

حمدى رزق
عن الأب المؤسس «عبدالله كمال»
يوم الأحد الثانى والعشرون من يوليو من العام ألفين وأربعة عشر، تلقيت دعوة من طيب الذكر الأستاذ «عصام عبدالعزيز» رئيس تحرير «روزاليوسف» - آنذاك - للكتابة عن صديقى اللدود طيب الذكر «عبدالله كمال»، وكان لتوه فارقنا إلى الدار الآخرة، بعد حياة صحفية صاخبة.
لم أتأخر ثانية عن تلبية الدعوة الكريمة، من كرم ربنا عليك حيا أن تكون مطلوبا فى وداع الأحباب.. هذا من فضل الله ونعمته يؤتيه من يشاء.
وفى عشرينية جورنال «روزاليوسف» تلقيت دعوة كريمة من الأستاذ «أيمن عبدالمجيد» رئيس التحرير للاحتفاء بالمناسبة السعيدة، ولم أتوان عن النداء.
بينى و«روزاليوسف» حب عميق، بيتى الأول، على درجها خطوت، وعلى ورقها (الستانية) كتبت، وفى حضن كبارها شببت، وبصحبة أصدقاء العمر عشت حياة صحفية عريضة لا تحدها طموحات ولا تعوقها عكوسات، فقط نكتب لأن الكتابة حياة.
يومها، يوم وفاة طيب الذكر «عبدالله كمال» كتبت سطورا حزينة، لكنها حق مستحق للأب المؤسس لـ«جورنال روزاليوسف»، ولا تزال بصمته تلون الجورنال، وروحه حاضرة فى المبنى العريق.. أتذكر معكم هذه السطور التي كتبتها بدمع العين والقلب حزين.
أن تكون أنت نفسك (صانع الأخبار) خبرا فى باب الوفيات: «توفى إلى رحمة الله تعالى الكاتب الصحفى...»، ويترحمون عليك: «الله يرحمه».. أن تكون أنت ضيف الفضائيات، خبرا مفجعا على «بار» فضائية، تنعيك بـ«فقيد الصحافة»، وتنشر سنك – ٤٩ سنة – صغيرٌ على الموت يا عبدالله.. أن تصبح أنت (صاحب الانفرادات) انفرادا صحفيا يتنافس عليه شباب المواقع، منهم من يعرفك عز المعرفة، ومنهم من لا يعرفك، وكان يُمنِّى نفسه بلقاءٍ قريب.. أنت أنت، ليس غيرك.. صرت تغريدة بجناحين تحمل نعيك تطوف حول العالم، وكنت أنت أنت من تطوف تغريداتك العالم.. نفس الدورة دارت بك، سبحان من له الدوام.
عجبًا: لماذا يرثونه، ميتًا؟! ويتسابقون إلى نعيه، ميتًا؟! ويعترفون بفضله، ميتًا؟! ويتشدقون بصداقته، ميتًا! فلماذا كانوا ينكرونه، حيًّا؟! ويتخفون من صحبته، حيًّا؟! ويتدارون عن جلسته، حيًّا؟! والله لو كتب أحدهم نصف عمود من مداد حبره السيال دمعًا الآن فى «مناقب» عبدالله كمال (حيًّا)، لفارق «أبو زينة» الحياة، قرير العينين.. لو فتح أحدهم جورناله لمقال يحمل توقيع «عبدالله كمال»، لرحل «أبو عالية» راضيًا مرضيًا.. لو اعترف أحدهم ولو فى تغريدة أو «تويتة» بفضل عبدالله عليه، لفعل خيرًا فى حياة الرجل.. لكافأه حيًّا.. فما أعجب من راغب فى ازدياد! ولو باح أحدهم بما قدمه عبدالله سرًّا، لكان فضلًا عظيمًا منه.. لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذوو الفضل، لاسيما لو كانوا أحياء يرزقون.
درس عبدالله.. وعيت الدرس جيدًا، أرجوكم، أرجوكم، أتوسل إليكم، لا تكتبوا عنى بعد وفاتى.. فلن أقرأ أوراقكم وما تسطرون.. لا تذكروا محاسنى، فلن أرتدى منها شيئًا، ولا تتفننوا فى «مناقبتى»، فأنا بين يدى الله، سبحانه يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، جففوا دمعكم، ارفعوا أقلامكم، اطووا عنكم صحائفكم، شاكر فضلكم، وشكر الله سعيكم، كتابتكم بعد وفاته تأدية واجب لن يتبعه أذى، رحل عبدالله وكفى.
