غلاء سمير أنس تكتب: الموت بين السطوة والسخرية.. سمير قسيمي وجورج أمادو
حليم بن صادق، الرجل الأربعيني الذي قرر وضع حد لحياته، والذي حظي بحياة طيبة بعض الشيء، فقد كان معتنياً بصحته وهندامه، وسيماً بعض الشيء، وما زال يملك شعراً على رأسه، كان في شبابه قنوعاً، رضي بحب نبيلة الحايك التي كانت في نظره لا تمتلك ذلك المقياس المطلوب للجمال، لذلك كانت صدمته كبيرة حينما علم بخيانتها له، وعلى ذلك، لم يحاول أن ينتقم، ولم يصرخ أو ينفعل أو يقاتل، بل يطلعنا الكاتب أننا بإزاء شخصية باردة لا يكاد يحركها شيء من أحداث الحياة، فقد ترك نبيلة ومضى في حياته لا يبحث عن امرأة أخرى، حتى أنه هاتفها بعد مدة قائلاً لها أنه "شفي منها" بنبرة جافة لا تعني أي شيء، لا الحزن ولا العتب ولا الانتقام، فهو لا يفكر بشكل جدي في باقي أمور حياته، حتى أنه لم يتخلص من ثقل ديون والده ومن مصاريف أسرته التي كان عليه أن يتحملها وحده، كما فعل أخواه اللذان تركا خلفهما ديون والده التي لا تنتهي وتزوجا وأنجبا الأولاد بعيداً عن العائلة، يبدو أن صديقنا لا يلقي الاهتمام الكبير لتحسين أمور حياته، كذلك الذي ألقاه لخطة انتحاره.
يصور لنا الكاتب سمير قسيمي نظرة صاحبنا حليم للحياة، فهي مجموعة من المغريات التي ما إن سعينا لامتلاكها باتت لنا مستحيلة المنال، ولكن حالما ندير ظهرنا لها نراها مقبلة علينا بكل مغرياتها، فهذا حليم الذي قرر أن يضع حداً لحياته كان يتصور أنه يفعل ما لا يستسيغه القدر، فـ"لم تعد الحياة في حياته كطابة تلهو بها رجل القدر، فتسجل الأهداف كيفما شاءت ووقتما تريد"، لقد قرر أنه لن ينتظر من القدر أن يفاجئه بالموت في يوم ما، بل سيختار يوم وفاته بنفسه، وقد فعل، في يوم بدا له رائعاً للموت.
قرر حليم في ذلك اليوم أن هذا هو أفضل يوم للحياة كما أنه أفضل يوم للموت، وبهذا سيسير معاكساً للقدر ويختار كيف يموت ومتى بنفسه، ولهذا القرار نراه يحضّر رسالة بريدية لنفسه تصله بعد أربعة أيام من وفاته، شرح فيها أسباب انتحاره التي لم يذكر منها الكاتب شيئاً، ولكن القارئ يستطيع أن يفهمها من خلال سياق الرواية، خلف السطور التي تشرح لامبالاة صديقنا في سنواته الأخيرة، حدّثنا حليم بن صادق عن رغبته في أن يكون موته غاية في الشاعرية والفلسفة، وقد رتب له المكان والزمان والإصرار والخطاب البريدي، ثم يصف لنا قسيمي حاله، عند سقوطه من العمارة، وعن بهجته غير المتوقعة حينما علم أن الصحافة ستتحدث عن نبأ انتحاره ثلاث مرات، عند سقوطه، وعند اكتشاف هويته بعد أن يكون قد تشوه وجهه من الحادثة، وعند وصول رسالته البريدية التي يشرح فيها أسباب وفاته، أي أنه سيصبح بطلاً في أعين الناس لبضعة أيام، ذلك الشاب الذي لم يتخذ قراراً جريئاً في حياته، يسعد الآن بتخلصه منها بقرار أول يمتلكه بنفسه، بالفعل لقد شعر بالسعادة خاصة عندما لحظ الناس يرفعون أنظارهم إليه في سقوطه، لقد شعر أنه "أصبح كنجم شهير يملك جمهوراً يتحرق شوقاً لرؤيته، إلا أنه على خلاف كل النجوم، لن يقف أمام جمهوره بل سيسقط عليهم".
