ترميم مسجد سيدي مدين الأشموني.. بين خطورة المياه الجوفية وعودة الاهتمام بالتراث الإسلامي
على أطراف القاهرة القديمة، يقف مسجد سيدي مدين كأحد أقدم الشواهد الروحية، التي صمدت أمام تعاقب القرون، محتفظًا برائحته الصوفية وهدوئه الخاص، لكنه في السنوات الأخيرة بات يواجه واقعًا مختلفًا، بعدما طغت عليه حركة التوسع العمراني.
ومع إثارة مشكلة ما يعانيه المسجد، عاد مسجد سيدي مدين الأشموني إلى واجهة الاهتمام الرسمي بعد سنوات من المعاناة الصامتة، تحت وطأة المياه الجوفية وارتفاع منسوب الصرف الصحي بالمنطقة.
المسجد الذي يمثل أحد أهم معالم التصوف والعمارة الدينية في القاهرة التاريخية، بدا مؤخرًا بحاجة ملحّة إلى تدخل عاجل، وهو ما دفع وزارتي السياحة والآثار، والأوقاف إلى تشكيل لجنة مشتركة للنزول الميداني ومراجعة حالته وحالة العيون الأثرية المحيطة به.
وخلال الجولة التفقدية التي قامت بها اللجنة في شارع باب البحر، برزت مشكلات ملحة تهدد سلامة المسجد القابع أسفل مستوى الشارع، حيث كشفت المعاينة عن تسرب المياه إلى داخل حرمه وإلى العيون الأثرية المحيطة به، الأمر الذي فرض ضرورة البدء السريع في مشروع ترميم متكامل يعالج البنية الأساسية ويصون القيمة التاريخية للمكان.
وضمت اللجنة اللواء د. مهندس محمد نبيل عراقي مساعد وزير الأوقاف للشؤون الهندسية، والدكتور مهران عبد اللطيف رئيس حي باب الشعرية، والدكتور ضياء زهران رئيس قطاع الآثار الإسلامية والقبطية واليهودية، إلى جانب فريق من المختصين، بهدف وضع تصور فني وتنفيذي مشترك لإنقاذ المسجد قبل تفاقم الأضرار.
وبحسب ما انتهت إليه اللجنة، فإن حالة مسجد سيدي مدين ليست مجرد مسألة إنشائية، بل إن الأمر يرتبط بذاكرة معمارية وروحية تمتد لقرون طويلة.
فالخوند مخلد بنت القاضي ناصر الدين محمد – التي أمرت بإنشاء المسجد في عهد المؤيد شيخ – كانت إحدى أبرز الشخصيات النسائية في الدولة المملوكية، وارتبط المسجد منذ بدايته برعاية كبار رجال الدولة وعلية القوم، قبل أن يحتضن سيرة الشيخ مدين بن أحمد بن يونس الذي قَدِم من المغرب واستقر في أشمون بالمنوفية، ثم وفد إلى القاهرة ليستقر بحارة مدين حتى وفاته عام ٨٥١ هـ، حيث دُفن في زاويته الحالية داخل المسجد.
ومع مرور الزمن، ظل المسجد مركزًا روحيًّا يجذب المريدين والزائرين، ويرتبط بذاكرة سكان الحي الذين يعتبرونه جزءًا من هويتهم الدينية والوجدانية.
لكن التغيرات العمرانية وارتفاع منسوب الشارع وتدهور شبكة الصرف الصحي تسببت في تسرب المياه إلى أساساته الضاربة في القدم، مما جعل أجزاءً من أرضيته وجدرانه تحمل علامات الإجهاد والرطوبة، وهو ما اعتبره خبراء التراث تهديدًا قد يتطور سريعًا إذا لم تُتخذ التدابير اللازمة.
ومع إعلان الوزارتين البدء في تنفيذ مشروع ترميم متكامل وفق خطة زمنية محددة، عاد الأمل إلى الأهالي والمهتمين بالتراث في أن يستعيد المسجد رونقه القديم، وأن يجري رفع منسوب الحماية حوله ومعالجة العيون الأثرية التي طالها الضرر. المشروع المزمع تنفيذه لا يستهدف الإنقاذ العاجل فقط، بل يسعى إلى إعادة تأهيل المنطقة المحيطة بالمسجد بما يشمل تحسين صرف المياه ومراجعة بيئة الشارع، ليعود المكان مركزًا حيًا يعكس تاريخ القاهرة الإسلامية.
وتكشف هذه الخطوة عن إدراك متزايد لأهمية صون المساجد التاريخية والحقب المعمارية التي تمثلها، خاصة في المناطق الحيوية التي تزخر بقيم حضارية وروحية مثل باب الشعرية. فمسجد سيدي مدين ليس مجرد مبنى أثري، بل صفحة من تاريخ ديني واجتماعي يتداخل فيه التصوف الشعبي مع الدور المملوكي في رعاية المؤسسات الدينية، ومع الذاكرة الحية لأهل الحي الذين يتوارثون قصصه وسير أوليائه.
ومع بدء المشروع خلال الفترة المقبلة، ينتظر الجميع أن تتحول هذه الجهود إلى نموذج يُحتذى به في إنقاذ المساجد الأثرية المهددة بالإهمال، وأن يعود مسجد سيدي مدين الأشموني إلى مكانته التي يستحقها، شاهدًا على عصر ومعلّمًا على طريق روحي لا يزال ينبض في قلب القاهرة القديمة.