كان حضوره مؤذيًّا لغير الموهوبين، كان لافتا فى زمن الباهتين، كان حازمًا مع نفسه والآخرين فى زمن المرخيين، كان متقدا فى زمن العاطلين، كان مغرورًا – عن حق – بصحافته فى زمن يتخفى من تغوطاتهم المنحرفون.. كان يعرفهم واحدًا واحدًا، منحرفًا منحرفًا.. كانوا يخشونه لا لبطشه، أو لغلظة بادية، ووجه متجهم كظيم، لا.. لأنه كان يعرفهم جيدًا.. شاهدَ انبطاحَهم على عينيه، وانكفاءَهم على يديه، وادعاءَهم العفة، وهم ملاعين.. أُتيح لعبدالله أن يراهم عراة، كما ولدتهم أمهاتهم.. شاهد بأم عينه فسادهم، وانحرافهم.. كان يعرف كثيرًا عنهم، ولذا خشى منه الكثيرون، وتكالب عليه نفر من المفضوحين، نيابة عن المنحرفين، يناولونه بذات الشمال وذات اليمين.
كتبت (أعلاه) بدعوة خالصة من الصديق عصام عبدالعزيز (رئيس التحرير)، وما كنت أنتوى كتابة.. ما لم أكتبه فى حياته ليس له معنى بعد مماته، إلا ادعاء، وأنا لست من المدعين.. “باطى والسما”، كما يقولون.. اكتفيت بعزاء فقير من صديق لصديق، استودعته عند الحى القيوم، لا أدعى حبا، ولم أدع.. ولن أكذب على الرجل فى قبره.. ربك أعلم بما فى القلوب.. ولا أدعى قربا، لم أكن من المقربين.. ولا أدعى صداقة، لم نكن على وفاق ولو يسير.. كلانا كان يبحر فى طريق.
دعانى للكتابة فى جورنال روزاليوسف الوليد، ولبّيت النداء حُبًّا فى الوليد، وانتهت العلاقة الودية قسرا بعد معركة هوجاء مثل طواحين الهواء، لا أعرف لها أصلًا حتى ساعة مماته.. سرها مات معه، الله يرحمه.. وأدها فى مهدها رجل فاضل، له عندى وعند “عبدالله” منزلة الأب الكريم، هو الأستاذ محمد عبدالمنعم.. تجمدت المعركة، وتجمد كل شىء فى علاقتنا التي كانت قد بدأت مسارا طبيعيًّا للتو.
لم أسترده بعدها، ولم يسع لاستردادى.. كان فراقنا مقدرًا ومكتوبًا، كلانا لا يجيد التملق الإنسانى للآخر، “اللى فى قلبه على لسانه”.. حتى اللقاءات العابرة التي جمعتنا خارج مصر سواء فى واشنطن أو فى الرياض، لم تغسل ما سكن قلبينا، ضحكات باهتة، مجاملات باردة، كنا نجتمع معا لسبب غريب.. كلانا يتعاطى الشيشة!
كان مما كان فى سفرنا هذا، أنَّ من يعثر منَّا على مقهى به «شيشة» يخبر الآخر بأمرها، ولو لم يصحبه إليها! طقس الشيشة يحكم علينا فى الغربة كثيرًا.. أحيانا كان يجلس مكانى أو العكس، فقط، ليغادر أحدنا ليلتقى الآخر بالمحبوبة (الشيشة).
كنت أنتظر لقاءً قريبًا من بعيد، متنسمًا بيت شعر “وقد يجمع الله الشتيتين بعدما يظنان كل الظن ألا تلاقيا”، حتى بيت الشعر هذا خاب توقعى فيه! حتما سألتقيه فى الآخرة، أنتم السابقون ونحن اللاحقون، ولكنى أذكركم وأذكر نفسى بدرس أخير من عبدالله كمال، درس «صعيب»، الدرس الأخير.. من كان يحب زميلا، فليعترف بحبه علنًا، ومن كان يقدر زميلا فليقدره على رؤوس الأحياء، ومن يعترف بالفضل فـ«على العين والراس، مش فى الكراس»! عبدالله كمال، وعينا الدرس.. لا بد أن نستعد جيدا لكتابة خبر الوفاة دون إراقة مزيد من الحبر.. أرجوكم الكتابة عن الأحياء تمد فى العمر، ولو بقدر ثوانى قراءة المقال، الكتابة كالبكاء على رأس الحى، أبقى من الكتابة والبكاء على رأس الميت!