على أن قراره لم يكن مفاجئاً ولا متهوراً، فقد كانت حياته مؤخراً تقع تحت إغراء فكرة الانتحار التي حاول التخلص منها بالتوبة أو الفسوق اللذان لم يفلحا في ثنيه عن رغبة باتت تشكل هدفاً لديه يزداد أهمية كل يوم، ولقد كان قراره بالأهمية التي جعلته يغالط نفسه حين سمع صوت حبيبته السابقة نبيلة ميحانيك وهي تتشاجر مع عشيقها، أثناء صعوده درج العمارة التي ألقى بنفسه منها، لعله لم يرد أن يقف في وجه قراره أو يؤخره أي شيء، فتمتم "لا يمكن .. مستحيل"، وأكمل صعوده الدرج، حتى أنه وجد لقراره التبرير الديني: "فمن اضطر غير باغ ولا عام فلا إثم عليه" والذي أفتى لنفسه بعدها أنه من المضطرين لمغادرة الحياة، وبهذا يكون قراره لا عيباً ولا حراماً، بل ضرورة رآها واجبة الوقوع. لم يذكر لنا قسيمي أن صاحبنا قد راودته أي لحظة من الحزن أو الندم أثناء هبوطه، فعندما هوت قدماه عن حافة سطح العمارة راوده الشك الذي سرعان ما علم أنه ليس شكّاً في قراره بالانتحار، بل هو ذاك القلق الذي لطالما راوده بعد أي قرار كان يتخذه في حياته، وكأنما مثل هذا القرار لا يختلف شيئاً عن أي قرار كان حليم يتخذه سابقاً، قد يكون بعض الخوف قد تسلل إلى نفس حليم، ولكنه استطاع ببعض استرجاع للذكريات ألّا يجعل له ثانية كاملة ليتملكه به: "لقد كان لأي أحد يطل من شرفة الطابق الحادي عشر، أن يرى السكينة التي ملأته لحظتها"، تلك السكينة التي جعلته يسامح الجميع بروح المغادر بلا رجعة.
ولكن قسيمي يجعل من سقوط حليم على شاحنه عمه المحملة بالأثاث يعلوه الفرش، نهاية ساخرة للحظة سقوطه من أعلى البناية، لقد جهز حليم الزمان والمكان، واستجمع شجاعته ورضاه وحمل حقائبه ليغادر الحياة، ولكن سخرية القدر تشاء أن تتوقف شاحنه عمه فجأة أمام العمارة لحدث طارئ، فيسقط عليها حليم وسط ترقب من أنظار الجميع، مغشياً عليه، بكسر في يده ورجله ألزمه راحة البيت، وكما فلسفة صاحبنا في الحياة، فقد انهال الاهتمام المفاجئ عليه بعد علم الجميع بمحاولة انتحاره، ففتحت له أبواب الدنيا حينما حصل على سكن مجاني، وعادت إليه نبيلة الحايك حبيبته السابقة، وكتبت عنه الجرائد والصحف، وتحدثت بشأنه الدوائر الحكومية، ما يحقق نبوءته السابقة التي آمن بها، حينما تعرض عن الحياة تراها مقبلة عليك بكل ملذاتها، وحينما تركض وراءها لا تنال منها إلا الفتات، وهكذا، يصف قسيمي صاحبنا مستلقياً في سريره بعد أربعة أيام من الحادثة، يتناول المكسرات التي بات قادراً على دفع ثمنها، يقرأ ضاحكاً أسباب انتحاره في رسالته البريدية التي وصلته، قبل أن تلتصق قطعة مكسرات في حلقه وتمنع عنه التنفس، فتجحظ عيناه في فضاء غرفته ويرتعش جسده في محاولة أخيرة لالتقاط النفس، ولكنه يوجه ناظريه للنافذة مستسلماً للموت، هكذا ببساطة، دون تخطيط منه للانتحار، دون أن يشاهده أحد، دونما اختيار منه لا للزمان ولا للمكان ودون رضى مسبق منه وشجاعة ودون أن تكتب عنه الصحف شيئاً ولا الجرائد، فلم يكن ذلك اليوم يوماً مميزاً اختاره حليم للموت، لقد كان يوماً عادياً فقط، ويختتم قسيمي روايته قائلاً: "في اليوم الموالي لم تكتب الصحافة شيئاً عنه، ولا في اليوم الذي تلاه ولا حتى بعد أسبوع، ولم يعرف أحد بعدها ما قرأ حليم بن صادق في رسالته تلك، لكن الأكيد أنها كانت رسالة بعثت من قاع القبر على أجنحة الموت".
