أسامة سلامة
الأعمدة السبعة للشخصية المصرية
منذ افتتاح المتحف الكبير والنقاش يدور حول هوية مصر، انحاز البعض إلى الفرعونية واعتبروها الأصل وما تلاها دخيل على أهلها، وآخرون لا يرون إلا الهوية الإسلامية والعربية وما سبقها ليس له وجود، وفريق ثالث يشير إلى أن القبطية والمسيحية هى الهوية الأصلية باعتبار أن الأقباط هم الامتداد الطبيعى للفراعنة وأنها حافظوا على نقاء الجنس المصري،
هذا الجدل كان يمكن أن يكون صحيا ولو تم من خلال حوار راق، ولكن معظم من ناقشوا القضية تكلموا بحدة وانحياز مطلق إلى وجهة نظر محددة ومعينة، وتغافلوا أن مصر بها تراكم حضارات، حيث أثرت كل حضارة مرت بها فى الحضارات التي جاءت بعدها، وأنها استوعبت ثقافات متعددة ومزجت بينها وصهرتها فى بوتقة ونتج عنها هوية خاصة يندر أن تجد مثلها فى مجتمعات أخرى، ولعل أفضل تعبير عن ذلك ما كتبه الدكتور ميلاد حنا فى كتابه «الأعمدة السبعة للشخصية المصرية»،
«أن مصر لديها رقائق حضارية مختلفة ومتباينة ولكنها أيضًا مستمرة ومتصلة وهى التي كونت فى تتاليها الشخصية المصرية الحالية كما نعرفها»، ويرى الدكتور ميلاد أن الشخصية والهوية المصرية بنيت على سبعة أعمدة هى الفرعونية ثم اليونانية والرومانية وهما عمود واحد وثالثا المسيحية ورابعا الإسلام، أما الأعمدة الثلاثة الأخرى فقد جاءت من المكان والموقع الجغرافى وطبقا لذلك فإن العمود الخامس هو العربية لأن مصر تقع فى القلب بالنسبة للمتحدثين بالعربية، والعمود السادس هو البحر المتوسط بحكم الإطلالة التاريخية والجغرافية على هذا الحوض العتيد التي تكونت من حوله حضارات العالم، فشواطئنا تمتد عليه من السلوم ومرسى مطروح غربًا إلى العريش ورفح شرقا ما أتاح الاتصال بحضارات بلدانه على الشاطئ الآخر منه، وأما العمود السابع فهو أفريقيا التي نقع فى الشمال منها، ويفصل الدكتور ميلاد رؤيته ويقول عن الفرعونية «أن إحساس المصري بها يختلف من شخص لآخر ومن عهد إلى آخر، ففى عهود القهر والاحتلال والتخلف يُطمس الانتماء الفرعونى ويتم تصويره وكأنه نوع من الكفر لأن الفراعنة عبدوا آلهة رمزوا لها بحجارة وتماثيل وهو فهم ساذج للحضارة الفرعونية»، ولكن هذا الاتجاه لا يسود وتظل الفرعونية محل اعتزاز لدى غالبية المصريين باعتبارها أقدم حضارة معروفة فى العالم»،
وينتقل الدكتور ميلاد إلى العمود الثانى ويقول: «إن دخول اليونان ثم الرومان مصر كان سبيلا للامتزاج الحضارى، وأخذ اليونانيون والرومان عن المصريين علوم الفلك والعمارة وغيرهما، وأخذت مصر منهما فكر الفلسفة اليونانية، واستفاد المصريون من تعرفهم على الأبجدية الإغريقية فقاموا بإعادة كتابة اللغة المصرية القديمة بالحروف الإغريقية فكان أن ولدت لغة جديدة هى القبطية»، ويرى الدكتور ميلاد «أن الفرعونية ثم اليونانية والرومانية هى مراحل دخلت ذمة التاريخ والمتاحف ولكنها تركت بصمة مازالت موجودة حتى الآن على الشخصية المصرية»، ويشرح الدكتور ميلاد «أن العمود الثالث هو القبطية وخلاله قدمت مصر للعالم المسيحى حضارة وفكرا، ومن أهم معالمه صياغة قانون الإيمان المسيحى، والرهبنة»،
