الأحد 21 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

عطش السؤال ودهشة البحر!

عطش السؤال ودهشة
عطش السؤال ودهشة البحر!
كتبت - د. عزة بدر

(قراءة فى أعمال اعتدال عثمان القصصية)

 
"قلت: فى الإبرة ثقب، وبين القلم وما يسطر ثقب، فاعطنى ضيق العبارة!" بهذه الكلمات ينفتح لنا العالم الإبداعى للكاتبة المبدعة اعتدال عثمان... ، فإذا كنا نعلم أنه "إذا ضاقت العبارة اتسعت الرؤية" أمكننا بالفعل أن نتأمل عوالم كتاباتها التى تأتنس بلغة متأنقة مرهفة لكنها فى عين الوقت تعبِّر بكثافة عن روح شخصياتها فلا تجافيهم، بل تبدو ممهدة للتعبير عن أدق خلجاتهم من خلال تنوع لغة السرد بين وصف الساردة المرهف الحافل بالتفاصيل والذى يبدو عليما فى بعض الأحيان، ومكتشفاً فى أحيان أخرى حسب مقتضيات فنها الذى يشبه منمنمات ومشغولات كتابية مموهة بالظلال، وبالغموض، وفسيفساء قلمية منمقة غائرة الحفر فى وجدان قارئها.

فى عالمها السردى يتجاور سحر الشعر، ومقتطفات غنائية من شدو صداح، وألغاز مغوية، ومفارقات تتبارى فى الإفصاح عن جوانب متعددة للحقيقة. تتبدى فى عيون أبطالها دهشة، ورغبة فى الكشف، وروح طامحة للتمرد، وبذر بذور السؤال فهى مثلاً فى قصتها التى تشبه مقطوعة نثرية شاعرية عنوانها "وقفت فى ثقب والدنيا براح" تقول: "جعلنا بينك وبين القلم وما يسطر حجاب، وفى الحجاب ثقب ينفذ منه ماء ونار، ويؤتى شراب المر، وثمر الحنظل، وهى زادك فى الرحيل، وحضورك فى الغياب، وغيابك فى الحضور، وتركنى فى سواد بهيم، وفى السواد البهيم شربت مُر الراح ولا ارتياح وطعمت خبز الحنظل وكأنه خواء فى الحشا، والبحر نار على نار".

ولم يعد أمام الساردة أمام مشقة الرحلة ومُر الزاد سوى أن تقول لنا: "فى الإبرة ثقب، وبين القلم وما يسطر ثقب فاعطنى ضيق العبارة، وإذا بالعبارة تضيق وتنقبض أنفاسى، وشعرة الروح تنسل فى ثقب الحجاب وتنفذ، وإذا بالدنيا براح والقلم ينفلت فى سماء الورق" ص35 ، ص 36.

فى الدنيا البراح التى تنفذ إليها اعتدال عثمان من ثقب إبرة، وهى تفتل العبارة وتُضيقها فتطوق أعناق مشاهدها القصصية، وتُحزِّم بها أبطالها ساعة الفرح، أنشوطات تصطاد بها فى يُسر عُقدة شخصياتها فتحلها أمامنا كرّبانٍ يعرف كيف يُبحر فى عرض البحر، ويُجدف غير هياب بلغة منحوتة، مرسومة، مرقومة حينا بالركام والحرير الهفهاف، وتبدو فى كثير من الأحيان كأخاديد فى لحم الحى، وأكباد اكتوت بالهوى والعشق وتردت فى مهاوى الرغبة العارمة، والشهوة المعجونة بالحياة وبريتها.

وتتبدى أيقوناتها القصصية فى بعض قصص مجموعتها "يونس البحر" وتترصع هذه الأيقونات بعقيق أحمر لكتابة فَياَّضة بسحر الوصف، والتوق إلى النفاذ إلى أعماق الشخصيات، والتوغل تحت الجلد، وبين أعطاف الثنايا، وتحت طيات خفقات القلوب فيصبح مثلاً "يونس البحر" رمزاً للحياة بعرامتها، وطزاجة الرغبة فيها بما يمنحه لنسائه من عطايا يعرفهن بها، يخضعهن لرغبة الحياة فيه، ويستخرج من قلوبهن الخفقات المخفية، والدقات التى لا تنبض إلا له، تتقد أجسادهن برغبات مكتومة، مقبورة، يخرجها من مكامنها كما يُخرج السمكات فى شبكاته، فيتقدن معه برغاب إنسانية لم يحققنها من قبل ولا من بعد، فيصبح هو القمر الذى تكتمل به أمسيات الوحدة، والخصب الذى تفيض به قنانى الحليب، وأوانى القشدة، وأعسال الشهوة مبرأة من خطاياها كأن الوجود بعد لم يعرف قيوداً ولا كوابح ولا عذابات.

