم إلا إذا كان قد وقع شيء غير عادي. إنها الحرب.. > احتمالان لا ثالث لهما: ولكن إذا كان الإسرائيليون العاديون قد فوجئوا تماما بالحرب.. فإن المؤسسة العسكرية الإسرائيلية فوجئت.. ولم تفاجأ في نفس الوقت. فمنذ يوم 3 أكتوبر وعندما انعقد مجلس الوزراء الإسرائيلي في جلسته المعتادة كل يوم أربعاء كان لدى رئيسية الوزراء عدة تقارير قادمة إليها من المخابرات الإسرائيلية تتحدث عن حشود مصرية وسورية كبيرة على الحدود. ولكن هيئة المستشارين التابعة لجولدا مائير والذين يشكلون ما يسمى بـ«مطبخ الرئاسة» عللت تلك الحشود بأنها مناورات الحريات التقليدية. ولهذا فإن مجلس الوزراء الإسرائيلي لم يدرس في اجتماعه يوم 3 أكتوبر سوي تقرير جولدا مائير عن مقابلتها مع كيرسكي المستشار النمساوي حول حادث إغلاق معسكر شناو. ولكن تقارير المخابرات توالت بعد ذلك يومي 4 و5 أكتوبر عن ازدياد كثافة الحشود العربية مما اضطر جولدا مائير إلى جمع نصف أعضاء مجلس الوزراء صباح يوم 5 أكتوبر بشكل غير رسمي. وطلبت من الوزراء يومها أن يتركوا عناوينهم احتياطيا في حالة الحاجة إلى استدعائهم فورا. وكإجراء احتياطي تقرر استدعاء بعض وحدات الاحتياطي، ووضع سلاح الطيران الإسرائيلي كله في حالة تأهب. صباح يوم السبت 6 أكتوبر التقت جولدا مائير بالجنرال موشي ديان وزير الدفاع والجنرال دافيد إليعازر رئيس الأركان. وكان الأخير قد اقترح دعوة الاحتياطي العام كله ولكن ديان استمهله وفي ذلك اللقاء.. كان واضحا تماما أن هجوما مصريا على وشك الحدوث. ووضع الثلاثة احتمالين لا ثالث لهما لتوقيت الهجوم: > إما عند الغسق للاحتماء بالظلام بعد ذلك من ضربات سلاح الطيران الإسرائيلي المتوقعة للطوابير المصرية السورية الزاحفة. > وإما فجر اليوم التالي السابع من أكتوبر. لم يدر في خلد أحد قط أن يبدأ الهجوم في الثانية في عز الظهر. وأخطرت الحكومة الإسرائيلية السفير الأمريكي بتوقعاتها لهجوم مصري سوري.. وعند الظهر انعقد مجلس الوزراء الإسرائيلي لبحث الموقف العسكري.. وبينما كان ديان يعرض الصورة أمام الوزراء.. اقتحم خبر بدء الهجوم المصري عليهم قاعة الاجتماع؟ وكما صرح ضابط إسرائيل كبير لمراسل النيوزويك في تل أبيب، أعتقد أن المخابرات الإسرائيلية قد علمت منذ أسابيع بالاستعدادات المصرية.. ولكنهم هناك لم يستطيعوا استنباط الاستنتاجات الحقيقية.. من قبل كنا يقظين إلى درجة تجاهل صيحة الذئب.. حتى عضنا الذئب هذه المرة! > التحرك السياسي نجحت تكتيكات أنور السادات في خداع العدو إذن. إن الحديث المستمر والوعود المتكررة عن دخول المعركة كان مقصودا بها في الأغلب هذا الأثر الذي حدث فعلا.. أن يقع الإسرائيليون في الشرك أن يبتلعوا الطعم فلا يصدقون أن مصر ستدخل المعركة.. ويستنيمون لهذا. وقد استناموا فعلا.. حتى إن معهد الدراسات الاستراتيجية في لندن ذكر في تقريره عن حرب 6 أكتوبر بالحرف الواحد، لقد كانت المخابرات الأمريكية