«رويترز» تكشف معاناة المدارس الإسلامية فى فرنسا مع الحكومة
نشرت وكالة رويترز البريطانية تقريرا عن صراع المدارس الإسلامية فى فرنسا مع الحكومة.
وفى التفاصيل، أبرزت الوكالة قصة أم تدعى سهام دينغير سجلت العام الماضى ابنها المراهق وابنتها فى أكبر مدرسة إسلامية خاصة فى فرنسا، فى مدينة ليل الشمالية على بعد نحو 200 كيلومتر "125" ميلا من منزلهم فى الضواحى الباريسية للطبقة المتوسطة.
ونوهت الوكالة إلى أن هذه الخطوة تعنى تضحيات مالية كبيرة، لافتة إلى دفع دينغير، البالغة من العمر 41 عاما، الآن الرسوم فى مدرسة ابن رشد التي تدعمها الدولة جزئيا، وتستأجر شقة فى ليل لأطفالها وجدتهم، التي انتقلت لرعايتهم.
ولأن السجل الأكاديمى لابن رشد، الذي كان من بين الأفضل فى فرنسا، كان بمثابة نقطة جذب قوية، فقد أصيبت الأم بالذهول فى ديسمبر الماضى عندما خسرت المدرسة تمويلا حكوميا بقيمة نحو مليونى يورو سنويا، بحجة أنها فشلت فى الالتزام بالمبادئ العلمانية المنصوص عليها فى المبادئ التوجيهية الوطنية للتعليم فى فرنسا.
وقالت دينجير للوكالة فى حديقة قريبة من منزلها فى سيرجى: "المدرسة الثانوية كان أداؤها جيدا للغاية"، واصفة مدرسة ابن رشد بأنها منفتحة، ويجب تقديرها، واعتبارها مثالا.
وشن الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون حملة قمع على ما وصفها بالانفصالية الإسلامية والإسلام الراديكالى فى فرنسا فى أعقاب الهجمات الجهادية القاتلة فى السنوات الأخيرة التي شنها متشددون أجانب ومحليون.
وأبرزت الوكالة تعرض ماكرون لضغوط من حزب التجمع الوطني اليمينى المتطرف الذي يتقدم بفارق كبير على حزبه قبل الانتخابات الأوروبية هذا الأسبوع.
وتسعى الحملة إلى الحد من النفوذ الأجنبى على المؤسسات الإسلامية فى فرنسا ومعالجة ما وصفها ماكرون بخطة إسلامية طويلة المدى للسيطرة على الجمهورية الفرنسية.
وينفى ماكرون وصم المسلمين بقوله إن الإسلام له مكان فى المجتمع الفرنسى. ومع ذلك، تقول الجماعات الحقوقية والمسلمة إنه من خلال استهداف مدارس مثل ابن رشد، فإن الحكومة تتعدى على الحرية الدينية، مما يجعل من الصعب على المسلمين التعبير عن هويتهم.
وقال أربعة آباء وثلاثة أكاديميين تحدثت إليهم وكالة رويترز فى هذه القصة إن الحملة قد تؤدى إلى نتائج عكسية، مما يؤدى إلى تنفير المسلمين الذين يريدون لأطفالهم النجاح فى النظام الفرنسى، بما فى ذلك فى المدارس العادية عالية الأداء مثل مدرسة ابن رشد.
وقال توماس ميسيتا، 42 عامًا، وهو أب لثلاث بنات فى مدرسة ابن رشد، إنه تعلم فى المدرسة أن مبادئ فرنسا تشمل المساواة والأخوة وحرية الدين.
وأردف ميسيتا: "أشعر بالخيانة. أشعر بالتمييز والتشويه والافتراء.. وأشعر أننى فرنسى بنسبة 100%، لكن هذا يخلق انقساما صغيرا مع بلدك".
وأشارت الوكالة إلى أن بقاء المدرسة على المدى الطويل أصبح موضع تساؤل الآن.