"وأنت يا يونس فى كل مكان، تظهر دائماً خفيفا مُسرعا، لا يوافقك غير امرأة تلبس "قمطة" ليمونية يبرق فى ثناياها ترتر فضى، لا يعلم أحد من أين تأتى بها كلها على شاكله واحدة" ص 66.

يعرف "يونس" فرائسه، ونسائه اللواتى يختارهن بدائيات بلا صنعة، طبيعيات بلا كُلفة، نساء من قماقم ألف ليلة وليلة، حجبتهن القماقم، وشرائط الرصاص الملتفة حولها فخرجن على شاطئ البحر ليلاقينه بعد فك أسرهن بأذرع مفتوحة يُخدشها الخجل حينا، وترجرجها الرهبة، وتؤججها المخاوف، مقاومات تنهار أمام سطوة الحياة الحافلة التى تحملها أصابعه، وهمساته، ورغباته المتجددة التى لا تفنى فيتحول يونس البحر إلى رمز للحياة التى يمنحها فى ضوء القمر لامرأة لم ترتد "قمطة" ليمونى، بل تشغلها القراءة والكتابة عن جسدها الذى أصبح وردة مخلدة بين طيات كتاب فجاء "يونس" لينفخ فيها العطر، ويندى أوراقها الذابلة وفى مشهد دالٍ تقص الكاتبة : "لم تكن قد تجرأت يا يونس ووجهت إليها الحديث من قبل، اعتادت هى وجودك الصامت، وقيامك بتوافه الأعمال وإسراعك المتفانى النشط لتلبية أدنى إشارة تصدر عنها ثم تعود إلى وجودك الصامت كحائط أو كقطعة أثاث، لوهلة انتابتها أريحية مباغتة "كده أمر الله" قالتها دون اهتمام ظاهر لكن عينيك التقطتا زوابع أسى دفين هاجع فى الأعماق، حركته كلماتك من مستقره فاجتاح الوجه دون أن تتمكن هى للحظات من الإمساك به، كانت تقف فى وجه الريح مستسلمة للعاصفة، وأى ضرر فى أن تكون على سجيتها فى حجرتها شبه الخالية، راقبتها أنت بحذر مُقدرا عواقب الخطوة التالية، وفى اللحظة التى بدا فيها انحسار العاصفة جرحت السكون بنبرة صوتك القديم المشروخ: "بيقولوا يا ست أن الواحدة إذا طلعت للقمر ليلة تمامه، وخبطت لا مؤاخذة على صدرها تجيب الخلفة على طول"، التفتت رأسها ناحيتك فى عنف ، وبعينيها غضب مُهان كأنها اكتشفت تلصصك على عريها فى الليلة القمرية، وجذعها ينتصب على حافة الكرسى وهى تهم بالقيام لطردك أو لقذفك بما تناله يدها، كان وجهك فى مواجهتها تماما يعكس دهشة طفل لا يعرف أنه أذنب، هدأ توترها وعادت إلى استرخائها "دى خرافات" ، قالتها بسرعة وغيظ، وبشئ من الندم لانسياقها فى الحديث منذ البداية" ص 67 ، ص 68.

لكنه يونس البحر الذى عشق الغندورة ومنحها حلم الخصب فى ليلة مقمرة رغما عنها، وخرج مطرودا دون جلبة بعد أن انغرست قطعة من لحم خده بين أسنان الغندورة التى ظل يعشقها ويبكى عليها كل طلعة قمر! ثم تحول غياب يونس إلى حضور! بعد أن باحت إحداهن بالسر "سونة" ابن الغندورة ليس ابن زوجها "فج النور" بل ابن القمر!.. فسرت فى القرية أساطير وحكايات..

"فج النور قتل يونس ورمى جثته فى البحر الكبير" ، "يونس حملته مركب إلى بلاد الله الواسعة" ، "يونس أخذته جنية من بنات البحر وهو الآن يعاشرها وينجب منها فى كل طلعة قمر عروسا ما رأت جمالها عين ولا سمعت به أذن"، "يونس بلعه الحوت مثل سميه النبى وهو الآن فى بطن الحوت يأكل ويشرب ويسبح بحمد الله الذى نجاه، يونس لا بد يوما أن يعود، وكل آت بميعاد".

