الإثنين 22 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

رضا محمد عبد الرحيم يكتب : قراءة جديدة للحملة الفرنسية على مصر

رضا محمد عبد الرحيم
رضا محمد عبد الرحيم يكتب : قراءة جديدة للحملة الفرنسية على م

هذا الكتاب الحملة الفرنسية على الإسكندرية "كليبر ضد بونابرت"1798-1799م للأستاذ الدكتور\ عباس أبو غزالة -والكتاب باللغة الفرنسية-  يلقي أضواء جديدة على حدث هام وغير معروف في بداية الحملة الفرنسية على مصر (1798-1801)، إبان صعود نجم بونابرت متوجًا بأمجاد انتصاره في إيطاليا. وقد حاول بونابرت سائرًا على خطى الفاتح الأكبر الإسكندر، مؤسس المدينة، وخطى الامبراطور  يوليوس قيصر، حاول إعادة طموحاتهم في احتلاله الإسكندرية. وقد أراد بونابرت أن يجعل الإسكندرية مكان اختيار سياسته الرامية لتحديث مصر، نظرًا لأهمية موقع المدينة التي تصل إليها الإمدادات وما يلزم القوات من ذخائر حربية. وتمثل شخصية "نابليون"، الذي كان يدعى "بونابرت" في مصر، أسطورة بطل فرنسي ومغامر، وما زالت حروبه تدرَّس في الأكاديميات الحربية. كما أن كتاب "وصف مصر" يعد موسوعة لا مثيل لها، شارك في إعدادها علماء الحملة. فقد نجح "بونابرت" في أن يجذب -إلى جانب قوات الجيش- مائةً وسبعًا وستين عالمًا من مختلف العلوم والفنون والآداب، وكان ذلك حدثًا فريدًا في تاريخ الحروب.

حدود الدراسة:

بدأت الحملة في يوليو 1798م، وغادر الجيش الفرنسي مصر في 14 سبتمبر عام 1801م، وكانت مدة الحملة ثلاث سنوات وشهرين ونصف. فرضت الأحداث بالإسكندرية حدود الدراسة، واختار الكاتب  البداية أول يوليو 1798م، يوم وصول وإنزال جيوش الحملة قرب شاطئ العجمي في "شرم المرابط" في ميناء الإسكندرية بقيادة بونابرت، وحتى يوم 22 أغسطس 1799م، وهو اليوم الذي غادر فيه بونابرت سرًا، ليعود إلى فرنسا، تاركا قيادة الحملة لغريمه "كليبر".

ويعرض الكتاب للتنافس بين "بونابرت" و"كليبر" في إدارة الحملة، ويحلل المعارك العديدة التي خاضها الجيش الفرنسي، ومختلف أساليب الترغيب والترهيب التي استخدمها القادة الفرنسيون مع الشعب لإخضاعه. ونتابع الصراع داخل جيش الشرق بعد كارثة "أبي قير"، والتي فقدت فيها فرنسا قواتها البحرية، حيث عارض "كليبر" محاولة تجهيز القوات البحرية التي لم يكن يرى أملاً فيها.

مضمون الكتاب :

يبرز الكتاب جانبًا هامًا من مغامرة بونابرت الذي ورط فرنسا في حرب دون استعداد كامل، ودون أن يكون لها السيطرة على البحر المتوسط. ويتحمل بونابرت مسئولية فشل الحملة العسكرية، ومسئولية كارثة معركة "أبي قير" البحرية. وتؤيد الشهادات أن بونابرت قاد الحملة ليغيب عن فرنسا في انتظار الفرصة المناسبة ليعود إليها، والدليل على ذلك أنه غادر الإسكندرية سرًا بعد عام، ليصبح قنصلاً بعد انقلاب  ثمانية عشر (بريمير) على حكومة الإدارة فى فرنسا. وكان قد أصدر أمرًا بتعيين "كليبر" قائدًا لجيش الشرق من بعده، رغم أن الأخير كان يعارض سياسة القمع والترهيب، وينتقد طموحاته، وكان ضد الاحتلال طبقُا لمبادي الثورة الفرنسية، وثقافة التنوير.

