عندما نذكر اسم مصر فالكل يقف صحرا ومتأدبا، لماذا، لأننا عندما نذكر هذا الاسم فإننا لا نذكر اسمًا أو لقبًا كالأسماء أو كالألقاب، وإنما نذكر القيم السامية والتاريخ والحضارة والأخلاق، نذكر شعبًا علّم الدنيا بأسرها النبل والطهر والصفاء، حينما نذكر مصر، نذكر الإخاء والوداد والمواطنة، والوحدة الوطنية والرباط إلى يوم الدين، نذكر وصايا النبي استوصوا بأهل مصر خيرًا فهم في رباط ووحدة واتحاد، عندما نذكر مصر نذكر قول الله تعالى (ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين)، نذكر خزائن الأرض (اجعلني على خزائن الأرض)، نذكر الطور، طور سينين، سيناء الحبيبة، نذكر هاجر المصرية، وآسيا زوجة فرعون، نذكر ماريا القبطية زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أم إبراهيم ابن النبي.
نذكر القادة الفاتحين، القادة الذين جعلوا من أرضها مقبرة للغزاة، نذكر حطين وعين جالوت، نذكر سيف الدين قطز والظاهر بيبرس والملك الصالح، نذكر العز بن عبد السلام، نذكر مقامات أولياء الله الصالحين، نذكر الحسن والحسين، وستنا السيدة زينب، ونفيسة العلوم، والمرسي أبو العباس، وسيدي أحمد البدوي، نذكر القادة الذين حموا حماها ضد كيد الكائدين وطمع الطامعين وغزاة الغازين، نذكر شبابها الأطهار الذين روت دماؤهم الزكية أرض سيناء الحبيبة، نذكر خير أجناد الأرض، الذين باعوا أنفسهم حسبة لله تعالى ودفاعا عن مقدراتها ومقدساتها، نذكر الآباء والأمهات والأزواج الذين أرسلوا ذويهم وهم يعلمون أنهم قد لا يعودون واحتسبوهم لله تعالى، الذين أعلوا قيمة حب الوطن فرض عين من الأعيان لا من فروض الكفايات.
حين نذكر مصر نذكر مدنها وقراها، نذكر صعيدها وأهله الطيبين، نذكر وجهها البحري الجميل، نذكر فلاحيها وبشرتهم السمراء التي اشرأبت سمارًا من سمرة أرضها الطيبة، نذكر الإسكندرية المارية وجوها الخلاب وبحرها الجذاب، ورمالها الفيروزية المحناة بالزعفران.
حينما نذكر مصر فإننا نذكر فجر الضمير ونذكر المستشرق بريستد وكتابه فجر الضمير ومكوثه بمصر أعوامًا طويلة وإنفاقه آلاف الدولارات تارة على نفقته الخاصة وتارة أخرى عن طريق دولته من أجل ماذا كل هذا، من أجل الوقوف على التراث المصري الكبير وما قدمته الحضارة المصرية للدنيا بأسرها في العلوم النظرية وكذلك في العلوم العملية.
فالفجر بزوغ أول ضوء للشمس، وإشراق النور، ومصر فجر للحياة ومطلعها وبدايتها، نعم ولم لا، وقد شهد لها القاصي والداني بذلك، بل وشهد لها المنصفون من المستشرقين، فشهدت لها زيغريد هونكه وبحضارتها وبأهرامها بآثارها العريقة وبمعابدها ومتاحفها، شهد لها روجيه جارودي في كتاباته عنها وزياراته المتكررة لها، شهد لها هيرودت، شهد لها وول ديورنت في قصة الحضارة، شهد لها ولعلومها النظرية والعملية، العملية كعلم الكيمياء وفن الأصباغ التي تستخدم في الزخارف وأن كلمة كيمي هي الأرض السمراء الخصبة ومن من الأراضي أخصب من أرضها، في مواسم الحصاد ومعرفة مقاييس ارتفاع النيل وانخفاض منسوبه.
كذلك في النواحي النظرية والعلوم الحكمية والحديث عن العدالة والإله ماعت إله العدل، والاهتمام بمسألة التوحيد والإله حتب وأخناتون، وكذلك الحديث عن البعث والخلود ودفن أغراض الميت معه أملًا في حياة أخرى، ليس هذا وحسب بل والاهتمام بالأخلاق والقيم الخلقية المطلقة والعواطف والمشاعر والوجدان.