نفسها في غفلة، ولم يصدق أحد مغزى الاستعدادات العسكرية.. وذلك لاعتقاد رسخ بأن العرب لن يحاربوا لأنهم لن يكسبوا أي حرب. وروى بعض مساعدي الرئيس السابق نيكسون أنه بعد قيام الحرب جلس يدرس ملف الشرق الأوسط في مقره بفلوريدا. وتوقف الرئيس السابق عند مستند يتضمن التطورات بالتفصيل عن الموقف العسكري بعثت به المخابرات الإسرائيلية للمخابرات الأمريكية، وكان تقدير المخابرات الإسرائيلية الذي اختتمت به تقريرها بعد سرد شواهد عديدة أن «الحرب بعيدة الاحتمال»! ويقول مساعدو نيكسون أنه أعاد قراءة الجملة الأخيرة عدة مرات في دهشة والتفت إلى الجنرال الكسندر هيج قائلا الشيء غريب.. أن يصلوا إلى تلك النتيجة بمثل تلك الشواهد والمعلومات. ولقد بلغ من براعة التدبير المصري أن تلك المخابرات الإسرائيلية رفضت المخاوف التي عبرت عنها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية عن احتمال وجود هجوم مصري وشيك في تقرير قدمته تلك الوكالة في 24 سبتمبر 1973، وتحدثت فيه عن أن «مناورات» الجيش المصري في تلك الأيام كانت أوسع من أي مناورات جرت من قبل وإنها شملت مجموعات مسلحة كبيرة. كما لفت التقرير الأمريكي نظر المخابرات الإسرائيلية إلى أن المصريين قد كدسوا ذخائر وأقاموا نظاما للمخابرات والاتصال في جبهة المناورات أكثر ما تحملته مناورات معتادة لأي جيش في حالة سلم ولا يعتزم شن حرب. وربط التقرير بين حالة الاستعداد المصري في القناة وبين الحالة المشابهة للقوات السورية عند الجولان. ولعل هذا ما دفع كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي أن يقول بعد ذلك متعجبا، كيف أن المخابرات الإسرائيلية لم تستطع معرفة موعد الهجوم ورغم أن ذلك الجهاز للمخابرات الإسرائيلية، يعتمد على وسائل استطلاع واستخبار عالية وعلى رد توقعي مضاد. فلماذا اختلفوا في هذه المناسبة في تفسير الحقائق التي كانت تحملق في وجوههم؟ وقد ارتكزت خطة التمويه السياسي البارعة أيضا على التحرك الدبلوماسي الواسع النطاق. من يوم لآخر كان مبعوثون عديدون للرئيس أنور السادات يطيرون إلى كل أركان العالم.. واشنطن. لندن. موسكو. نيودلهي. بكين. إفريقيا. وتخرج الصحف العربية بين حين وآخر وهي تحمل عناوين ضخمة عما كان يسمى خطط التحرك الدبلوماسي أو السياسي. وأخبار من طيران وزراء الخارجية السابقين مثل الدكتور مراد غالب والدكتور محمد حسن الزيات.. ومستشار الأمن القومي السابق حافظ إسماعيل.. وشخصيات سياسية أخرى مثل حسن صبري الحول والدكتور أشرف مروان.. وغيرهم. وكانت القيادة السياسية تضرب عصفورين بحجر واحد بهذا «التحرك السياسي»! > تذكير العالم وقادته بالقضية على المستوى الدبلوماسي. > إيهام العدو أن هذا النوع من خطط الحملات الكلامية هو فقط ما يستطيع النظام المصري القيام به.. وكفى الله المؤمنين شر القتال: وكلما هز الناس أكتافهم استخفافا بهذا اللون من النضال.. شعرت القيادة السياسية أنها