لقد حاول حليم بن صادق معاندة القدر ووضع حد لحياته بتخطيط منه وإصرار، ولكن نجد أن القدر يقف ساخراً من موقف حليم، وهو يدفع بشاحنه عمه لتتوقف أمام العمارة، ثم يعود ليخطف روحه فقط عندما كان لحليم الرغبة الكبيرة في الحياة، قد يستطيع الإنسان أن يُقنع نفسه بالعديد من الأمور، مثل حرية إرادته في قرار مصيري مثل الانتحار، ولكن يظل للقدر دائماً ما يقوله، وبهذا يحفظ قسيمي للموت قدسيته وقوته في أذهان القرّاء، فلا يستطيع أي أحد اختياره طالما لم يختره هو أولاً، لم يختر الموت حليماً في ذلك اليوم، بل كان له تدبير آخر فقط بعد أربعة أيام من الحادثة، خاصة عندما تتردد في ذهن القارئ كلمات حليم وهو يجابه القدر في آخر لحظات حياته: "الآن فهمتك أيها القدر، أيتها الحياة، أنتِ كأي غانية كلما سعيت إليك تماديت في الفراق، وحين أبتعد تلوحين لي، فيأسرني طمع رضاك مرة أخرى، فأدنو.. أدنو إليك وكلما أدنو أراني أبتعد، وأقول في طيبة الطامع الآمل: ربما.. وأقول قد، لكنك أنت كما أنت، لا خلاص من ألمك المزمن، إلا بالتوقف عن الأمل، الطمع، الحب، لا خلاص منك إلا بمفاجأتك، أشعتِ بين الناس أن الرزق مقسوم، وأن كل شيء قضاء وقدر، سأثبت أنك كاذبة، سأكون أنا الاستثناء في قاعدتك، سأحدد ساعة موتي بالساعة والطريقة، وستنظرين إليّ كما سينظر الناس وأنا أخترق القاعدة، وحينها فقط، سأتحرر من لغوك الذي لا ينتهي وأخرج من اللعبة، لعبتك أنت.."
ميتتان لرجل واحد – جورج أمادو
كينكاس هدير الماء زعيم مشردي باهيا في البرازيل، مصدر عار العائلة، فضيحتها وطاعونها الذي لطالما خجلت به أمام أعين الناس ونظراتهم، بعد كونه جواكيم محتشم السلوك مؤدبه، الزوج المطيع والأب المثالي لابنته والموظف في دائرة الضرائب، إلى أن اعتبرته عائلته ميتاً منذ تحولت حياته للسكر والمجون بنظرهم، ذلك الشاب المطيع الذي كان يخفي تمرداً كبيراً في نفسه، غير قادر على كسر الحاجز والعيش كما يحب، كسره أخيراً عندما "نعت ليوناردو ب"الحمار الأبله" ثم قذف في وجهيهما – أي ابنته وزوجته- عبارته العجيبة: "حيتان قذرتان!" ثم تحرك بأعظم هدوء وجد في هذا الكون، وكأنه قام بأتفه الأعمال وأكثرها بساطة على الإطلاق، ورحل ولم يعد"، مختاراً الحياة التي لطالما أرادها، حياة حقيقية لا يغلفها الزيف ولا الواجبات الاجتماعية ولا الأغلال الأخلاقية، مذ ذلك اعتبرته العائلة ميتاً، فقد مات جواكيم الذي عاش ليرضيهم، وحلّ محله كينكاس الذي لا تربطهم به صلة لا من قريب ولا من بعيد.
توفي كينكاس في شقة بعيداً عن أهله مزيلاً عنهم عبئاً كبيراً طالما حملوه، لقد جلب لسمعة أهله العار وقلة الشأن بممارساته اللاأخلاقية بنظرهم، لذلك كان لخبر موته وقع مريح على مسامعهم، ولم يتبق سوى أن يقيموا له عزاء يليق بهم، ويتخلصوا من ذكراه للأبد، لذلك فعندما وصل جثمانه إلى عائلته بملابسة الرثة وجسده المتسخ وهيئته الساخرة، قاموا بتغيير مظهره كما يليق بميت من عائلتهم، فألبسوه الملابس الجديدة والحذاء اللامع وأراحوه في تابوت غالي الثمن رغم فقرهم، وكأنما أرادو إعادته لجواكيم والتخلص من ذكرى كينكاس، أرادوه أن يموت على طريقتهم، آملين أن هذا المظهر سيمحي من أذهان الناس من كانه كينكاس قبل موته، كينكاس الذي رمى بكل شيء خلفه وقال "إلى الجحيم"، ثم عاش كما أراد أن يعيش، وقد حققت لهم الملابس الجديدة ذلك ظاهرياً، أما ابتسامته الساخرة منهم واحداً واحداً فلم يستطع أحد أن يمحوها، ذاك هو الجوهر الذي لا يستطيع أن يغيره أحد.
