الإثنين 22 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

أبو الغيط: نحن في اختبار بقاء لا مجال فيه سوى العيش معًا

أبو الغيط: نحن في
أبو الغيط: نحن في اختبار بقاء لا مجال فيه سوى العيش معًا

اكد أحمد أبو الغيط الأمين العام لجامعة الدول العربية ان النظام العالمي يمر بحالة غير مسبوقة من السيولة والتنافس– الذي يقترب من الصراع- بين اللاعبين الرئيسيين.

وأضاف: هذا التطور يلقي بظلال من انعدام اليقين على كافة التفاعلات والعلاقات الدولية.. ونحن نقترب من وضعٍ تتآكل فيه قواعد قديمة من دون أن تظهر أخرى جديدة تحل محلها.. وتهب فيه رياح الفوضى والاضطراب على الدول والمؤسسات الراسخة.. جاء ذلك أثناء إلقاء كلمته في المؤتمر السنوي لمؤسسة الفكر العربي تحت عنوان "تحديات الفوضى وصناعة الاستقرار".

وأضاف أبو الغيط: العرب يواجهون تحديًا رئيسيًا يتعلق بكيفية نقل المجتمعات العربية من أوضاع متخلفة خلفها الاستعمار إلى حالٍ جديدة من التحديث والتنمية. وتواجه تحديات إضافية مضاعفة ومركبة.

وطرح أبو الغيط خمس نقاط تُمثل تحديات لتطورات الوضع العالمي وهي:

أولا: الانسحاب البريطاني من الاتحاد الأوروبي ووصول الرئيس ترامب إلى مقعد الرئاسة في الولايات المتحدة، وهما ليسا إلا مثالين لتجليات رد فعل غاضب من جانب قطاعات واسعة من مواطني الغرب تشعر أن العولمة خذلتها وفاقمت من معاناتها.. وان الرافضين كلهم من الفقراء، لكنهم يضمون شرائح من الطبقة الوسطى التي لم تتزايد دخولها الحقيقية لعقود.. لشعورهم بأن حرية التجارة وتعزيز الترابط العالمي لم يصب في مصلحتهم.. ومحصلة ذلك هي صعود لتيارات الانكفاء على الداخل، وبناء الجدران العالية أمام التجارة والمهاجرين وكل ما هو قادم من الخارج.

ويرتبط بهذا ما نشهده من تصاعد ملحوظ في السياسات القومية المتطرفة والنزعات الشعبوية الجارفة.. والشعبوية بطبيعتها تعتمد على نهج مُغازلة غرائز الجمهور، وتحريك مخاوفه الأولية، عبر طرح شعارات مُبسطة وأهداف براقة.. وتعتمد الشعبوية كذلك على اختراع الأعداء وتضخيم المخاطر الداخلية والخارجية.. إن عالمًا يقوم على الانكفاء والقومية المتطرفة هو عالم أكثر خطورة، وأشد عرضة للتوترات بين الدول وبعضها البعض، بل بين الجماعات المختلفة داخل الدولة الواحدة.. وبالتالي الاتجاه إلى تفتيت الوحدات القائمة إلى وحدات أصغر، على أساس القومية أو العرق أو الدين.

فالتحدي الرئيسي أمام الدولة الوطنية في العالم العربي هو أن تصير بحق "دولة لكل مواطنيها"، لا مكان فيها للطائفية أو المذهبية أو التيارات المُلتحفة بالدين.. فلا مجال أمامنا سوى أن نتعلم العيش معًا.. إنه اختبار بقاء لمجتمعاتنا ودولنا ومواطنينا.. فالبديل– كما شهدنا- هو القضاء على الدولة وتشريد أبنائها وتبديد مُقدراتها.

 

ثانيا:نحن نقف على أعتاب ثورة تكنولوجية ضخمة سيكون من شأنها أن تُغير الكثير من القواعد الراسخة في السياسة والاقتصاد والمجتمع.. لقد اصطلح البعض على نعت مجمل التطورات الجارية في المجال التكنولوجي، وعلى رأسها ما يتعلق بالذكاء الاصطناعي والبيانات العملاقة وتكنولوجيا المعلومات والأتمتة، بالثورة الصناعية الرابعة.. هذه الثورة، شأنها شأن الثورة الصناعية الأولى، ستفرز رابحين وخاسرين.. سيكون لها ضحاياها، وأولهم العمالة غير الماهرة وشبه الماهرة التي ستقوم الآلات بوظائفها بصورة أفضل، فتنتفي الحاجة إليها.