ومن هنا تتوالد الحكايات فى سرد الكاتبة فتولد من القصة الأولى الرئيسية حكايات واحتمالات حكائيه أخرى وهو تكنيك يتكرر فى قصصها، وكما يظهر جلياً أيضا فى قصتها: "السلطانة" من مجموعتها القصصية "وشم الشمس" فالعمة "سلطانة" لا عمر لها ولا حساب عندها للزمن، و"إنما طلعنا نحن لنجدها عمة لنا جميعا، وهكذا كانت لصبيان من قبلنا وبنات، لا تتبدل ولا تتغير، ولا تخلف عادة لها، ولا تنفد حكاياتها كل مساء، العمة سلطانة مقطوعة من شجرة، لا زوج ولا ولد، ولا يعرف أحد نسبا صريحا لها، لم يكن هناك غير صورة مؤطرة ببرواز مذهب كالح اللون، معلقة على جدار المندرة والصورة لشيخ مُسن، بهتت ملامحه من كثرة ما حدقنا، وما طرحنا عليها السؤال بغير جواب، يقول ناس البلدة: أنه من محارمها وقد أتى بها من البندر، فاراً من أهله أو من ثأر قديم، وهى فلقة قمر فى بواكير الصبا" ص115 وتلك هى الحكاية الأولى وتتبعها حكايات أخرى تتوالد .

"يقول آخرون: إنه زوجها وكان فى عمر أبيها، وأنه لم يقربها ، وإنما كان يجالسها ويقص عليها أخبار السلف والخلف، ويعلمها فنون الشعر والأدب، وأنها تحفظ عشرة آلاف بيت من الشعر العويص المجهول، وتعرف سيرة أبى زيد الهلالى وذات الهمة، وعنترة وحمزة العرب" ص 115

ثم تتطور حكايات السرد لتخلص إلى أعماق حكاية أكبر، وتفسيرات للحكى ذات دلالة تخرج فيها الكاتبة من حال الشخوص الخاصة إلى العام، من الحكايات الغامضة للعمة "سلطانة" ولرجلها المختفى إلى حكايات بطولات مهدت لها الكاتبة بقولها "سلطانة تعرف سيرة أبى زيد الهلالى وذات الهمة، وعنترة وحمزة العرب" وتقول:

ومن قال: "الرجل من صلب أحد أكابر البلد ممن شاركوا فى هوجة عرابى، وأنه بعد موت والده اختفى فى الريف هربا من ملاحقة الخديوى والإنجليز".

ومن زاد فقال: "هو ابن الأمير آلاى محمد عبيد بطل واقعة قصر النيل، وقائد الآلاى السودانى الذى استبسل واستشهد فى التل الكبير، ولما تقلبت النفوس على العُرابيين عادت به أمه إلى بيت العائلة فى البندر إلا أنه اختلف فى كهولته مع أولاد أخواله على الميراث فنزح إلى البلدة ومعه سلطانة ابنته أو ربيبته لتقوم على شئونه وذهب أحد من العارفين ببواطن الأمور إلى أن الرجل كان زميلا لسعد باشا زغلول فى مدرسته الحقانية وكان من خلصائه المقربين لسنوات عدة، لكن حدثت بينهما جفوة حين تجاهل سعد باشا الاتصال بمحمد فريد أثناء وجود الوفد بباريس فى منتصف عام 1919 ، وأن الرجل كان أول المساهمين فى نقل جثمان محمد فريد إلى أرض الوطن بل إن هناك من يؤكد أن الرجل الذى هبط على البلدة، وسأل عن مجلس الشيخ قبل وفاته ببضعة شهور، وحسبه الناس جاء خطيبا لسلطانة ليس سوى جمال عبدالناصر، وأن الشيخ قام وقٌبلـِّه بين كتفيه وكان ذلك قبل قيام الثورة فلم يعرفه أحد" ص 115، ص 116.

