قصائد غزل مخفيَّة لشيخ الجامع الأزهر
كتب - محمد نسيم
تراث مدفون (4)
(نصوص عربية، ننفرد بنشرها)
النظر في بعض النصوص التراثية المخطوطة يهدم الادعاء السائد بانهيار وتدهور الأدب العربي في العصر العثماني، هذا الادعاء الذي يُقال ويُدرس كأنه مُسلَّمَة مِن المُسلَّمات.
من نسخة نادرة، مطبوعة لمرة واحدة، في المطبعة الكاستلية، في مصر، سنة (1293هـ/ 1876م)، نقدم هذه النصوص.
صاحب النصوص، التي ننفرد بنشرها، هو شيخ الإسلام، الشيخ عبد الله الشبراوي الشافعي، الشيخ السابع في سلسلة شيوخ الجامع الأزهر، المتوفى عام (1171هـ/ 1758م).
بالإضافة إلى العلوم الدينية، فإن الشيخ الشبراوي كان شاعرًا متميِّزًا وكاتبًا مرموقًا. يصفه الجبرتي في ترجمته بأنه (الإمام الفقيه المحدث الأصولي المتكلم الماهر الشاعر الأديب).
وفي سيرة الشيخ ما يُبهر، من نَوَاحٍ مختلفة، فعن تسامحه ــ مثلا ــ يحكي الجبرتي أن الأقباط قصدوا الحج إلى بيت المقدس، فكلَّم كبيرهم (نوروز) الشيخ عبد الله الشبراوي في ذلك، فكتب إليه فتوى وجوابًا، مُلخَّصُه: أن أهل الذمة لا يُمنعون من دياناتهم وزياراتهم، فهلَّلَ الأقباط لهذا وفرحوا به، إلا أن بعض المسلمين لم تعجبهم هذه الفتوى وثاروا ضد الشيخ الشبراوي.
ومع هذا، فإن الأكثر إبهارا في سيرة الشيخ هو ما تركه لنا من قصائد غزل رائعة، تعتبر من روائع الأدب العربي كله، وليس في عصره فقط.
نقدم، من ديوانه النادر، قصيدتين من روائع غزليَّاته المخفيَّة، بالإضافة إلى مقدمة الديوان، كما جاءت في الطبعة القديمة النادرة.
...
جاءت مقدمة الديوان هكذا:
قال سيدنا ومولانا، ذو الفضائل الباهرة، والفواضل المتكاثرة، بهجة الزمان، وحاوي الحسان، وعلّامة الأوان، المتميز عن سائر الأقران، بعِرفان اللطائف ولطائف العِرفان، أفضل كل ناظم وناثر ومدرس وراوي، شيخ الإسلام الشيخ عبد الله بن محمد الشبراوي، لا زالت رحاب العلم بفرائد فوائده مُشادة، وحسنات عوائده لأجْيَادِ الطالبين قِلادة، آمين:
الحمد لله الذي جعل من الشعر حكمة ومن البيان سِحرا، والصلاة والسلام على أفْصح المخلوقات لَهْجَة وأفضلهم قدرا، سيدنا ومولانا محمد النبي الأمي الذي استغرقت محاسنه جواهر الكلم نَظْمًا ونثرا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
هذا ديوان شعر نسجتْ فكري بُرْدَه، وقَدَحَتْ رَوِيَّتي زِنْدَه، سألني فيه من لا أستطيع له ردّا، ولا أجد من طاعته بُدّا، جمعتُه مما كان قد تفرّق في زوايا الإهمال، وتناولتُه مما طيَّرتْه لواقح الطرح مِن أَكُفِّ الآمال، وكنت أودّ أني لستُ في هذا الشأن مذكورا، لكن كان ذلك في الكتاب مسطورا، ولعمري مَن عَرَضَ عقله على الناس، فهو لِسِهام الكلام برجاس، ولا بُد من قادح ومادح سيما وقد ذوى غُصن الشباب، وغرُبَ كوكبُ الصِّبا وغاب، ولم أكن لهذا الغرض تأهلت، لكني على مولاي سبحانه وتعالى توكلت، وحلاوةُ السَّبْك لا يخفى على الذوق السليم، وفوق كل ذي علم عليم.