موقف حكومة الإدارة :

في عام 1795م، أوضح "شارل ما جالون"، قنصل عام فرنسا بالقاهرة، أن غزو مصر سهل، وأن البلاد تمثل مزايا لا حصر لها. وكان رد "لا كروه" (La croix)، وزير الخارجية في ذلك الوقت، أن الفرصة لم تحن بعد، وأنه يجب الانتظار لتحقيق أي مشروع بشأن مصر. وبعد عامين وجدت حكومة الإدارة الوسيلة لإبعاد بونابرت الطموح، وقبول غزو مصر. قضى بونابرت أربعة أشهرٍ منذ عودته من حملة إيطاليا مكللا بالنصر، وكان مستعدًا لمغادرة باريس، وتعجل الاستعدادات للرحيل منتظرًا قرار مغادرة باريس.

الاستعدادات:ِ

اختيار بونابرت أهم القادة الذي وصفهم في مذكراته، وهم: الجنرال "كفاريلي"، والجنرال "كليبر"، والجنرال "مينو"، والجنرال "ديزيه" والجنرال "دو مرتان". أما عن "كفاريلي"، فهو محارب قدير متمرِّس، كان يتميز بمعرفة أساليب الإدارة العامة، وكان صديقًا وفّيًا، ومواطنًا مخلصًا. عمل "كفاريلي" مديرًا للجنة العلماء والفنانين التي رافقت الحملة، وكان غايةً في النشاط لدرجة لا ندرك ينقصه رجل أطلق عليه المصريون (أبو خشبة).

وأما "كليبر"، فقد كان أجمل قادة الجيش، وكان عمره خمسة وأربعين عامًا. خدم ثماني سنوات في جيش النمسا (ألمانيا)، وكان يتميز برجاحة العقل والشجاعة. كما كان محاربًا قديرًا بأعماله ومآثره، حتى أُطلق عليه: "إله الحرب، مارس".

كان لابد من عبور البحر المتوسط لهذا الجيش الكبير، الذي يضم ما يزيد على اثنين وثلاثين ألف محارب، وستمائة وثلاثين حصانًا، و مائة مدفع، بالإضافة إلى الأسلحة والمعدات، والتموين الذي يكفي هؤلاء مدة ثلاثة أشهر.

أضف إلى ذلك سجناء مالطة، و ثمانمائة سجين من أتراك مالطة، تم تحريرهم على يد الجيش الفرنسي لإعادتهم إلى وطنهم، وكانوا يخدمون على السفن الفرنسية.

أشرف بونابرت على الاستعدادات، وتم التجهيز في أسابيع قليلة. أبحرت القوات من خمسة مواني. أعد الأميرال "بروييس" الأسطول، وجمع السفن لهذه الحملة الجديدة. وقد أخرج سفنًا في حالة سيئة، مثل: (Le Guerrier et le Conquérant). وجعل تزاحم السفن المحملة بالفرق والمعدات في حالة خطرة لو لزم الأمر، أن تحارب، ولم تكن المعدات كافية، ولم يكن الأمر مطمئنًا تمامًا حسب شهادة الجنود، حيث شاهدوا الارتجال الذي كان سببًا في هزيمة الحملة الحربية، والبحرية خاصة.

سر خط سير الرحلة:

في مدة لا تتجاوز عدة أسابيع، أعد بونابرت الحملة التي لم يعلن عن مقصدها. وقد ظل اسم الجيش هو "جيش الحرب ضد الإنجليز". ولم يُكلف سكرتير الإدارة بكتابة أمر الرحيل، ولكن قام رئيس حكومة الإدارة بنفسه بذلك. احتفظ بونابرت ومديرو الإدارة بالسر، ولم تعلن الحكومة عن الحملة للرأي العام. وبذلك فقد كان القادة من الجنرالات وقادة السفن يجهلون الجهة التي تتوجه الحملة إليها.

وفي أبريل، كتب الأميرال قائد الأسطول إلى بونابرت، يطلب منه معرفة الاتجاه، استعدادًا لإجراءات الحظر الصحي، فقال: "لا بد أن يصلني كل شيء قبل أيام من الرحيل، ومن الضروري أن أعرف طبيعة الحملة لآخذ كل التدابير. ولا أحد يهمه الأمر أكثر مني حتى يحفظ السر، ويمكن أن احفظ السر دون مخاطرة". وطلب وزير الحربية نفسه إخفاء خط السير والاتجاه النهائي، واعتقد الكثيرون أن الحملة هدفها الهند الشرقية، وعبور خليج السويس، وعبور البحر الأحمر.