كما نستطيع أن نلمس تأثير كينكاس على عائلته عندما جلست ابنته فندا إلى جانب جثمانه تلك الليلة وهي تفكر في جواكيم الذي اختفى فجأة من حياتها، وحل محله هذا الشخص الغريب عنهم، نزيل الحانات وصديق المشردين والمومسات، تذكرت فندا ذلك وتأثرت حتى أنها همت بالبكاء، عندها تمنت لو راودتها هذه الذكريات أمام الناس لبكت أمامهم والدها كما يليق بابنة صالحة، فليس مهماً ما تشعره وما حصل من تحول مع والدها بالقدر الذي يهم نظرات الناس وتعليقاتهم على الوفاة وسببها ومظهر الميت واستضافة العائلة للمعزين وأنواع الضيافة المقدمة لهم.
لم تستطع فندا في تلك الليلة أن تهرب من نظرات كينكاس الساخرة منها ومن العائلة، ومن تعليقاته اللاذعة وشتائمه حتى أنها رفعت يديها لتسد أذنيها محاولة ألّا تسمع منه شيئاً، فهو الآن مجرد جثة باردة بملابس أنيقة، يبدو أن محاولات عائلته في دفن كينكاس مع جواكيم باءت بالفشل.
لطالما كان كينكاس يصرح لأصدقائه بأنه يمقت البر ويحب حياة البحر، كما أنه "خصّ البحر وحده بشرف ساعته الأخيرة، ولحظاته النهائية، ولن يقبل أبداً بأن يُدفن في ثقب أرضي من ستة أشبار، كلا! لن يحدث ذلك مطلقاً! وعندما تحين ساعته، سيشترط حرية البحار .. حرية الرحيل الذي لم يستطع تحقيقه أثناء حياته، ويغيب في الزرقة التي لا نهاية لها، متجشماً المخاطر والمغامرات الأكثر جسارة"، لذلك، عندما علم أصدقاؤه المقربين بهذه الميتة في غرفة بائسة عند منحدر طوباو، حزنوا عليه حزناً شديداً، وذهبوا لزيارة صديقهم في منزله وسط حرج العائلة منهم، خاصة عندما خاطبه صديقه بأبيهم الروحي: "كانت هذه الجملة لكمة قوية في بطن فندا، وصفعة على خد ليوناردو، وبصقة على وجه إدواردو"، كانت فندا تؤمّل نفسها أن هذه هي زيارتهم الأخيرة لجواكيم وفي الصباح لن يراهم أحد مع الجثة، بل سيشيع جواكيم الموظف المحترم والزوج المطيع والأب المثالي إلى مثواه الأخير وسط أفراد العائلة فقط.