حققت هدفها. > السلاح السوفيتي في عملية التمويه: ليس من شك في أن مصر قد واجهت مصاعب عديدة في الحصول على أنواع معينة من الأسلحة من الاتحاد السوفيتي سنوات 71 - 72 وبداية 1973 وسنعرض لهذا في فصل لاحق عن موقف الاتحاد السوفيتي. لكن لا شك أيضا أن خطة التمويه المصري قد استغلت هذه المسألة استغلالا دائما في تضليل العدو. فقد نشرت أجهزة النظام المختلفة شائعات وحكايات مبالغ فيها - على الأقل - عن عدم توافر السلاح اللازم لبدء معركة ضد إسرائيل سواء من ناحية الكم أو الكيف. حتى في الوقت الذي وصل الطرفان المصري والسوفيتي إلى اتفاق بتوريد كميات من السلاح في النصف الثاني من عام 1972 وبدا وصولها فعلا. وجاء وقت كنت ترى فيه المقاهي المصرية والعربية، خصوصا في بيروت، وقد تحول معظم روادها إلى خبراء في السلاح يثرثرون عن النقص في كذا وكذا من الأسلحة. ويقولون بلهجة العالم الخبير أن السوفييت يرفضون تزويد مصر بصواريخ من النوع الفلاني.. بل ويقطعون عنها قطع الغيار بحيث تحولت طائراتنا مثلا إلى جثث هامدة لا تقوى على التحليق فما بالك بقتال الفانتوم والميراج؟! ولاك هؤلاء الخبراء المزعومون في السلاح كلاما كثيرا عن الأسلحة الهجومية والأسلحة الدفاعية واصطنعوا فروقا وهمية بينها كما سنرى في الفصول التالية بالمعركة حيث إن الصاروخ الدفاعي ضد الطائرة لعب دورا هجوميا في نفس الوقت في حرب 6 أكتوبر؟ بل إن الصحف المصرية أبرزت في أحيان كثيرة الاتجاه نحو البحث عن سلاح من الغرب. وصحيح أنه من الممكن شراء بعض أنواع السلاح عن القرب.. ولكن تسليح جيش بأسره بسلاح من الغرب كان يعني ببساطة أنه ما زال الوقت بعيدا على موعد المعركة المنتظرة ريثما يتدرب الجيش المصري على الأسلحة الجديدة. وكان النظام المصري يعرف جيدا ما قاله اليكسي وزير خارجية بريطانيا للصحفيين المصريين الذين رافقوا الدكتور عبد القادر حاتم إلى لندن عام 1971 لتقديم آثار توت عنخ أمون في معرض الحديث عن تزويد الغرب للعرب بأسلحة. - نحن لا نستطيع تسليح جيش كبير كالجيش المصري. إن تلك المهمة دولة كبرى مثل أمريكا أو روسيا. إذن كان ذلك الحديث عن السلاح والنقص فيه من شأنه أن خلق انطباعا لدي العدو إن واحدا من أسباب عجز مصر عن شيء حرب هو عدم توافر السلاح «المتقدم الخرافي» الذي تملكه إسرائيل ويتدفق عليها من ترسانة الأسلحة الأمريكية بغير حساب! وكانت المفاجأة للعالم كله عندما دقت ساعة الصفر. وقد عبر عن تلك المفاجأة متحدث باسم البنتاجون الأمريكي بقوله: إنهم - أي الإسرائيليين - لم يكونوا يتوقعون وجود مثل هذه الكمية وذاك النوع من الأسلحة السوفيتية لدى المصريين والسوريين، نظرا لتواصل الشكوى العربية من أن السوفييت رفضوا أن يزودوا البلدين بأسلحة هجومية متقدمة كافية. > الخبراء السوفييت والمتغيرات الدولية: على أن التمويه المصري لتضليل العدو، امتد ليشمل العلاقات المصرية السوفيتية، حتى إن الكثيرين من