ويصف الدكتور ميلاد الكنيسة المصرية «بأنها مناضلة لم تنجح محاولات هرقل معها فى أن تنضوى تحته رغم استخدامه العنف، وبسبب تمسك المصريين بعقيدتهم دخلوا عصر العذاب الكبير، ما جعل الغضب يحتدم والسخط يزداد وكانت هذه الأحوال باعثا للمصريين على الترحيب بالعرب ويحدوهم الأمل أن يتمتعوا بحياة فيها راحة وطمأنينة وكان هذا بداية الانتقال إلى العمود الرابع» ويكشف الدكتور ميلاد أن «مصر لم تبد بلدًا ذا أغلبية إسلامية إلا فيما بين القرنين الثالث عشر والخامس عشر ما يعنى أن تعايش الديانتين استمر طويلا داخل آلاف العائلات ولقرون طويلة وهو ما أوجد الألفة التي نلمس استمرارها حتى الآن» ويرجع الدكتور ميلاد انتماء مصر العربى» إلى تواجدها فى محيط دول عربية ويقول «أيا ما كان سبب تحول المصريين إلى اللغة العربية فإنهم جميعا تقبلوها، وبرع الأقباط فيها وأتقنوها ولذلك عندما نقول مصر شعب واحد لا نكون مبالغين أو مفتعلين»،
ويشرح قائلاً: «أن القرون الأربعة التي استغرقتها اللغة العربية كى تصير اللغة السائدة سمحت للمصريين أن ينتقوا من لغتهم القديمة مفردات وتعبيرات تحمل مضامين تاريخية ووجدانية وطعموا بها اللغة الجديدة التي اكتسبوها، وهكذا زاوجوا بين اللغتين»، وعن انتماء مصر للبحر المتوسط يرى الدكتور ميلاد «أن العقل المصري منذ عصوره الأولى تأثر بالبحر المتوسط، وتبادل المصريون المنافع مع شعوبها، وكانت الحملة الفرنسية نقطة تحول فى زيادة الارتباط حيث كان لها تأثيرات ثقافية بعيدة المدى»، ويشير إلى أن «إرسال محمد على العديد من المصريين فى بعثات إلى أوروبا كمقدمة لنقل مصر من ظلمة العهود العثمانية إلى بداية عصر النهضة أوجد فيما بعد المناخ والفرصة لرفع شعار مصر للمصريين»، ويقول إن «البعض يتوهم أن هناك معركة بين من يؤثرون انتماء مصر إلى حضارات البحر المتوسط وبين من يرفضون أن يكون هناك انتماء آخر غير العربى لكننى أرى أن الانتماء المتوسطى متمم للانتماء العربى خاصة أن العديد من الدول العربية لها إطلالة على البحر الأبيض وتفاعلت مع حضاراته بدرجات متفاوتة» مشيرا إلى أنه «من غير الممكن أن ننكر التشابه فى العادات والتكوين النفسى بين أهالى المدن المطلة على هذا البحر»، أما عن الانتماء لأفريقيا فيراه الدكتور ميلاد هو انتماء جغرافى كما انه مهم لنا فى المستقبل»، ويعتقد الدكتور ميلاد أنه «رغم وجود هذه التركيبة فى كل منا ولكنها انتماءات وأعمدة ليست متساوية فى الطول والمتانة، وإن تقدير كل منا لهذه الأعمدة يختلف من إنسان إلى آخر حسب التركيبة الإنسانية والذاتية وهى تختلف مع الزمن ومن حقبة لأخرى».الكتاب ملىء بالأفكار والرؤى والمعلومات التي تعمق الفكرة وتجذرها، وأتمنى أن يتم تدريس مثل هذه الأفكار والدراسات والكتب لطلاب المراحل التعليمية المختلفة ووضعها فى المناهج حتى يعرف شبابنا تاريخهم وتفرد هويتهم ويومها لن نجد شابًا يقرأ القرآن داخل المتحف.
نقلاً عن مجلة روزاليوسف
