 ورغم كل الاحتياطات التي اتخذت لبقاء الحملة سرية، فقد وصل الخبر الإسكندرية في أوائل شهر مايو، واطمأن السكان الفرنسيون.

بونابرت أثناء الرحلة:

ويكتب (Bourienne) في مذكراته أن بونابرت كان يتمتع بقضاء الوقت بالحديث مع العالم "مونج" (Monge)، و"برتوليه" (Bertollet)، و"كفاريلي" (Caffarelli). وكان الحديث يدور حول الكيمياء والرياضيات والدين. وكان بونابرت يقضي معظم الوقت في حجرته على سير مزود بأربعة أرجل بها عجل متحرك، حتى لا يشعر بدوار البحر. بعد الاستيلاء على مالطه في سبعة أيام، والسير إلى "كاندي" سبعة أيام، وقضاء أربعة أيام أُخَرَ حتى ساحل إفريقيا، وبعد أحد عشر يومًا من الرحلة، وصل الأسطول أمام "برج المرابط"، على بعد عشرة كيلو مترات من الإسكندرية. وفي صباح أول يوليو اكتشف الجيش مدينة الإسكندرية.

الإنزال العاجل من السفن:

عندما علم بونابرت بوجود الإنجليز على مسافة قريبة، أصدر الأمر بإنزال الجيش عند المرابط، رغم أنه كان يريد دخول الدلتا عن طريق فرعي النيل في نفس وقت الاستيلاء على الإسكندرية.

كانت ظروف الإنزال صعبة للغاية، فسطح البحر منخفض وقليل العمق، ولتجنب سلسلة الصخور التي تبدو على سطح الماء، فقد كان من الضروري الرسو بعيدًا عن الشاطئ. وبقيت العمارة البحرية في عرض البحر لحماية إنزال القوات خوفًا من هجوم العدو. علاوة على ذلك فقد كانت الأمواج مرتفعة، والبحر هائجًا، والرياح عاصفة. ولم يكن هناك معرفة قياس الممرات بين الصخور.

حاول الأميرال "بروييس" إقناع بونابرت بعدم إنزال القوات في هذه الظروف الصعبة، ولكن القائد الأعلى لم يستجب، وخاطر بحياة رجاله:

"أميرال ... ليس أمامنا متسع من الوقت، يهبني الحظ ثلاثة أيام، إن لم نستغلها فسوف نهلك."

خشي بونابرت استعداد المدينة وضواحيها لمواجهة الفرنسيين، وكان الجيش في موقف حرج، وأعطى الأميرال الإشارة لركوب الزوارق والمراكب الكبيرة وقوارب الإنقاذ للنزول في جزيرة المرابط. وأبحرت العمارة أمام الإسكندرية على بعد ما يقرب من  عشرة كيلو مترات من الساحل (حوالي فرسخين اثنين). وتم إنزال القوات في الساعة الحادية عشر مساءً، وكان من الصعب إنزال الخيول، وتم اصطحابها عومًا من داخل الزوارق. ويقول ضابط المراسلات " نيلو سرجي"، أنه بعد  ثلاثة عشر يومًا من مغادرة ميناء طولون، وصل الأسطول إلى الإسكندرية في الثامنة صباحًا وشاهد مآذن المدينة.

المقاومة :

بدأت المقاومة عندما جاء ما يقرب من مائة من عرب البدو، وثلاثمائة من الفرسان لمهاجمة القوات عند مغادرتها السفن. وكان عربان قبيلة الهنادي وهم على خيولهم ينقضون على المتأخرين وكأنهم وحوش مرعبة. وفي الليل فاجأت فرقة فرسان من البدو طليعة من الجيش، وقتلت الكابتن "مورو". ويقال قطعوا رأسه، وعادوا بها ظافرين على شوارع الإسكندرية. وبمجرد الانتهاء من إنزال فرقته، تعرض "ديزيه" لهجمات البدو الذين جاءوا وعددهم ثلاثون، يحومون حوله، وقتلوا ثلاثة رجال، وأسروا بين خمسة أو ستة.

الهجوم على المدينة:

بدأ الهجوم على الإسكندرية بعد إنزال الفرق، وكانت المدينة على استعداد لرد الغزاة الفرنسيين بمجرد وصولهم، ولاحق الفرسان الأعراب الفرق عند مغادرتها السفن.

