الإمام «عبد الغني النابلسي» يكتب في الدفاع عن الحب
كتب - محمد نسيم
تراث مدفون (5)
(نصوص عربية، ننفرد بنشرها)
...
كما جاء في مقدمة الكتاب المخطوط، الذي ننفرد بنشر هذا النص منه، فإن عبد الغني النابلسي قد ألف هذا الكتاب عام (1069هـ)، بعد رؤيا رآها تدعوه إلى تأليفه، للرد على بعض رجال الدين المتزمتين في عصره، ممن يُحرِّمون التأثر بما خلقه الله من جمال.
والإمام النابلسي عالم وفقيه حنفي، من أئمة الصوفية في عصره، وشاعر أديب، له ديوان شعر كبير، ومؤلفات عديدة مشهورة؛ غير أن الكتاب المخطوط الذي نقدم منه هذا النص ليس من كتبه المشهورة؛ بل وما زال من المتزمتين من ينكر نسبته إلى الشيخ.
يقول النابلسي في مقدمة كتابه إنه يُسَمِّي الكتاب، عند أهل الظاهر: «غاية المطلوب في محبة المحبوب»، وعند أهل الباطن: «مخرج المتقي ومنهج المرتقي»، ويبدأ فيه بذكر الأحاديث النبوية والآثار السلفية الواردة في فضل المحبة في الله وفي جماله وجلاله، ومشروعية محبة الحُسْنِ ورؤية الجمال والتأثر به، وأن ذلك «من جُملة الكمال، فمَنْ رآه نقصا وأعاب الاقتداء فيه والاتباع، فهو كافر بالإجماع» ــ كما ورد بالنص.
ثم يشرع، بعد ذلك، في ذكر ما ورد من الأخبار والقصص والأشعار، عن كثير من الصحابة والفقهاء والعلماء وأهل الزهد والتقوى من المتقدمين والمتأخرين، ممن اشتهروا بقصصهم وأشعارهم في الحب والغزل.
وموضوع الكتاب ممتع، بما فيه من قصص عجيبة وأشعار بديعة. نختار منه نصا واحدا، بدأ به الإمام النابلسي ذِكر حكايات وأشعار بعض الأئمة في الحب والغزل.
...
.jpg)
يقول الإمام النابلسي، في المخطوط، ما يلي:
الفصل الخامس
في ذكر نبذة من الأولياء والصالحين والعلماء العاملين والفقهاء والمحدثين وأهل الزهد والتقوى واليقين، كانوا يحبون المحبوب، ولهم في ذلك الأشعار الرائعة والأبيات الفائقة واللطائف الغزلية والنكات الأدبية.
فأولهم شيخ المحققين وإمام العارفين الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي، قدس الله تعالى سره وجعل في أعالي درجات القرب مقره، فإن له في كتابه الفتوحات المكية في باب المحبة منها، وفي غير ذلك من كتبه أيضا، عبارات عظيمة في محبة المحبوب، نثرا ونظما، وله أحوال في معناه ذلك، ذكرها في كتابه المذكور وغيره، وكفى به إماما جليلا وبرهانا قاطعا ودليلا.
ومن جملة ما ذكره، في الباب السادس والستين وثلاثمائة من الفتوحات المكية، أنه قال في بيان علم من علوم الكشف، وهو أن يعلم صاحب الكشف أن كل واحد أو جماعة قلَّتْ أو كثُرتْ لا بد أن يكون معهم من رجال الغيب واحد عندما يتحدثون، فذلك الواحد ينقل أخبارهم في العالم، ويجد ذلك الناس في نفوسهم في العالم. يجتمع جماعة في خلوة أو يُحَدِّث الرجل نفسه بحديث لا يعلم به إلا الله تعالى فيخرج أو تخرج تلك الجماعة فيسمعه في الناس والناس يتحدثون به.
ولقد عملتُ أبياتا من الشعر، بمقصورة ابن مُثَنَّى، بشرقيّ جامع تونس، من بلاد إفريقية، عند صلاة العصر، في يوم معلوم مُعَيَّنٌ بالتاريخ عندي، بمدينة تونس، فجئتُ إلى إشبيلية، وبينهما مسيرة ثلاثة أشهر للقافلة، فاجتمع بي إنسان لا يعرفني، فأنشدني بِحُكم الاتفاق تلك الأبيات عينها، ولم أكن كتبتُها لأحد.
فقلتُ: لمن هذه الأبيات؟ فقال: لمحمد بن العربي وسَمَّاني، فقلتُ له: ومن أنشدك إياها حتى حفظتها؟ فقال لي: كنتُ جالسا في ليلة بشرق إشبيلية في مجلس جماعة على الطريق، ومر بنا رجل غريب لا نعرفه كأنه من السُّيَّاح، فجلس إلينا فتحدث معنا، ثم أنشدنا هذه الأبيات، فاستحسناها وكتبناها، فقلنا له: لمن هذه الأبيات؟ فقال: لفلان، وسَمَّاني لهم، فقلنا له: هذه مقصورة ابن مُثَنَّى لا نعرفها ببلادنا، فقال: هي بشرقيّ تونس، وهناك عَمَلَهَا في هذه الساعة وحفظتُها منه. ثم غاب عنا، فلم ندرِ ما أمره وكيف ذهب عنا وما رأيناه.
وهذه هي الأبيات:
مَقْصُورَةُ بْنِ مُثَنَّى .:. أَمْسَيْتُ فِيهَا مُعَنَّى
بِشَادِنٍ تُونُسِيٍّ .:. حُلْوِ اللَّمَى يَتَمَنَّى
خَلَعْتُ فِيهِ عِذَارِي .:. فَأَصْبَحَ الجِسْمِ مُضْنَى
سَأَلْتُهُ الوَصْلَ لَمَّا .:. رَأَيْتُهُ يَتَجَنَّى
وهَزَّ عِطْفَيْهِ عُجْبًا .:. كالغُصْنِ إِذْ يَتَثَنَّى
وقَالَ أَنْتَ غَرِيبٌ .:. إِلَيْكَ يَا هَذَا عَنَّا
فَذُبْتُ شَوْقًا ويَأْسًا .:. ومُتُّ وَجْدًا وحُزْنَا
قال الشيخ الأكبر، رضي الله عنه، بعد ذلك، في كتابه الفتوحات المكية، في المحل المذكور منه: وهذا الصبي يقال له أحمد بن الإدريسي، من تجار البلد، وكان شابا صالحا يحب الصالحين ويجالسهم، وَفَّقَهُ الله تعالى، وكان هذا المجلس بيني وبينه سنة تسعين وخمسمائة، ونحن الآن في سنة خمس وثلاثين وستمائة. انتهى.
وقال الشيخ الأكبر، رضي الله عنه، في ديوانه الكبير:
حَدَّثَ الشَّيْخُ أَبُونَا .:. عَنْ أَبِيهِ عَنْ قَتَادَة
عَنْ عَطَاءَ بْنِ يَسَارٍ .:. عَنْ سَعِيدِ بْنِ عِبَادَة
إِنَّ مَنْ مَاتَ مُحِبًّا .:. فَلَهُ أَجْرُ الشَّهَادَة
ثُمَّ قَدْ جَاءَ بِأُخْرَى .:. مِثْلِ هَذَا وزِيَادَة
عَنْ فُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ .:. هُوَ مِنْ أَهْلِ الزَّهَادَة
إِنَّ مَنْ مَاتَ خَلِيًّا .:. كَانَتِ النَّارُ مِهَادَه..!!