وهنا نستطيع أن نقول: "إذا ضاقت العبارة انثالت الرؤية"، فها هو السرد يفتح أفاقا أخرى، ويطرح أسئلة أخرى تتجاوز الخاص إلى العام، ثم تعود بنا من ملامسة حكايات الواقع إلى ممالك الخيال لتبذر بذور حكاية أخرى عندما تعود العمة سلطانة لتحكى حكاية جديدة (من حكايات الطفولة التى تسردها الساردة عندما تكبر)، فتقص من تراث "سلطانة" الحكائى (حكاية جوهرة) التى كانت فى الأصل دمعة امرأة مظلومة، من مد إليها يدا وكان ظالما فرت منه، قالوا: إذا كان صادقا وصل، قالوا: من يمسكها يصبح ملكا على الملوك".

فلما شاع الخبر ودخل فى القلوب الطمع، توافد الأغراب على البلد، ومرادهم امتلاك الكنز المسحور، وعندما ظهرت لفتى من أهل البلد على صورة حبيبة، وقع فى حبها، وأمسكها ولم يرخها حتى دخل بها بيت قلبه فتزوجها وصار ملكا حكم بين الناس بالعدل، لكن حدث أن الملك كان يحب حكائى الأحلام، وكان يعقد ديوانه من الصبح إلى العشاء، ويأتى إليه الناس من كل صوب فيقص الواحد منهم حلمه من أول نومه فإذا أعجب الحلم الملك نال صاحبه الحظوة وأصبح من أهل المشورة والكلمة المسموعة، وإذا أغضب الحلم الملك بعث بصاحبه إلى جبل قاف! حيث يسكن سارقو الأحلام، ويظل الرجل ممنوعا من النوم لشهور أو لأعوام فيجن ويهذى، وعندئذ يدفع به إلى السياف فيقطع لسانه!. ص 119

فخاف الناس من الكلام ومن الأحلام، وأحجم الناس عن الذهاب إلى الديوان، ويتفاقم ظلم الملك الذى ينظر فى المرآة فلا يرى صورته فيأمر بإلغاء المرايا، ويأمر بتشديد الرقابة فيصبح كل واحد رقيبا على حلمه فينم عن نفسه إذا تبادرت إليه نأمة فى تهويمة أو منام"، وبتوالد الحكايات عن سلطانة، ومن سلطانة الماضى، والحاضر تتولد دراما جديدة تعطى أبعادا جديدا للسرد الذى خرج من دائرة ذكريات الطفولة مع العمة سلطانة إلى أسئلة حول الحاكم وأحلام الناس، عن السلطة وعن ما تؤول إليه أحوال الناس فى ظل سلطة قاهرة وتعود الساردة إلى (جوهرة) التى اختفت من يد الحاكم الظالم لتفر، وتجلس بين يدى سلطان الأحلام، ومن حولها ناسه وأهل بلاده.

وتفتح العمة "سلطانة" آفاق الحكاية فلا تختتم حكاية (جوهرة) تتركها مفتوحة، أو ذات نهاية مفتوحة تنتهى بسؤال: "ماذا فعلت جوهرة"؟!

وماذا فعل الملك الظالم الذى ضاعت منه الجوهرة؟! وماذا فعل أهل القصر؟

لم يبق سوى تمثال شمعى على صورة جوهرة من رآه ظنها هى!... ثم تتحول الساردة التى قصت علينا حكايات طفولتها مع العمة "سلطانة" إلى حاضرها عندما كبرت وأصبحت هى الأخرى حكاءة من نوع جديد، صحفية تكتب على الأوراق ما تلتمسه من أبعاد الحقيقة: "الأفكار تتلاحق وتتشكل أمامى على الورق، كلمات وعبارات ضخمة ذات طنين بغير صدى، بدت كفقاقيع صابونية هائلة، من صنف مادة ما يخرج من مداد الأقلام كل صباح وينفثئ على أوراق الصحف وكنت على وشك الانتهاء، وإذا بى أتوقف مرة واحدة وأمزق ما كتبت، ومدير التحرير ينظر إلىّ فى حيرة وارتباك، كوب الشاى معلقة فى يده، لا يدرى هل يتراجع بها إلى فمه الفاغر فيداريه بالسكات أم يتقدم بها إلى حافة المكتب وخطر السؤال".