قاد بونابرت قواته نحو الإسكندرية، وتشكلت ثلاثة فرق مكونة خط الهجوم، كل فرقة اتجهت نحو المرتفعات التي تحيط مدينة الأعراب، وبالرغم من ذلك استطاعت مجموعة من البدو أن تدور حولهم وتهاجمهم من الخلف.

بدأت الفرق الثلاثة السير الساعة الثانية والنصف صباحًا، وكان الجو حارًا، والجنود يسيرون وسط رمال الصحراء الحارقة. واشتد العطش، وكتب ترومان في مذكراته: "تمنيت أن أعطي من عمري عشر سنوات من أجل كوب ماء". أما بونابرت فقد وجدوا له برتقالة جاء بها جندي من مالطة.

وصلت الفرق عند أسوار المدينة في التاسعة صباحًا يوم 2 يوليو، وبدأت الهجوم، وكان الجنرال "مينو" على الجناح الأيسر يمشي على طول البحر، ومعه ألفان وخمسمائة رجل، وفي الوسط الجنرال "كليبر"، ومعه ألف رجل. واتجه الجنرال "بون" بقواته المكونة من ألف وخمسمائة رجل إلى الجناح الأيمن نحو باب رشيد.

كان مع بونابرت خمسة آلاف جندي، ويسير على قدميه لأنه لم يكن قد أنزل من الخيول القادمة مع الحملة جوادًا واحدًا. واتجه إلى عمود السواري، وصعد على قاعدة عمود السواري لاستطلاع المدينة وإعداد الحملة، وأرسل بعض الضباط للكشف عن التحصينات في سور مدينة الأعراب قرب المدينة الجديدة، وكانت تبدو كل الشقوق القديمة وقد تم ترميمها.

في نفس الوقت أنتهى كل القادة رينيهوديزييه إنزال فرقهما من السفن في خليج المرابط واتجهوا إلى المدينة وترك الجيش المدفعية والخيل وبدأ الهجوم بدون هذه الأسلحة. 

الاستيلاء على الإسكندرية:

وصل الأسطول الفرنسي أمام الإسكندرية، وألقى بالمرسى القطاف. نزل بعض الفرنسيين يبحثون عن القنصل وأشخاص آخرين، وقرب الليل اتجهت السفن نحو قلعة العجمي، ونزل منها الجنود ومعداتهم. وفي اليوم التالي انتشر الفرنسيون كالجراد المنتشر حول المدينة، وهاجم السكندريون الفرنسيين، ولحق بهم من جاءوا من البحيرة مع الكاشف. وعندما خرج أهل الثغر ومن انضم إليهم من العربان مجتمعين وكاشف البحيرة، لم يستطيعوا ردعهم. 

والحقيقة غير ذلك لو رجعنا إلى شهادة "سوهيه" (Souhait) قائد المهندسين: "خرجنا من المدينة لنتجنب إسالة الدماء دون جدوى".

وصل الجيش عند أسوار المدينة، وتعرض لمدافع الأتراك، والطوب الذي يلقيه الأعراب من فوق أسطح المنازل، ومن داخل البيوت. وكان السكان يطلقون عدة بنادق أوقعت 150 رجلاً من بين الفرق الثلاث. وتعرضت كل من فرق "كليبر" و"مينو" لإصابات كبيرة، وجرح الجنرال "مينو" والجنرال "كليبر" من الطلقات التي خرجت من الأسوار والمنازل. وكان يمكن تجنب هذه الخسائر لو تم إنذار المدينة، ولكن أراد بونابرت أن يفاجئ السكان ويثير الرعب بينهم. والمدافعون الأتراك الذين أطلقوا النيران من النوافذ تم مطاردتهم، واختفى البعض في القلاع، والبعض الآخر في المساجد، وتم القضاء على الرجال والنساء وكبار السن، وانهى الجنود الفرنسيون المذبحة بعد أربع ساعات من الهجوم على المدينة. وقد دافع السكندريون بعناد، وكان السكان حول الأسوار يطلقون النيران بشدة، ولكن عندما وصل الفرنسيون أمام الأسوار، وبدلاً من إطلاق النيران، ألقوا عليهم بوابل من الحجارة. 