بدوره، قال إريك دوفور مدير المدرسة لرويترز فى مايو إنه على الرغم من جمع نحو مليون يورو من التبرعات من الأفراد، انخفض عدد المسجلين فى العام المقبل إلى نحو 500 طالب من 800 طالب.
وأحال مكتب ماكرون طلبا للتعليق إلى وزارة الداخلية التي لم ترد. وقالت وزارة التعليم إنها لا تفرق بين مدارس الديانات المختلفة فى تطبيق القانون، موضحة أنه على الرغم من نجاحها الأكاديمى، إلا أن ابن رشد كانت يعانى من إخفاقات فى الإدارة وإدارة الميزانية" وانعدام الشفافية.
وتخوض المدرسة معركة قانونية لإلغاء القرار.
وقال مدير المدرسة إريك دوفور لرويترز إن المدرسة أعطت الدولة "كل الضمانات" لإظهار أنها تحترم شروط التمويل والقيم الفرنسية، مؤكدا: "مدرستنا الأكثر تفتيشا فى فرنسا".
المدارس مغلقة
وأغلقت المكاتب المحلية للحكومة الوطنية ما لا يقل عن خمس مدارس إسلامية منذ وصول ماكرون إلى السلطة فى عام 2017، وفقا لإحصاء رويترز. ولم تتمكن الوكالة من العثور إلا على مدرسة إسلامية واحدة مغلقة فى عهد أسلافه.
وفى السنة الأولى من رئاسة ماكرون، فقدت مدرسة أخرى التمويل العام الذي تعهدت به حكومة الرئيس السابق فرانسوا هولاند فى مايو 2017.
وتظهر بيانات وزارة التعليم أنه منذ عام 2017، حصلت مدرسة إسلامية واحدة فقط على تمويل حكومى، مقارنة بتسع مدارس فى المجمل فى عهد سلفى ماكرون. وقال الاتحاد الوطني للتعليم الإسلامى لرويترز إنه قدم نحو 70 طلبا نيابة عن المدارس الإسلامية فى تلك الفترة.
وتحدثت الوكالة إلى أكثر من عشرة من مديرى المدارس والمعلمين الحاليين والسابقين فى عشر مدارس إسلامية، والذين قالوا إن المؤسسات كانت مستهدفة، بما فى ذلك فرض اللوم عليها لأسباب واهية، وأن التمييز المتصور يمنعهم من الاندماج بشكل أوثق فى نظام الدولة.
وقالت عالمة الأنثروبولوجيا الأمريكية كارول فيريرا، التي تدرس المدارس الدينية الفرنسية وتقول إن المدارس الكاثوليكية واليهودية يتم التعامل معها بشكل أكثر تساهلا، موضحة "توجد معايير مزدوجة حقا بشأن من يجب عليه الالتزام بالقيم الجمهورية العلمانية بطريقة معينة، ومن لا يفعل ذلك".
ذكرت وسائل إعلام فرنسية أن مدرسة ستانيسلاس الكاثوليكية الباريسية البارزة أبقت على تمويلها على الرغم من أن المفتشين اكتشفوا العام الماضى قضايا تشمل أفكارا متحيزة جنسيا أو معادية للمثليين ودروسا دينية إلزامية.
وقالت وزارة التعليم إن الحكومة عززت إشرافها على المدارس الخاصة فى عهد ماكرون، مما أدى إلى غلق المزيد، بما فى ذلك بعض المدارس غير الطائفية. وأشارت إلى قيود الميزانية كسبب لانخفاض عدد المدارس التي تقدم التمويل العام.
وبينما قامت بعض المدارس الإسلامية الخمس المغلقة بتدريس نسخ محافظة من الإسلام، وفقا لبيانات وزارة التعليم وأوامر الإغلاق، أكد مديرو المدارس والمعلمون الذين تحدثت إليهم رويترز على جهود مدارسهم لخلق بيئة تعليمية سائدة ومتسامحة.