قصيدة
سوى الحبِّ مِن دنياكُمُ لستُ أطلبُ .:. وفي غير لذَّاتِ الهوى لستُ أرغبُ
نصيبي من الدنيا قَوامٌ مُهفهفٌ .:. ورِقَّةُ أعطافٍ وطبعٌ مُهذَّبُ
تفقَّهْتُ في فنِّ الغرام فما تَرى .:. بآدابِ غيري عاشقا يتأدَّبُ
وهِمْتُ إلى أنْ صِرتُ مِن شِدَّةِ الضَّنَى .:. إذا ما رآني العاشِقونَ تَعَجَّبُوا
وأفنيتُ عُمري بينَ وَجْدٍ مُبرِّحٍ .:. ودمعٍ بأمطارِ الصَّبابةِ يُسكَبُ
ولي عِفَّةٌ أرجُو بها نيلَ مَطلبي .:. إذا عَزَّ يوما في المحبةِ مطلبُ
وإني أرى ألا أرى الذُّلَّ في الهوى .:. وإنْ باتَ قلبي في لَظًى يَتَلَهَّبُ
إذا اللائمُ اللاحِي أشارَ بِسَلْوَةٍ .:. خرجتُ سَريعًا خائفًا أَتَرَقَّبُ
وإنْ سلكَ العُشَّاقُ في الحبِّ مَسْلَكًا .:. فلي مَذْهَبٌ وَحدي وللناس مَذهبُ
وما لي حبيبٌ في الخُصوصِ وإنَّما .:. يلوحُ لِيَ الشكلُ الظريفُ فأَطْرَبُ
وقلبي على أهلِ الجَمالِ وَقَفْتُهُ .:. ولكنْ بشرطِ الصَّبْرِ والشرطُ أَغْلَبُ
وأَصْبُو إلى الوجهِ الجميلِ إذا بَدَا .:. وأسخطُ مِن ذِكْرِ السُّلُوِّ وأغضبُ
وعِشقُ القُدُودِ الهِيفِ عِندي عَقِيدَةٌ .:. وطَبعٌ عليهِ قَدْ رُبِيتُ ومَشْرَبُ
قَضَى اللهُ أنَّ الحبَّ أعلَى فَضِيلةٍ .:. وأنَّ الهَوَى أعلَى نَعِيمٍ وأَعْذَبُ
قصيدة
يا عَاذِلِي لا تَلُمْنِي إنَّهُ عَبَثُ .:. وهَبْكَ لُمْتَ فَمَنْ باللومِ يَكْتَرِثُ
ويَا وُلَاةَ الجَمالِ ارْثُوا لمُدْنَفِكُمْ .:. فليسَ عارَا عليكُمْ أنْ يُقالَ رَثُوا
شكوى إلى اللهِ كَمْ وَجْدٍ يَضيقُ لَهُ .:. صَدْري ولكنَّ خُلْقِي في الهَوَى دَمِثُ
ما لي على حَمْلِ أعباءِ الهوى جَلَدٌ .:. وإنَّما المُهجةُ الحَرَّاءُ تَنْبَعِثُ
وفي فُنونِ الهوى العُذْرِيِّ لِي سَلَفٌ .:. إنْ لَمْ أَرِثْ حِفْظَهَا عنهُمْ فَمَنْ يَرِثُ
عَوَاذِلِي أَقْسَمُوا أنِّي سَلَوْتُ ولا .:. واللهِ ما صدقوا واللهِ قَدْ حَنَثُوا
ويحَ العواذلِ كَمْ كَاتَمْتُهُمْ شَغَفِي .:. بِكُمْ وكَمْ فَحَصُوا عَنْهُ وكَمْ بَحَثُوا
مِنْ جَهْلِهِمْ لَبِثُوا دَهْرًا على عَذَلِي .:. لَوْ أنَّهم يَعلمُون الغَيْبَ مَا لَبِثُوا
ولو بِعَيْنِي رَأَوْا ما قَدْ رَأَيْتُ لَمَا .:. لامُوا ولكنَّهم مِنْ لُؤْمِهِمْ خَبَثُوا
دَعْهُمْ أَخَا الوَجْدِ لا تَعْبَأْ بِعَذْلِهِمُ .:. أنَا الوَفِيُّ وإنْ خَانُوا وإنْ نَكَثُوا
يا آلَ وُدِّيَ عَطْفًا فَالغَرَامُ لَهُ .:. قَوْمٌ كَبِيرُهُمُ فِي عَزْمِهِ حَدَثُ
إنْ كانَ غَيْرِي لَهُ مِنْ حُبِّكُمْ ثُلُثٌ .:. فَقَدْ تَكَامَلَ لِي الثُّلُثَانِ والثُّلُثُ