 وعندما استطاع الفرنسيون تسلق الأسوار، اضطر للهرب من كان وراء الأسوار، أما الذين كانوا في الأبراج - بالرغم من هرب الآخرين- لم يتوقفوا عن تفريغ بقية أسلحتهم على الفرنسيين. وتمت السيطرة على أحد أسوار المدينة، ودخل جزء من الفرق المدينة الجديدة، وجزء آخر إلى القلعة (الفنار)،  والمنارة (السلسلة)، حيث لجأ جزء من قوات الجيش بالإسكندرية. 

    ويصف القائد الفرنسي سانسون: "كان الشعب يحارب يائسًا وبكل حمية، ولم يكن يعرف نوايانا ومبادئنا". وهذا يدل على خداع الجنود الذين جاءوا مع بونابرت باسم التنوير، وحماية الشعب المصري من بطش المماليك. واتجه بونابرت إلى قمة تسيطر على المدينة والميناء، ليجمع الجيش، ولكن جسارة الشعب وعناده أثار حمية القوات الفرنسية، وحدث تراشق بالرصاص".

كتب بونابرت لحكومة الإدارة: "كان كل منزل قلعة"، وأضاف في تقريره: "أثناء السيطرة على القلاع، جاء عرب الصحراء من الخلف ليهاجموا المتأخرين من الرفاق، ولم يكفوا عن مطاردتنا طوال يومين". وبعد رد العدوان، أسرع السكان بإخفاء المؤن عن العدو الفرنسي، مما سبب ندرة الأغذية والمجاعة. ولكن بعد عقد الصلح مع أعيان البلد، عادت الخيرات التي تزخر بها البلاد في متناول الفرنسيين، من فراخ وأوز وحمام، وبقر وحيوانات مما تنتجه البلاد بوفرة.  

ومن الطرائف نذكر ما سجله القائد "برتران"، الذي شارك في كتابة مذكرات بونابرت في سانت هيلين: "أثناء الهجوم اختار بونابرت مكانًا مرتفعًا "المرصد" (L’observation)، والذي أطلق عليه قلعة كفريللي (كوم الناضورة). وبفضولٍ توجه الجنرال برتران متشوقًا ليعرف عن قرب القائد بونابرت، الذي يتحدث العالم عن انتصاراته، والذي ترك أثرًا في مخيلة الناس. صعد برتران بسرعة لاهثًا لرؤية الجنرال الشهير فوجده جالسًا على الأرض وقد أدار ظهره لهجوم القوات على الإسكندرية، ووجده يضرب بكرباج بقايا حجر من الخزف الذي شكل المرتفع، والمتوفر في الإسكندرية والقاهرة وقرى مصر. وعندما جاءه ضابط من طرف الجنرال "مورا" يخبره أن الناس قد لجأوا إلى قلعة الفنار، طلب منه أن يحضر الشيوخ وأعيان البلد لعقد الصلح".

اتفاقية الصلح :

 في الرابع من يوليو، أرسل السكندريون مندوبين لتوقيع السلام، ودارت المباحثات حول تطبيق قانون أهل البلد ومؤسساته الدينية، وتطبيق العدالة، وأن يعمل المندوبون لخير البلد وسعادة السكان، والقضاء على المماليك الأشرار، وعدم خيانة الجيش الفرنسي والإضرار بمصالحه، والاشتراك في تدبير المؤامرات ضده.

ومن جانبه أكد لهم بونابرت أن سوف يمنع الجنود الفرنسيين من الاعتداء على السكان والإضرار بمصالحهم، وعدم فرض الضرائب والتنكيد والسلب والتهديد، وأن المخالف سوف ينال أشد العقاب. وبناء عليه جاء وفد من فرسان البدو، وقدم أربعين أسيرًا، وأكرهم بونابرت بالهدايا، ولكن عندما خرجوا هاجمتم فرقة، وقتلت أربعة منهم لأن اتفاقية الصلح لم تصل لهم.

وقد أثار إعلان بونابرت ليطمئن أهل البلاد، من جانب، ضحك الجنود الذين رأوا بونابرت يتقمص دور الرسول. ومن جانب آخر، لم ينخدع البدو بوعود بونابرت، ولم تفتهم الفرصة للرد بكل ذكاء على ما ادعاه: "تقولون أنكم جئتم لحمايتنا والقضاء على المماليك، وتنزلون بقواتكم سرًا، وتطلقون النار علينا".