انظروا معي إلى كتاب الموتى، إنه لا يصرح للمتوفى بالدفن إلا إذا كتب ذووه أنه كان على قدر كبير من احترام النيل وعدم العبث به، لأنهم كانوا يعلمون علم اليقين أن في مياه النيل حياتهم ونماءهم ورواءهم ومأكلهم ومشربهم.
انظروا يا من تعبثون بالنيل وماء النيل، وتلوثونه، هؤلاء أجدادكم قالوها منذ آلاف السنين اهتموا بالنيل، يا من تلقون مخلفاتكم ومخلفات مصانعكم، يا من تلقون بحيواناتكم النافقة، ها هم الأجداد قالوها لكم مدوية نيلكم حياتكم، نيلنا خط أحمر لماذا لأنه الحياة لنا، نيلنا دماءنا التي تجري في عروقنا، مياهنا أمننا القومي يا بني حبيش.
أجدادنا كتبوا تاريخنا القديم بمداد من ذهب مصفي.
وفي عصرنا الحديث كتب علماؤنا تاريخنا الحديث بمحابر مدادها من ماء العيون، وماء العيون غالي، سطره محمد علي باشا رائد نهضة مصر الحديثة، سطره أحمد عرابي باشا، كتبه وأنشده أحمد شوقي باشا، وحافظ إبراهيم الذي كتب للنيل قائلا سمعت في صوتك الجميل، ما قالت الريح للنخيل.
سطره المناضلون البارودي باشا وسعد زغلول ومصطفى كامل باشا المحامي الخطيب المفوه.
غرد به أحمد لطفي السيد ومصطفى باشا عبد الرازق والسنهوري باشا، وطه حسين، وهدى شعراوي وقاسم أمين وعبد الله النديم.
سطرته منيرة المهدية، وست الستات قيثارة الشرق أم كلثوم وعبد الوهاب، وحليم، والسنباطي وبكر والموجي، ورامي الأصيل وشمس الأصيل.
ليس هذا وحسب، بل وفي عصرنا الحالي الكل يتسابق للنهوض ببلده الحبيب، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وعلميًا وعسكريًا، الكل يسعى بجهود مباركة وبخطى حثيثة نحو رفعة هذا البلد الطيب أهله الذي يستحق منا كل التضحيات كل في مكانه الطبيب، المهندس، الضابط، المعلم، أستاذ الجامعة، الصانع في مصنعه، بلدنا أمانة في أعناقنا وسنسأل عنها أمام الله تعالى، فلا تقاعس ولا تثبيط للهمم ولا تكاسل ولا تواكل، واعلموا علم اليقين أن آباءكم وأجدادكم حملوا مشاعل الجد والكفاح والتنوير واقتطعوا من أقواتهم حتى يتقوت البلد ويعلو شأنه وترتفع راياته بين الأمم.
يا سيداتي وسادتي بلدنا يستحق منا أكثر من ذلك، يستحق منا كل الجد والاجتهاد والمثابرة والكفاح، لماذا لأنها مصر، ألا يكفيك أنك مصري وولدت في بلد النيل وتربيت ونشأت على ثراها وتعلمت في مدارسها، وأكلت من خيرها؟
مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة وهاهي الخطوات تتسارع وقيادتنا لا تألو جهدًا في مواصلة الليل بالنهار للنهوض بهذا البلد عن طريق إحداث نهضة تنموية شاملة مستدامة ستعود بمصرنا سيرتها الأولى، وستضعها في مكانها الحقيقي، مكان الريادة والسيادة.
فهيا يا سادة يا مصابيح السيادة شمروا سواعد الجد وحققوا لها السعادة.
هيا أروها منكم خيرًا وأروا آباءكم وأجدادكم فخرًا، ولا تلتفوا للمثبطين المنفرين فأمثالهم لا يحبون الخير حتى لأنفسهم.
ولا تيأسوا فاليأس خيانة، واصبروا وصابروا ورابطوا وابنوا وشيدوا، ويد الله معكم وعينه تحرسكم، لماذا لأنه تعالى يحب مصر وعلامة حبه لها ذكره إياها في القرآن الكريم.