من جانبه، قال محمود عوض عضو مجلس إدارة مدرسة التعليم والسافوار، وهى المدرسة التي فقدت تمويل الدولة بعد وقت قصير من تولى ماكرون منصبه: "لم تكن هناك رغبة فى الانفصال على الإطلاق"، مضيفا أنه فى مرحلة ما، يتعين عليهم أن يقبلوا التشابه بين المدرسة الإسلامية المدرسة الكاثوليكية أو المدرسة اليهودية.
وقال إيدير راب، مدير مدرسة ابن سينا المتوسطة فى نيس، لرويترز إنه سعى دون جدوى للحصول على تمويل عام منذ عام 2020، لأنه يريد ضم المدرسة إلى حظيرة الدولة. وتم رفض الطلب الأخير فى فبراير، وفقا لوثيقة اطلعت عليها رويترز.
وفى فبراير، قالت وزيرة التعليم نيكول بيلوبيه إنها تريد إغلاق مدرسة ابن سينا، مشيرة إلى التمويل غير الشفاف الذي وجده ممثل محلى للحكومة. وفى إبريل، قضت محكمة إدارية مؤقتا بأن أى مخالفات كانت طفيفة، وعلقت أمر الإغلاق. ومن المقرر أن تعقد الجلسة القادمة فى 25 يونيو.
وفى رد على رويترز، أكدت الوزارة مجددا أن الغموض المالى منتشر على نطاق واسع فى ابن سينا، قائلة إنها تنتظر الحكم النهائى للمحكمة، ويمكن للمدرسة استئناف رفض التمويل.
تقليد المدارس الإيمانية
وفق الوكالة، لدى فرنسا تقليد للمدارس الكاثوليكية والبروتستانتية واليهودية يسمح بالتعبير الدينى ضمن قيود المبادئ العلمانية التي تستبعد الدين على نطاق واسع من الحياة العامة.
وقد أدى حظر الحجاب فى المدارس العامة فى عام 2004 إلى خلق الطلب على المدارس حيث يستطيع الطلاب المسلمون، وخاصة الفتيات، التعبير عن هويتهم الدينية.
وتم تقديم التمويل الحكومى لمدرسة ابن رشد فى عام 2008، مقابل الإشراف، فى محاولة من الرئيس الفرنسى السابق نيكولا ساركوزى لتحسين دمج المؤسسات الإسلامية.
وتشير بيانات وكالة الإحصاء الفرنسية إلى أن ما يقدر بنحو 6.8 مليون مسلم يعيشون فى فرنسا، أى نحو 10% من السكان، وبذلك يعتبر الإسلام هو ثانى أكبر دين فى البلاد بعد الكاثوليكية.
ولفتت الوكالة إلى وجود 127 مدرسة إسلامية فى فرنسا. وذكر تقرير صادر عن مكتب التدقيق العام، السنة الماضية، أن عشرة فقط يستفيدون من تمويل الدولة.
وفى المقابل، تم تمويل 7045 مدرسة كاثوليكية، بحسب التقرير. وتقول الكنيسة الكاثوليكية فى فرنسا إن هناك 7220 مدرسة من هذا النوع.
أدخلت حكومة ماكرون قوانين تمنح السلطات المحلية صلاحيات لتجريد المؤسسات، بما فى ذلك المدارس الخاصة، من التمويل بسبب فشلها فى احترام "الحرية والمساواة والأخوة" من بين أمور أخرى.
ووصف الرئيس ماكرون، فى خطاب ألقاه عام 2020، الحاجة إلى عكس ما اعتبره تطرفا فى المجتمعات الإسلامية، بما فى ذلك ممارسات مثل الفصل بين الجنسين.
وقال: "المشكلة هى أيديولوجية تدعى أن قوانينها يجب أن تكون متفوقة على قوانين الجمهورية".
وفى عام 2020، قال مستشارو الإليزيه فى مؤتمر صحافى إن مراقبة المدارس الإسلامية والجمعيات المعنية بالأطفال أمر أساسى لمحاربة الانفصالية. وقال المسؤولون إنهم يخشون أن يكون هناك تلقين دينى فى بعضهم.