وهكذا نرى أن أهل الإسكندرية لم تخدعهم وعود بونابرت، وسوف تستمر المقاومة بقيادة محمد كريم شريف الإسكندرية. كان محمد كريم شريف الإسكندرية أكبر حاكم في الإسكندرية عند مجيء الفرنسيين، وكان يتولى أمر إدارة الجمارك، وبعد الاستيلاء على المدينة أراد بونابرت مشاركة أهل البلد في الحكم، وجمع المشايخ من قبائل الهنادي، وأولاد علي، وبني يوسف، وأعيان المدينة، وطارحهم في إصلاح حال البلاد، وطلب منهم أن يكونوا موالين للجمهورية الفرنسية، وتعهدوا بأن يجعلوا الطريق من الإسكندرية إلى دمنهور آمنًا، ويوردوا احتياجات الجيش من الخيل والجمال، وأن يطلقوا سراح الأسرى الفرنسيين الذين قبضوا عليهم عند الاستيلاء على الإسكندرية.

وفي إطار هذا الصلح اختار محمد كريم لما أبدى من شجاعة في القتال ضد الفرنسيين، وعينه حاكمًا على أحد الدوائر تحت إدارة كليبر، وسمح له - لو تطلب الأمر- أن يتصل به مباشرة، وقال له:  "لقد أخذت والسلاح في يدك، وكان لي أن أعاملك معاملة الأسير، ولكنك استبسلت في الدفاع، والشجاعة متلازمة مع الشرف. لذلك أعيد إليك سلاحك، وآمل أن تبدي للجمهورية الفرنسية من الإخلاص ما كنت تبديه لحكومة سيئة".

بعد الاستيلاء على الإسكندرية، اتخذ بونابرت التدابير لسير الجيش إلى القاهرة، وغادر الإسكندرية في السابع من يوليو ليلحق بالقوات بعد أن أصدر الأمر بتعيين الجنرال كليبر الذي جرح أثناء الهجوم قائدًا لإقليم الإسكندرية وضواحيها.

هروب بونابرت :

فكر بونابرت في مغادرة مصر والعودة إلى فرنسا عندما كتب لأخيه جوزيف في 25 يوليو أن يشتري له منزلاً، وأن يقف جانبه لظروفه النفسية، حيث علم بخيانة جوزفين. وحالت هزيمة معركة أبي قير البحرية دون سفره، وأصبح سجينًا بمصر، فلا يستطيع العودة غير منتصر. وكان انتصار معركة أبي قير البرية على الأتراك بعد عام فرصة للعودة، خاصة أن الجيوش الفرنسية انهزمت في أوروبا من روسيا والنمسا. وقال لم يخب ظني، فقد البؤساء إيطاليا، كل نتائج انتصارات الجيش ضاعت، لا بد أن أرحل".

ورأي أن مهمته انتهت في مصر، ومصر أصبحت موضوعًا ثانويًا، واعتقد أنه أهل لرئاسة الجمهورية الفرنسية. في باريس كان الناس يطالبون بعودة المنتصر في إيطاليا، وكأن الحملة على مصر لا تعنيهم.

جمع بونابرت رحالة وطلب من الأميرال إعداد السفن والمؤنة لسفر أربعمائة أو خمسمائة شخص.

كان بونابرت يتمتع بكل السلطات، واختار رجاله، وطلب منهم كتمان السر حتى لا يعرف الإنجليز. ولم ينتظر كليبر الذي كان على موعد معه، ربما كان يخشى أن يسبب له بعض المشاكل لأنه كان يرى فيه منافسًا قديرًا، والدليل أنه عينه قائدًا لجيش الشرق ليحل محله، وكلف الجنرال "مينو" بمهمة تسليمه أوراق تعيينه، وطلب منه أن  ينتظر ثمانية وأربعين ساعة حتى يغادر الإسكندرية.

وحسب شهادة "نيقولا ترك"، أعد بونابرت صناديق محملة بالجواهر والأسلحة الفاخرة والأقمشة، وما اكتسبه في الحروب، وأخذ معه بعض شباب المماليك. وقال أن بونابرت طار مثل العصفور من قفصه بذكاء لتجنب الإنجليز.

ترك مرسوم 22 يونيو 1798م، ليذكر كليبر بأهمية السياسة الداخلية في مصر، وأن يقضي على الخلافات بسبب الدين، وأن يحاول إخماد التعصب إلى أن ننتزع جذوره.