وتأتى خاتمة القصة برياح عنيفة متعاكسة الاتجاهات تهب فى الخارج وتندفع من النافذة المفتوحة لتبقى ذكرى عمة سلطانة ماثلة فى وجدان بطلة القصة إذ تقول : "تتطاير مزق الأوراق فى وجه مدير التحرير، وأنا أملأ صدرى بالهواء فأحس بريح أليفة ولسان حالى يقول بصوت مسموع: عمة سلطانة... ألف رحمة ونور" ص 123

وشم الشمس

وتأتى قصة "وشم الشمس" لتتوج بلغتها الآسرة منمنمات قصصية أخرى تحت عنوان: "مرج البحرين" وهى "الزمرد تمرد"، و"موقف الصمت بين الصدى والصوت"، و "بحر لا تحتضنه السواحل" و"وشم الشمس" وهى القصة التى تضربُ على سر السر! فهى تستخدم لغة شاعرة مفعمة بالحيوية فتشف ولا تصف رغبات إنسانية عارمة، وأشواق مبهمة للحب والوصال من خلال رقصة شاب وشابة فى ساحة الفنا وهنا تلعب اللغة دورها فى رسم المشاهد والشخصيات إذ تقول الكاتبة: "تدق طبول إفريقية شمالية، ويعزف الوتر البربرى فإذا قرع السائل بسؤاله خزائن الصدور انفتحت أبوابها، وانطلقت ألسنة الفتية القارعين بالنداء، تجيبه تلبية الصبايا البدويات البربريات: "واضرب على سر سر السر قفل حجى".

تهتز الصدور الصبية دلالا وتدلها ودعوة، ترتعش حبات عقود الكهرمان الزعفران الذائب فى كريات فضة مموهة بنمنمة المينا، مزججة بألوان البحر والزرع وذرات الرمال، حلقات التاريخ سلاسل متشابكة مغلقة على أسرارها الغائرة فى الزمن والبدن، تطوق الأعناق بلفات محكمة، لاحتكاكها رنين كالأنين، تصطك أساور معاصم البنات ويرتجف منهن الجسد مقبلا مدبرا مجذوبا برغبة العتق، وكبح القيد الحلية، نجمة الصبح البربرية تتقد فى المنتصف بفص حجر الدم، تتمايل على الصدور النافرة الشماء، أهلة لا حصر لها تركت وشمها على الجسم والروح وغابت فى الزمن".

وتتدفق حيوية المشهد فى اللقاء المتوتر المشحون بين الفتى وفتاته فتنطلق أشواق من عقالها، ويتوهج وشم الشمس لتفصح الطبيعة البشرية عن رغابها، عن سرها المودع فى البشر ليحمل تجددها، وخصبها، وعرامة شهوتها "يتقدم الفتى، فارعا عاقصا يديه، مخفيا فى طيات العباءة الفضفاضة وفى خزانة الصدر خنجرا، يعلو قرع الطبول.. "واضرب على السر...."، تتقدم الصبية غصن مياس، تكشف وشم الأهلة وتحجبه بغير كلام فكل خطاب حجاب إلا خطاب الوجد والوجدان، ترنو وتغضى، يرتعش منها الوشم يقول صامتا: خذنى بقوة الفتى ذاهل حائر مختلج "جهلت فأمعن لدى أسرارنا النظرا".

الوشم المحجوب المكشوف يتفصد بالنداء وقد جن مقبض الخنجر بين الراحتين يدنو، ويبعد، يعلو ويهبط، يصّاعد قرع الطبول "واضرب.. اضرب على سر سر السر"! .. لكن دراما الجسد ورقصه، تبتله وحرمانه يفتق زهرة الدم لكن صوت النفس يعلو فى صحراء الروح حيث الذات تتلهب فى جحيمها الأرضى، وتتوهج بين رغاب البدن ورغبتها فى الانعتاق بالحب حيث كل خطاب حجاب إلا خطاب الوجد والوجدان لنسمع أنشودة قديمة قدم الزمان "عندما يسطع نور المستنيرين/ سترافق روحى أوزوريس وسأتقمص الصقر المجنح/ وسأخرج إلى الأرض/ وأفتح الجحيم" لكى أرى شمس الوجود من جديد).

فهل كان وشم الشمس هو أنشودة الحياة العميقة الغائرة فى قلب البدن؟ وهل كان فتح الجحيم مدخلاً لتتأجج نار الوجود؟ ليرى المرء صنع يديه، ووجيب قلبه، والحياة إذ تتشكل على مهل نابضة بالعشق ، مفعمة برغبة الإنسان فى اكتشاف ذاته، وأغوار نفسه العميقة البعيدة.

حيث تقدم هذه القصص للكاتبة اعتدال عثمان بلغتها الآسرة محاولة من محاولات الفن لفهم الذات الإنسانية، وصياغة أشواقها ومخاوفها، واكتناه أسرارها.

 

تم نسخ الرابط