حاول الأصدقاء أن يتعرفوا على أباهم الروحي في ملابسه الجديدة وهيئته النظيفة، ولكنهم لم يستطيعوا، فأعادوا له هيئته التي أحبوه فيها، ملابسه الرثة المتسخة وجوربه المثقوبة والخارج منها إصبع قدمه الكبير، ثم قدموا له الكشاسا التي كان يبصقها باستمرار، لم يكونوا راضين عن الميتة التي ماتها كينكاس، فلم يكن ليرضى هو عن هذه الميتة، لذلك فقد أخرجوه ليتناول معهم الموكاكا بالسمك، بمشيته الرخوة وابتسامته الساخرة، "وكان كينكاس هدير الماء في ذروة البهجة عابثاً بكل شيء، فمرة يُحاول أن يعرقل العريف والمدهون معاً، ومرة يُخرج لسانه للمارّة وكأنه يسخر من الناس جميعاً، وأحياناً يميل برأسه على أحد الأبواب ليتجسس بخبث على عشيقين متلاشيين في الحب، ومع كل خطوة كان يعلن عن رغبته في التمدد على الشارع"، لقد أرادوه بينهم مجدداً ليختار ميته تليق به، بعيداً عن نفاق عائلته الذي لم يناسبه يوماً، فصحبوه لملاقاة أصدقائه الذين ابتهجوا لوجوده معهم مجدداً، ولاموه على مزحته الثقيلة التي أشاعها بخبر موته، وقد عمت المدينة البهجة التي أشاعها كينكاس بإطلالته عليهم، ومروره من بينهم وتوزيعه الابتسامات عليهم، وكأنما يحتفلون ببطل يغدق عليهم بالنعيم، وعندما وصلوا البحر كان الكابتن مانويل ينتظرهم، ذاك أنه لم يصدق خبر موت كينكاس، "فكيف يمكن لذئب البحار العجوز أن يموت على سرير رث في غرفة بائسة، وأن يُدفن في التراب، وفي البحر أسماك كافية لالتهام شعب من الموتى؟"، لذلك استقبلهم وحضّر لهم موكاكا بالسمك، ثم أبحروا في القارب محتفلين بعيد ميلاد صديقهم كينكاس، قبل أن تصل العاصفة وتحاصرهم في البحر، حينذاك، وقف كينكاس بطريقة ما وألقى كلماته الأخيرة لأصدقائه: "على كل فرد أن يعتني بدفن نفسه، فلا وجود لمستحيل"، ثم ألقى نفسه في البحر، تماماً كما أراد يوماً أن يموت، ما يجعل لديه رقما قياسياً في الموت، فقد مات ثلاثة ميتات، عندما هجر عائلته ونسخته القديمة المسماة بجواكيم، فاعتبرته عائلته ميتاً، وعندما مات حقيقة في غرفة بائسة عند "منحدر طوباو"، وعندما قرر أصدقاءه ميتته في البحر كما تمنى دائماً. وقد راجت رواية شاعر جوال حول ميتة كينكاس، حيث قال في لحظاته الأخيرة:
"سأدفن كما أشتهي في الساعة التي أشتهي يمكنكم أن تحفظوا تابوتكم إذن لميتة جديدة، وميت جديد. أما أنا فلن أترك أحداً يحبسني في قبر أرضي رذيل"
هكذا تنتهي رواية جورج أمادو، تاركاً القارئ في حيرة كبيرة أمام أحداث ترمي بقداسة الموت عرض الحائط، وتجعل من قرارات الإنسان أهمية تعلو أقداره، تلك الجثمان الباردة التي كانت بطلة الرواية بقرارها السابق الرافض ميتة عادية، بل ميتة وسط البحر، أمنية حققها لها أصدقاؤها حينما عز عليهم فقدان أبيهم الروحي، رافضين تلك الميتة التي اختارتها له عائلته والتي لا تناسب روحه المتمردة الحالمة، في مشهد يعجب له القارئ، خاصة ذاك الذي لازال يرى أن للموت احترامه وقدسيته وللجثمان حرمته التي يجب ألّا يمسها ماسّ، لقد قدم لنا الكاتب رؤية جديدة للحياة تقول لنا: تستطيعون دائماً رمي كل شيء خلفكم والعيش كما تحلمون، تستطيعون في كل مرة أن تمزقوا رداء القداسة المحيط بالمفاهيم والتصورات، وتحقيق رغباتكم كما تشاؤون، على نقيض النظرة التي يقدمها لنا قسيمي، حينما جعل للموت سطوته الممزوجة بالسخرية على حليم بن صادق، والذي اختار أن يخطفه بعد أربعة أيام من حادثة هبوطه عن سطح العمارة.
لقد حفظ قسيمي للموت قدسيته، بينما عرّاه أمادو منها، أراد قسيمي أن يظهر سطوة القدر وسخريته، وأراد أمادو أن يظهر تهافت القيم وسخفها أمام رغبات الإنسان، بدا لنا حليم بن صادق عند قسيمي شاباً عاند ما لا يمكن عناده وانتهى بالفشل، وبدا لنا كينكاس هدير الماء عند أمادو بطلاً شعبياً محبوباً استطاع أن يحقق رغبته من خلال أصدقائه، إننا أمام رؤيتين متقابلتين للموت، رؤية تقدسه وتظهر سطوته، ورؤية تعرّيه من زيف ما لبس من القداسة والحُرمة، وتجعل منه حدثاً سخيفاً لا يرقى بأن يوقف أي رغبة من رغبات الإنسان.