أين العرب من هذه الثورة الهائلة التي تطرق أبوابنا؟ هل تفوتنا مثلما فاتتنا الثورة الأولى زمنًا طويلًا حتى صرنا أسرى للتخلف والاستعمار؟ هل تسهم في اتساع الفجوة بيننا وبين العالم بصورة تتجاوز قدرتنا على تجسيرها؟

إن إعداد الشباب العربي للتعامل مع معطيات ومتطلبات الثورة الصناعية الرابعة، تعليمًا وتدريبًا.. ثقافة ووعيًا.. يقع في القلب من المهام التي ينبغي أن يضطلع بها قادة الفكر والسياسة والمجتمع والاقتصاد في العالم العربي، ذلك أن البديل هو أن نترك شبابنا فريسة لتقسيم جديد للعمل على المستوى العالمي لا يحصلون بمقتضاه سوى على الوظائف الدنيا والأعمال ذات القيمة المضافة المنخفضة.

ثالثا: إن أخطر ما يواجه العالم اليوم من وجهة نظري هو تقويض الثقة في المؤسسات القائمة.. ولا أقصد بالمؤسسات السياسية منها فحسب، وإنما الدينية والاجتماعية والثقافية أيضا.. ولا شك أن تكنولوجيا المعلومات ووسائل التواصل الاجتماعي تدفع في هذا الاتجاه عبر ترويج الأخبار الكاذبة بما يُسهم في تشكيل مناخ مشحون من الإحباط والتشويش والتحريض والغضب واليأس يكون من نتيجته إضعاف الثقة في المؤسسات القائمة، بحيث تصير فريسة سهلة أمام معاول الهدم والتخريب التي يرفعها أعداء الحضارة والإنسانية.. إن جيل الشباب هم الأكثر عرضة لهذه التأثيرات الخطيرة.. وقد رأينا ما يُمكن أن تُفضي إليه من فوضى مجتمعية واضطرابات سياسية.. إن تكنولوجيا التواصل الاجتماعي، مثلها مثل أي تكنولوجيا لها ما لها وعليها ما عليها.. إلا أنني أرى، وبواقع تجربة مجتمعاتنا العربية وكذا ما يحدث في العالم الغربي من اختراقات للعملية السياسية والأسس الديمقراطية، أن هذه التكنولوجيا– إذا تُرك لها الحبل على الغارب- ليست سبيلًا لتعزيز الحرية والديمقراطية، بقدر ما هي قادرة على إفراز أكثر الاتجاهات تطرفًا وغوغائية.. وظني أن هذا الملف يتعين أن يلقى الاهتمام والانتباه من المفكرين العرب، فالعزلة والانغلاق لا يمثلان حلًا.. ولكن البديل لا ينبغي أن يكون الانكشاف الكامل أمام هذه المؤثرات المُدمرة للنسيج الاجتماعي.

رابعا: لا يخفى على أحد ما تُعانيه بعض دولنا العربية من أزمات تمتد آثارها إلى ما وراء الحدود، وتُلقي بظلالها على الوضع العام في المنطقة، وتُفرز مناخًا عامًا من انعدام الاستقرار والقلق من المستقبل لدى المواطن العربي.. واليوم، ونحن نتناول صناعة الاستقرار، فإننا نتحدث في واقع الأمر عن قدرة المؤسسات العربية على التعامل مع التحديات التي تناولتها.. مطلوب من المؤسسات العربية، سياسية كانت أم دينية أم اجتماعية، أن تُعزز رسوخها لا بالانغلاق والانعزال عن المجتمع والعالم.. وإنما بالانفتاح على تجارب الآخرين، والتعلم منها والتفاعل معها.. المؤسسات التي تستطيع البقاء في هذا العصر هي تلك التي تُجدد نفسها بنفسها قبل أن يُفرض عليها التغيير فرضًا.. هي مؤسسات مرنة، سريعة الحركة، قادرة على التكيف.. مؤسسات تبذل الجهد من أجل نيل ثقة الجمهور وتستمد الشرعية من هذه الثقة المتجددة.. إن ما يحصن المؤسسات العربية حقًا هو ثقة الناس فيها، وإيمانهم بها، ودفاعهم عنها.. ففي ذلك ما يعصمها من تيارات الفوضى مهما تصاعدت، ومن عواصف الاضطراب مهما اشتدت.

 

خامسا: إن الحفاظ على الاستقرار لا يعني أبدًا الدفاع عن الجمود أو الركود.. بل إنه مرهون بالجرأة على خوض غمار التغيير والإصلاح.. الإصلاح فرض عين من أجل تحصين مجتمعاتنا من فورات الفوضى وشرورها.. الفوضى تفرض تغييرًا بلا حساب ولا هدف ولا غاية معلومة.. في المقابل، الإصلاح يجلب تغييرات تناسب إيقاع المجتمعات وحاجاتها.. إن إصلاح نظمنا التعليمية وتجديد مفاهيمنا الدينية وتطوير رؤيتنا الثقافية هو العلاج الناجع لجرثومة الفوضى التي تتغذى على الركود والتكلس.. وفي كلمة مختصرة أقول: أن الإصلاح والتغيير مطلوبان من أجل صيانة الاستقرار.

 
تم نسخ الرابط