وحذرت منظمة العفو الدولية الحقوقية من أن النهج الذي تتبعه الحكومة قد يكون تمييزيا ويخاطر بتعزيز الصور النمطية التي تخلط بين جميع المسلمين والإرهاب أو وجهات النظر المتطرفة.
الجسر الثقافي
تم تسمية مدرسة ابن رشد، وهى أول مدرسة ثانوية إسلامية فى البر الرئيسى لفرنسا، على اسم عالم مسلم من إسبانيا فى القرن الثانى عشر ساعد فى إعادة تقديم فكر أرسطو إلى أوروبا وينظر إليها على أنها رمز للتعاون بين الإسلام والغرب.
وتم التصويت لها كأفضل مدرسة ثانوية فى فرنسا فى عام 2013.
وتواصلت وكالة رويترز مع سبعة من أولياء الأمور والتلاميذ الذين تحدثوا عن مساحة رعاية تأخذ الالتزامات الدستورية على محمل الجد.
ولاحظ مراسلو رويترز، فى زيارة للمدرسة فى مارس الماضى، فتيات وفتيانا يدرسون معا. وكان من بين المعلمين غير مسلمين. كما أنهم لاحظوا ارتداء بعض الفتيات الحجاب بينما اختارت أخريات عدم ارتداءه، بالإضافة إلى أن الدراسات الدينية اختيارية، وكذلك الصلاة.
وفى عام 2019، لفت الصحافيون والسياسيون المحليون الفرنسيون الانتباه إلى ابن رشد بمنحة قدرها 850 ألف يورو من منظمة الإغاثة قطر الخيرية، التي تعمل مع الأمم المتحدة. كما شككوا فى الروابط بين أعضاء مجلس إدارة المدرسة وأنصار الإسلام السياسى فى فرنسا.
ووجد تفتيش وزارة التعليم للمدرسة فى عام 2020 أن المنحة قانونية، لكن المسؤولين والسياسيين فى منطقة ليل واصلوا حملة لتقييد دخل الدولة للمدرسة.
بالإضافة إلى ذلك، أيدت محكمة إدارية فى مدينة ليل، فى فبراير الماضى، قرار الممثل المحلى للحكومة بوقف التمويل، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى أن كتابا سوريا صدر فى ثمانينات القرن العشرين حول مناهج فصل أخلاق إسلامى اختيارى يحتوى على أفكار حول الفصل بين الجنسين وعقوبة الإعدام بتهمة الردة، بحسب الحكم الذي اطلعت عليه رويترز.
ورفض مكتب الحكومة فى ليل طلبا للتعليق.
وقال مدير المدرسة دوفور لرويترز إن الكتاب لم يكن ينبغى إدراجه فى المنهج الدراسى وتمت إزالته فى وقت سابق من عام 2023. وقال إنه لم يكن موجودا فى المدرسة ولم يتم تدريسه على الإطلاق، مضيفا أن دروس الأخلاق الإسلامية ساعدت التلاميذ على ممارسة شعائرهم الدينية بما يتوافق مع القانون الفرنسى.
وقال تسعة تلاميذ سابقين وأولياء أمور ومعلمين إن هذا الفصل يدافع عن القيم الديمقراطية والمتسامحة.
بعد ظهر أحد أيام شهر مارس المنصرم، حضر عبدالرحيم، ابن دنغير، البالغ من العمر 14 عامًا، الفصل الدراسى خلال شهر رمضان إلى جانب فتيان وفتيات آخرين من المدرسة الإعدادية.
وقال عبدالرحيم إنه يريد أن يصبح مهندسا معماريا ويجعل والديه فخورين به، مؤكدا: "إنهم يريدون منى أن أتفوق فى المدرسة، وأن أحصل على وظيفة جيدة، وراتب جيد، وأن أعتنى بأسرتنا فى وقت لاحق".