العرب أنفسهم تشككوا في الصداقة المصرية السوفيتية وجدواها.. وانتشرت مزاعم عن عدم مائدة السوفييت للعرب في معركتهم. واستغلت عملية الاستغناء عن الخبراء السوفييت في يوليو 1972 وتجاهل الكثيرون عامدين أو غير عامدين آذانهم عن قول الرئيس السادات وتأكيده عدة مرات أن تلك العملية كانت مجرد وقفة مع الصديق كما يحدث بين الأصدقاء دائما. ولقد أصبح معروفا الآن أن واحدا من أسباب الاستغناء عن الخبراء السوفييت هو التمهيد لبدء المعركة بقرار مصري 100٪ وبقوات مصرية مائة في المائة، فقد كان هؤلاء الخبراء يلعبون دورا بارزا في شبكة الصواريخ وغيرها من الأسلحة الحساسة. ومع ذلك فإن حملة التمويه المصرية استفادت كثيرا عن هذه العملية - عملية الاستغناء عن الخبراء السوفييت - إذ أثارت تساؤلات عن جدية النظام في تهديداته بالحرب، إذ كيف يحارب الجيش المصري دون وجود خبراء سوفييت بالآلاف وينتشرون في كل أسلحة الجيش المهمة للتدريب بل وتشغيل بعض الأسلحة ذاته؟ كما أن الحملة قد استفادت أيضا من المزاعم والتشكيكات التي ألقي بها البعض في الساحة العربية عن أن ذلك الاستغناء قد تم بالاتفاق سري مع الولايات المتحدة وأصدقائها في المنطقة تمهيدا لتسوية سليمة مقابل التخلص من الوجود العسكري السوفيتي. إذ كان الأمر كذلك إذن فليس هناك حرب.. ولا شبه حرب.. بينما الاستعدادات كانت تجرى على قدم وساق لدخول المعركة، وعندما حدثت المعركة فعلا كانت هناك المفاجأة أيضا.. المائدة السوفيتية بغير حدود في المجال الدولي ومجال التسليح العسكري.. ولقد عبر نفس المتحدث باسم البنتاجون الأمريكي غداة الحرب عن رأيه في تلك المفاجأة. إننا لم نكن نتصور أن الاتحاد السوفيتي سيقوم بمثل ما قام به بعد الحملات العنيفة ضده في العالم العربي، وبعد أن كانت علاقاته قد فترت مع القاهرة في خروج السوفييت. وعندما ذهبت إلى جبهة القتال يوم 7 أكتوبر عبر لي جندي بسيط عن الصداقة العربية السوفيتية فقال في كلمات بسيطة: - يا أستاذ.. أنتم صدقتم الكلام ده.. الصداقة ما هي عال العال! اتدربت على سلاح الآر ب ج المضاد للدبابات والسوفيتي الصنع! ولربما كانت أكبر حركة تمويه سياسي داخلية لتصوير أهل القاهرة للعدو كأنهم أهل بيزنطة، يتكلمون.. ويتكملون. في لهو عن اللغة الوحيدة التي يجب أن يتكلموها في مثل ظروفهم: وهي لغة السلاح. لقد فتح النظام المصري بواسطة الاتحاد الاشتراكي العربي ومجلس الشعب مناقشة شعبية واسعة ملأت صفحات الصحف حول ما سمي المتغيرات الدولية وتفسير الميثاق وآثار التكنولوجيا.. و.. و.. ومطت الكلمات.. وتقعرت التفسيرات ونشأ ما يشبه «اللك العام» ليقال للعالم أن المثقفين العرب أو بعضهم يرون أن ما يسمى الوفاق الدولي قد يعرقل النضال المسلح لتحرير الأرض العربية.. أو عله يرغم العرب على «إعادة حساباتهم» من جديد. وهذا بالطبع سيستغرق وقتا طويلا لا يعلمه إلا الله. فأبشروا بطول سلامة يا أهل صهيون. ويلاحظ هنا.. أن محمود أبو وافية رئيس لجنة الاقتراحات بمجلس الشعب والوثيق الصلة بالرئيس السادات هو الذي قاد حملة التمويه البيزنطية هذه ببراعة طوال الشهور القليلة التي سبقت ساعة الصفر مباشرة. > مشروع أمريكي، قبل العبور: كان زوار القاهرة من السياسيين يسعون دائما من المسؤولين المصريين عن اكتشاف عصا سحرية جديدة سترغم الأمريكيين على الركوع والتحرك للضغط على إسرائيل. أما هذه العصا السحرية فهي سلاح البترول. وهو سلاح له دوره فعلا كما ظهر فيما بعد.. لكنه ليس السلاح الأساسي. ولكن المسؤولين ووسائل الإعلام أثارت ضجة حول البترول.. وفي أغسطس 1973 كتب الملك فيصل بنفسه إلى نيكسون رئيس الولايات المتحدة حينذاك محذرا إياه أنه إذا لم تغير أمريكا سياستها المماثلة تماما لإسرائيل فإن السعودية ستقلل من صادراتها البترولية لأمريكا. لقد بدأ كما لو أن العرب لا يملكون غير سلاح البتول ويعتبرونه السلاح الوحيد القوي الفعال.. أما الحرب فقد أخفاها دخان البترول وغازاته! ولا نستطيع أن نحصر كل مظاهر حملة التمويه وتضليل العدو.. لكننا تحدثنا عن أبرز ملامحها. ولا تنس ونحن نتأملها.. أن مصر قد وقعت قبل بدء القتال بأيام الاتفاق مع شركة أمريكية لمد خط أنابيب بترول السويس. وهو أكبر مشروع ترك للأمريكيين أن ينفذوه في عصر بعد انسحاب دالاتس المشهور من تنفيذ مشروع السد العالي. وكان معنى ذلك أن الأمور تسير على ما يرام.. فالنظام يفكر في إقامة مشاريع سليمة من بينها خط أنابيب يحاذي القناة فهل من المعقول أنه ينوي اقتحامها وعبورها بعد أيام!! > العالم يسأل ويفسر! «إن الاستراتيجية السياسية للعرب كانت بعيدة النظر.. ومعدة إعدادا كافيا. وأن المفاجأة التي أنجزت في 6 أكتوبر ورد الفعل الذي أحدثته كان واحدا من أكبر الانتصارات السياسية للعرب». في هذه العبارات الموجزة خص معهد الدراسات الاستراتيجية البريطاني تقييمه لحملة التمويه السياسية المصرية ونتائجها. لكن السؤال: لماذا حدث ذلك النجاح؟ ولماذا كانت الخطة بارعة إلى هذا الحد الذي أثار دهشة العالم كله. إن جاك كوبار مؤلف كتاب عن حرب الأيام الستة يحاول الإجابة عن هذا السؤال.. فيقارن بين عام 1967 و1973. في عام 1967 دبرت إسرائيل عدوانها على العرب في صمت.. في حين ملأ العرب الدنيا ضجيجا عن خططهم وأعمالهم. وفي عام 1973 فعل السادات العكس إذ أعد مخططه في سرية تامة ونجح في ذلك إذ لم يتسرب سوى القليل عن تغيير نوعية الضباط الذين خاضت قلة منهم حرب 1967 أو عن تعبئة المصريين المتعلمين، وتجنيد آلاف من خريجي الجامعات في الجيش.. وإقامة جهاز حرب مختلف عن الأجهزة القديمة. ولكن اجتهاد الكاتب الفرنسي لا يفسر كل شيء. إننا يجب إذن نبحث عن الخلفية والحكمة السياسية وراء ذلك الصمود.. أولا للاستفزازات.. ثم وراء خطة التمويه البارعة.. ثم التكتيكات المختلفة التي عكست ندرة بارعة على المناورة والتقدم والتقهقر من أجل التقدم من جديد في حلبة