وكان اتفاق العريش، ولكن أراد الإنجليز إزال الجيش الفرنسي كأسرى، وبشجاعة المحارب انتصر عليهم في موقعة هليوبوليس "عين شمس". وكان يرى أن الحملة لم تكن سياسية ولا هدف لها، وما جاء الفرنسيون إلا لمحاربة الإنجليز وممتلكاتهم في الهند، وفرض السلام.

إعدام محمد كريم :

في البداية قام كريم بأداء واجبه، وأظهر تعاونًا مع كليبر، ولكن كليبر اكتشف أنه وراء المؤامرات والشائعات وإثارة البلبلة، ووقعت عدة أحداث، وأدرك كليبر دور كريم في قيادة المقاومة ضد الفرنسيين. منها الاعتداء على جندي مدفعية، وقتل جندي آخر غرقًا. وطلب كليبر من المشايخ تسليم المتهم، وأخذ بعض أبناء أعيان الإسكندرية كرهائن، وكان أخو كريم من بينهم.

وفي حادثة أخرى تعرضت القوات المتحركة المتجهة إلى دمنهور لهجوم الأعراب، واتضح أن كريم يقود هذه الاضطرابات. ونجد في مراسلات كليبر تفاصيل لمواقف ضد الفرنسيين، واتخذ كليبر قراره بإبعاد كريم عن الإسكندرية، ولكنه كان يحترم قرار بونابرت الذي وثق فيه وعينه لمساعدته.

وكتب كليبر رسالة إلى كريم ما معناه أإن الأمور لا يمكن أن تدار بازدواج الرئاسة، وطلب منه أن يلحق بالقائد الأعلى بونابرت الذي كان يريد الاقتراب منه. وأرسله على سفينة إلى أبي قير لاحتجازه في البارجة لوريان، وأوصى الأميرال "بروييس" بحسن معاملته، وإرساله الأميرال إلى رشيد، وبمجرد وصوله هناك قامت انتفاضة أهل المدينة ترحب بكريم، فاضطر "مينو" لسجنه وترحليه إلى القاهرة.  وقد كتب كليبر إلى بونابرت يؤكد له أن الإسكندرية آمنة، ولا توجد اضطرابات، والحياة مستقرة  منذ غياب كريم.

وتم التحقيق مع كريم، وأصدر نابليون أمره في -5 سبتمبر 1798م- بإعدام كريم رميًا بالرصاص، ومصادرة أمواله وأملاكه، وسمح له أن يفتدي نفسه بدفع غرامة 30 ألف ريال في خلال 24 ساعة. وهنا تعددت الروايات، وهل رفض دفع مبلغ الفدية وأظهر جلدًا وشجاعة أمام حكم الإعدام.

ويقال أن كبير مترجمي بونابرت، وهو المستشرق (Venture)، نصحه بدفع الغرامة، وقال له: إنك رجل غني، فماذا يضرك أن تفتدي نفسك من الموت بهذا المبلغ، فأجابه محمد كريم: بأنه إذا كان مقدورًا له أن يموت فلن يعصمه من الموت أن يدفع هذا المبلغ، وإن كان مقدورًا له الحياة فعلام يدفع هذا المبلغ. وظل على إصراره إلى أن نفذ عليه الحكم رميًا بالرصاص في ميدان الرميلة بالقاهرة يوم 6 سبتمبر 1798م.

ويصف الجبرتي مشهد تنفيذ الإعدام:

"فلما كان قرب الظهر، وقد انقضى الأجل، أركبوه حمارًا، واحتاط به عدة من العسكر وبأيديهم السيوف المسلولة، ويقدمهم طبل يضربون عليه، وشقوا به حي الصليبة، إلى أن ذهبوا إلى الرميلة، وكتفوه وربطوه مشوحًا، وضربوا عليه بالبنادق كعادتهم فيمن  يلقي أضواء جديدة على حدث هام وغير معروف في بداية الحملة الفرنسية على مصر (1798-1801)، إبان صعود نجم بونابرت متوجًا بأمجاد انتصاره في إيطاليا. يقتلونه، ثم قطعوا رأسه ورفعوها على نبوت، وطافوا بها بجهات الرميلة، والمنادي يقول:

 هذا جزاء من يخالف الفرنسيس. ثم إن أتباعه أخذوا رأسه ودفنوه مع جثته، وانقضى أمره، وذلك يوم الخميس خامس عشر ربيع الأول".

تم نسخ الرابط