أحمد إمبابى
لماذا طلب الرئيس إلغاء الانتخابات
رد الاعتبار لصوت الصندوق
رُبَّما لا يختلف أحد حول الغاية التي يجب أن تُجرَى بها الاستحقاقات الانتخابية؛ لتُعقَد فى سياق ديمقراطى حقيقى، يتيح للجميع ناخبين ومرشحين المشارَكة دون قيود، أملاً فى أن تأتى بنتائج مُعَبرة حقًا عن إرادة شعبية، دون توجيه وتزييف.. فهذه الفلسفة التي من أجلها تُجرَى الانتخابات، والركيزة التي تُبنَى بها الأنظمة السياسية القوية، وأى خروج عن هذا السياق، ما هو إلاّ تجاوُز فى الممارسة نفسها وفى التعامُل مع هذا الحق المنصوص عليه دستوريًا.
وحينما تُفقِد أخطاء الممارسة، العملية الانتخابية جوهرَها الأساسى، فى المنافسة والنزاهة تأتى النتائج بعيدة عن الواقع وإرادة الشارع، وبالتالى لن يكون غريبًا وقتها فقدان ثقة الناخب فى المنظومة الانتخابية نفسها، وتزايد «عدوَى» العزوف عن المشاركة.
من هذا المنطلق، نستطيع أن ننظر إلى تدخُّل الرئيس عبدالفتاح السيسي، قبل إعلان نتيجة المَرحلة الأولى من انتخابات مجلس النواب 2025، طالبًا من الهيئة الوطنية للانتخابات، المشرفة على هذا الاستحقاق الانتخابى، «التدقيق التام» فى فحص الطعون المتعلقة بملابسات الاقتراع فى هذه المَرحلة، بِعَدِّه مُحاولة لإعادة الاعتبار لآلية الاختيار عبر الصندوق (الانتخاب)، واستعادة الثقة فى هذه الأداة التي لا بديل عنها كى يختار الشعبُ ممثليه ويحاسبهم.
هناك مَن نظر لموقف الرئيس باعتباره «سابقة تاريخية»، فلم يحدث أن تدخَّل رئيس الجمهورية، فيما أحاط بانتخابات برلمانية من مُلابسات وأحداث، حتى لو تَطلب الأمرُ إلغاءَ الانتخابات كليًا أو جزئيًا، وهو ما كان بإلغائها فى 19 دائرة، وهناك مَن ربَط بين مشهد ما جرَى من أحداث وخروقات فى انتخابات الجولة الأولى من استحقاق البرلمان، وبين ما حدث فى انتخابات 2010، التي كانت «الخروقات» فيها بيّنة؛ خصوصًا ما يتعلق بتغوُّل السُّلطة التنفيذية والحزب الحاكم وقتها (الوطني) فى نتائجها.
والواقع أن هناك فارقًا كبيرًا؛ خصوصًا فى الموقف السياسى، ذلك أن القاعدة التي جرَى توارثها منذ عقود، كانت تتحدث عن أن وقوع انتهاكات انتخابية، أقل أثرًا من إبطال الانتخابات كليًا.. هكذا تعامَل مَثلاً الرئيس الأسبق حسنى مبارك، مع تجاوزات انتخابات برلمان 2010، حينما قال إن «الانتهاكات لا تنفي حقيقة إجراء الانتخابات طبقًا للقانون»، أمّا فى انتخابات 2025؛ فلم تنتظر القيادة السياسية انتهاءَ الانتخابات أو استكمال جولاتها، وتفاعَل مباشرة مع الممارسات التي صاحبت الاقتراع فى جولتها الأولى، داعيًا إلى التحقيق والفحص، حتى لو تطلب الأمرُ إلغاءَ تلك الانتخابات.
لماذا طلب الرئيسُ إلغاءَ الانتخابات؟
حقيقة الأمر، أن الرئيس السيسي، وضع الجميع أمام لحظة تاريخية يصعب تجاوزها، فصورة الانتخابات كانت واضحة أمام الجميع؛ خصوصًا ما يتعلق بهندسة الترشيح فى هذا الاستحقاق بين الأحزاب والقوَى السياسية، ثم تغول تأثير المال فى الانتخابات، والمبالغة فى الدعاية، وكلها ممارسات لن تحقق الغاية الأساسية من الانتخابات، وهى الوصول لنتائج مُعَبرة حقًا عن إرادة الشارع والناخب.
من هذا المنطلق، جاءت قرارات الهيئة الوطنية للانتخابات؛ حاسمةً لهذه الخروقات، حينما أعلن القاضى حازم بدوى، إلغاء الانتخابات كليًا فى 19 دائرة، فى 7 محافظات، فى وقت جرَى الإعلان فيه عن فوز 42 مرشحًا، وإعادة الانتخابات فى 60 دائرة بين 120 مرشحًا، وهى نتيجة توحى بمجموعة من الدلالات المهمة، لعل أهمّها التوزيع الجغرافى للدوائر المُلغاة، التي تركزت فى الصعيد وتحديدًا فى قنا وسوهاج، وقليلاً فى الفيوم والجيزة والبحيرة والإسكندرية.
وحقيقة الأمر؛ أن التفاعلات مع إجراءات التصويت فى المَرحلة الأولى ونتائجها، كانت شديدة السخونة والمواجهة فى دوائر الصعيد؛ للحد الذي لم يُعجب دوائر تأثير مجتمعى مهمة فى الصعيد؛ خصوصًا القبائل والعائلات هناك، الذين لم يرُق لهم كثيرًا مما حدث من ممارسات غير متعارَف عليها فى تقاليد انتخابات البرلمان هناك، من بينها اختيارات المرشحين.
والمعروف أن تأثير العوائل والبعد القبلى فى دوائر مثل محافظات الصعيد، يفوق فى تأثيره أى حضور حزبى هناك، وهى أبعاد دائمًا ما توضع فى الحسبان عند هندسة الترشيح فى الانتخابات البرلمانية، إلى جانب ما يتعلق بمخالفات الدعاية الانتخابية والمبالغة فيها ببعض الدوائر، وكلها ممارسات لم تكن مؤسَّسة الرئاسة ببعيدة عنها، وجاء تفاعُل القيادة السياسية معها سريعًا وبشكل مباشر.
الإصلاح السياسى
نقطة التوقف الأخرى، تتعلق بسياق الموقف الرئاسى، ذلك أنه لا يمكن عزل تدخُّل الرئيس لتصويب مسار الانتخابات، عن رؤيته وفكره السياسى، فحينما ننظر ونراجع تعاطى الرئيس السيسي مع الاستحقاقات الانتخابية التي جرت منذ 2014، دائمًا ما يؤكد على مجموعة من المعانى الأساسية، وأهمها «المشاركة الإيجابية والفاعلة» بغض النظر عن المرشحين، وأن تكون الانتخابات مسارًا مُعَبرًا عن إرادة الناخب والمواطن نفسه.. هكذا كان يتحدث مع الاستحقاقات الرئاسية والبرلمانية والاستفتاء على الدستور.
وعلى هذا الأساس، يتجاوز الموقف الرئاسى، حدود التدخل القانونى والتنظيمى الحاسم مع خروقات الانتخابات، ويمتد بمعانيه لأبعد من ذلك؛ ليعكس فلسفة النظام الحاكم، فى عملية الإصلاح السياسى، ونستطيع أن نتوقف أمام هذه الفلسفة فى الأبعاد والنقاط التالية:
أولاً: إن موقف الرئيس جاء رفضًا واضحًا وصريحًا لإجراءات لم تتسم بالشفافية فى الانتخابات، وتعديلاً لمسار الاستحقاق الانتخابى، واكتسبت أهميته بصدوره من رئيس الدولة.. وهنا المعنى الاول، أن السُّلطة التنفيذية، وعلى رأسها القيادة السياسية، تقف على مسافة واحدة من الجميع، مرشحين وناخبين، دون الانحياز لتيار أو حزب أو شخص بعينه، ولا غاية لديها سوى الوصول إلى برلمان يُعَبر عن إرادة شعبية حقيقية فى الشارع.
ثانيًا: لا يمكن فصل موقف الرئيس عن جهود ملف الإصلاح السياسى الداخلى، ذلك أنه لم يأتِ من فراغ؛ وإنما عَبَّر عن واقع ما يجرى فى الشارع الذي لن يقبل بما حدث، ولن يرضى إلا بانتخابات حرة، وبالتالى يمثل ذلك الموقف رسالة لا بُدّ أن تترتب عليها مراجعات لدَى أطراف العمل السياسى، لتطوير أدواتها وحضورها وتأثيرها، والتريث فى اختيار كوادر ونخب حقيقية قادرة على أن تمثل الناس داخل البرلمان.
ثالثًا: إن المسألة ليست فقط فى إنصاف مرشح مُعَين أو صاحب مَظلمة، ولكن تتعلق بإقناع المصريين مجددًا بأن يثقوا فى أن هناك انتخابات حقيقية، وأن أصواتهم يمكن أن تقرر مصير البلاد.. إذن المطلوب هو إعادة الاعتبار للانتخابات باعتبارها أداة لا بديل عنها كى يختار الشعبُ ممثليه ويحاسبهم، وأعتقد أن هذا هو المعنى الأهم فى الموقف الرئاسى.
رابعًا: معنى آخر فى الموقف الرئاسى، يتعلق برفع مستوَى الوعى الانتخابى بين المواطنين، ولعل حديث الرئيس السيسي فى حواره التفاعلى مع طلبة كلية الشرطة الأسبوع الماضى، كان يجسّد هذا المعنى، حينما أشار إلى ضرورة وجود وعى لدَى المواطنين لأهمية اختيارهم، وأن يكون هناك حرص على اختيار النجباء والشرفاء والمخلصين، وليس اختيار شخص غير صالح، مقابل مزايا وأموال.
خامسًا: بلا شك، سيمتد تأثير هذا الموقف إلى الجولات التالية للانتخابات؛ خصوصًا المَرحلة الثانية التي ستجرَى فى هذا الأسبوع فى 13 محافظة، من حيث الحرص على انضباط التصويت فى الانتخابات، ومتابعة الهيئة الوطنية للانتخابات، من خلال أجهزة الرصد المختلفة لها على الأرض، وأتمنى أن يمتد تأثيرها إلى نسب المشاركة من الناخبين.
والخلاصة؛ أن ما حدث فى نتائج المَرحلة الأولى بانتخابات مجلس النواب، ليس فقط انتصارًا لحق الناخب والمرشح فى هذه الانتخابات؛ وإنما تدخل لتصويب المسار، ورد الاعتبار لصوت الصندوق وتأثيره، حتى يأتى مُعبرًا بصدق عن إرادة شعبية، وتلك الغاية الأساسية من إقامة الاستحقاقات الانتخابية.
نقلاً عن مجلة روزاليوسف

