المعركة السياسية لا على النطاق العربي فقط، بل على النطاق العالمي كله. إن الخلفية أبسط مما يتصور الكثيرون، إن طبيعة النظم في ثورات البلاد الوطنية الفتية التي نسميها «العالم الثالث» تصنع للأفراد دورا رئيسيا في صنع القرارات، هذه بديهية سياسية معروفة، وهي بديهية ربما كانت ثورة 23 يوليو هي التجسيد الأمثل لها. لذلك فرغم المصالح الطبقية وتعقد تلك المصالح وتشابكها، فإن دور الفرد الحاكم في تلك البلاد النامية في التاريخ أكثر بروزا حتى من دور المؤسسات المختلفة. ولا بد عند مناقشة أخطر قرار كفرار الحرب.. أن نضع في الاعتبار المدرسة السياسية للفرد الواقف على قمة السلطة السياسية التي تصنع القرار. وليس ثمة عناء في فهم معالم المدرسة السياسية التي ينتمي إليها أنور السادات أو بالأحرى التي صنعها في السياسة المصرية. وهو نفسه قد تحدث عنها ببساطته وصراحته المعروفة. ولو أن الذين يجهدون أنفسهم في محاولة فهم أسلوب السادات في القيادة عنوا بقراءة كتاب صغير - وليس مجلدا - كتبه الرئيس بنفسه منذ أكثر من خمسة عشر عاما.. بعنوان: «يا ولدي هذا عمك جمال»! في هذا الكتاب عبارة قصيرة هي مفتاح المدرسة السياسية للقائد المصري الذي ورث تركة مثقلة من عهد الزعيم الخالد جمال عبد الناصر.. وأهمها وأكثرها ثقلا هي القضية الوطنية. يقول أنور السادات في كتابه ذلك أن قادة ثورة 23 يوليو (وأنور السادات منهم) بحثوا كيف يحلون مشكلة المشاكل حينذاك وهي مشكلة الاحتلال البريطاني لمصر. كان أمامهم الأسلوب الفيتنامي، حيث كان الفيتناميون يحاربون الفرنسيين حربا شعبية شاملة. ولكن قادة الثورة لم يشاءوا سلوك ذلك السبيل لأنه سيتسبب في إراقة الكثير من الدماء علاوة على الدمار الشامل للمنشآت. فإذا وجدت وسيلة أخرى تتفادى هذا كله فإن ذلك يكون أفضل طبعا. ويمضي أنور السادات في كتابه يقول إن قادة الثورة اهتدوا إلى وسيلة بسيطة جدا (وربما كان هو الذي هداهم إليها): إذ يقول في عبارة مكثفة: «فعمدنا إلى مكر الفلاح المصري، وطبقت الثورة هذا الأسلوب.. وكانت النتيجة أنها حققت جلاء القوات البريطانية فعلا.. وحصلت مصر على استقلالها السياسي فالاقتصادي. بل أصبحت قاعدة لحركة التحرير العربية كلها: وقد تمثل «مكر الفلاح المصري» هذا في مواجهة الإنجليز باتباع خطة عملية ذات أربع شعب متوازية. > المفاوضة مع الإنجليز > الضغط عليهم بكفاح مسلح محدود كنوع من التهديد بإثارة حرب شعبية مسلحة واسعة إذا دعا الأمر. > استغلال التناقض بين الاستعمارين الإنجليزي والأمريكي. > تقديم تنازل بالموافقة على مبدأ عودة القوات البريطانية في حالة قيام حرب عالمية ثالثة تتمثل في الاعتداء على تركيا وذلك لمدة سبع سنوات فقط. ويذكر يومها أن جمال عبد الناصر قال في خطاب له مدافعًا عن هذا التنازل: أن العالم يتجه نحو السلام ولن تقوم حرب في السنوات السبع القادمة إن شاء الله. واستطاعت ثورة 23 يوليو بتلك الخطة أن تنتزع من الإنجليز الجلاء في معاهدة 8 أكتوبر 1954. ولكن ماذا حدث بعد توقيع المعاهدة؟ لم يكد يجف مدادها حتى تصدت مصر لمحاولة الاستعمار فرض حلف بغداد، بل شنت حربا ضد التحالف مع الغرب أصلا! ويذكر يومها أيضا أن المراهقين السياسيين عللوا ذلك الموقف الوطني الأصيل بأنه نوع من الصراع بين العملاء في الشرق الأوسط حول مركز الأولوية في العمالة للاستعمار العالمي بالمنطقة!! ولم يكد يحل عام 1955 حتى وقع قادة الثورة مع جواهر لآل نهرو مبادئ البانتانيلا المشهورة عن الحياد والتعايش السلمي. معنى ذلك ببساطة أن مصر قد مزقت التحالف مع الغرب إلى الأبد بعد توقيع معاهدة 1954 بثلاثة شهور فقط. وتلا ذلك سلسلة من المواقف الوطنية المستقلة والسلامية الحاسمة من باندونج إلى صفقة الأسلحة السوفيتية إلى الاعتراف بالصين الشعبية.. ثم الصدام المسلح مع الصهيونية والاستعمار.. ومعارك الاستقلال الاقتصادي. و..و..و... نحن مضطرون إلى العودة إلى بعض صفحات التاريخ الحديث.. وتقليبها لنذكر من لا يريد أن يتذكر التاريخ العريق لقادة ثورة 23 يوليو في مواجهة الاستعمار. وأنور السادات هو واحد من أولئك القادة الذين استمروا مزاملين للزعيم عبد الناصر حتى وفاته، بل هو من اختاره نائبا له قبل ذلك. إن «مكر الفلاح المصري» يعني الدهاء والذكاء الفطري.. والصبر جنبا إلى جنب البساطة والعراقة.. وهو ليس تفسيرا ذاتيا يتناقض مع العلمية. إن أنور السادات عهد ببساطة إلى الفكر الفلاح المصري، في مواجهة مشكلة الاحتلال الإسرائيلي. ولقد ساعدته الخبرة السياسية العريقة التي اكتسبها في نضاله الطويل. إن بعض قادة ثورة يوليو مارسوا العمل السياسي في تنظيم الضباط الأحرار فقط.. ولم يحتكوا كثيرا بالأحزاب والجماعات السياسية.. بل ولم يعانوا من اضطهاد السلطة، بل ربما لم يروا سجنا إلا من الخارج. ولكن أنور السادات هو الوحيد الذي عانى وعانى كل اضطهاد السلطة الرجعية الاستعمارية لمناضلي جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية.. لقد احتك وخالط الجماعات السياسية جميعا.. علنية أو سرية.. من وفديين وإخوان وشيوعيين ووطنيين مستقلين ووطنين فدائيين واشتراكيين.. و. ثم هو قد وقف في قفص الاتهام عدة مرات.. وذاق مرارة الحبس في زنزانة انفرادية.. وغير انفرادية في سجون مصر سنوات طويلة. هو مناضل عملي.. واقعي.. قدم تضحيات.. حريته.. بل وخاطر بحياته فقد كانت رأسه محمولة دائما على كفه، إذ كان يناضل في جماعات سرية ضد الإنجليز وعملائهم وهو ضابط مما يعرضه لمسؤولية أكبر مما يتعرض لها المدنيون. ثم هو شرد من وظيفته وعالج أعمالا متنوعة.. يتحدث عنها في إعزاز وفخر. لقد اكتسب إذن في ماضيه تجربة سياسية واسعة.. جعلته قادرا علي الصبر والمصابرة.. وهو قد تحدث مرة إلى صديق بريطاني فقال: كان قدري أن نحارب ولكن الاعتقال بواسطة الإنجليز يعلم المرء الصبر!

عدد مجلة روزاليوسف 2417 أكتوبر 1974

تم نسخ الرابط