ما دخلت المغالاة في أمر ما من أمور حياتنا إلا شانته، وما خرج التكلف من شيء إلا ازدان هذا الشيء وأضحى براقًا لامعًا. المغالاة والتكلف طريق ناجع إلى اللامبالاة، كيف يكون ذلك؟!
نوضح المسألة بشيء من التفصيل، إذا غالى مثلًا رب الأسرة وتشدد في أمر من أمور الدين، كأن مثلًا يطلب من زوجه أن تلبس ابنته التي تبلغ من العمر أربع سنوات، حجابًا، أليس ذلك يترك أثرًا سيئًا في نفس هذه الطفلة يجعلها عندما تكبر تحجم عن ارتدائه وتضرب بأي توجيه لها عرض الحائط.
أو أن يرغم ابنه مثلًا عن فعل شيء لا يحبه ويجبره عليه جبرا، أليس ذلك مبررا لفشل هذه الابنة بعدما يصاب بالإحباط لأنه لم يجد نفسه في هذا الأمر فيصاب باللامبالاة.
أخطر أنواع المغالاة والتكلف هو المغالاة والتشدد في الدين، فعلى الرغم من أحاديث النبي ﷺ ، التي ترفض هذا التكلف ومنها، الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه.
إن هذا الحديث الشريف يحمل ما يحمله من تساؤلات قد يثيرها المرء علانية أو يضمرها في نفسه خشية أن يواجه تارة بالصد وتارات أخرى بالترهيب المادي والمعنى.
يقول تعالى: "ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك"، ويقول "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين"، وأيضا "فبما رحمة من الله لنت لهم"، تلك هي دعوة الإسلام.
السلام، الرحمة، المودة، الإخاء، المساواة، العدالة، الحب ونبذ الكراهية.
فعل الخيرات وطرح المنكرات، طرح العصبية والعنصرية البغيضة. ديننا دين السماحة، دين الحب، ديننا دين الحرية المسؤولة. يقول تعالى: "لا إكراه في الدين"، "أفانت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين".
فالدين لله والوطن للجميع، وأحاديث النبي واضحة وصريحة، ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم، من أذى ذميا أو معاهدا فأنا خصمه أمام الله يوم القيامة.
والسؤال: هل كل من حفظ آية من القرآن الكريم أو حفظ حديثا يكون لديه القدرة على التبليغ، المسألة جد مهمة لماذا مهمة وخطيرة؟.
لأن هناك ضوابط شرعية إذا لم يلتزم بها الداعية، تكون عواقبها وخيمة على الداعي والدعوة كالذي يقول لا تقربوا الصلاة وهو لا يعلم فحوى وتفسير الآية أو كالذي يتهم عمرو أو زيد بالكفر لأنه مثلًا صافح امرأة أجنبية، أو دخل الخلاء ناسيًا بقدمه اليمنى أو لم يطلق لحيته أو مثلًا نسي أن يرد عليه السلام يزجر زجرًا عنيفًا.
هذا الزجر قد يقوده إلى طريق التيه والضلال واللامبالاة الممقوتة. فبدلًا من أن يكون تاركا تركا جزئيا يترك بالكلية، ضاربا بها عرض الحائط غير مهتم ولا مبالٍ بها.
"أي تشدد هذا" ألا يعلم هؤلاء أن من شدد شدد الله عليه ومن يسر يسر الله له.
لماذا يكفر بعضنا بعض، ورحمة الله وسعت كل شيء.
العالم من حولنا يتقدم ودعوة الإسلام دعوة تقدم وعلم وحضارة ومدنية.
ألم يرفض النبي ﷺ صنيع أحد الصحابة وما فعله مع الرجل الذي أسلم والسيف على رقبته ونطق الشهادة فقتله. فقال له النبي وهل شققت عن قلبه.
نحن لا نقول إلا الحق ولا نقف إلا مع الحق ونكون مع الحق حيث كان.
فينبغي علينا أن نذكر بهدي النبي ﷺ وبمآثره وخصاله الحسنة، ونذكر بسنته، وباعتداله وبوسطتيته ودعوته ورسالته التي أرسله بها الله لنشر المحبة والسلام بين الجميع. فلا داعي للتطرف في الأفكار، لا داعي للتشدد، فالمعصوم في حديثه قالها منذ أكثر من ألف وأربعمئة عام، الدين يسر، ويسروا ولا تعسروا. بل الواجب علينا الاقتداء بسنته وبهديه الناصح الأمين، حتى نعود سيرتنا الأولى.
فيا أهل التطرف لا تقنطوا الناس من الدين، وألزموا حدودكم، ولا تغالوا، ولا تتصدروا للإفتاء بغير علم ولا هدي ولا فقه ولا كتاب منير، بل اتركوا الأمر لأهله الذين تبحروا في العلوم الشرعية، اتركوا المسألة لأهل الفتوى، لدار الإفتاء حفظها الله، لمشيخة الأزهر الزاهر حفظ الله قاماته، ولا تنصبوا أنفسكم قضاة وجلادين في آن واحد، فإذا وكل الأمر إلى غير أهله فانتظروا الساعة.
ونريد أن نحبب الناس في الدين لا نقنطهم ونسد باب العفو والمغفرة أمامهم.
فالله الله الله في كل من يقنط العباد من رحمة الله التي وسعت كل شيء.
الله الله الله، في كل من يكفر عبدا من عباد الله شهد للإله بالوحدانية ولنبيه بالرسالة ومات على ذلك.
أستاذ الفلسفة بآداب حلوان



