وماذا بعد الانسحاب الأمريكي.. إلى أين تذهب اقتصاديات الكبار؟
كتبت - نهاد مهينة
نبذة عن تاريخ العقوبات الاقتصادية على إيران
استراتيجية الاقتصاد الإيراني في مواجهة العقوبات الأمريكية
مخاوف حرب تجارية بين أوروبا والولايات المتحدة
أثار قرار الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" بالانسحاب من الاتفاق النووي المُوقع بين إيران والدول الغربية الكُبرى توتراً شديدا على كافة الأصعدة الأمنية والسياسية الدولية من جهة، وأيضا نتج عنه مخاوف اقتصادية "لا تقل في خطورتها وشدتها" مما هو قادم نتيجة لاتجاه الإدارة الأمريكية لإعادة فرض العقوبات الاقتصادية على إيران، فالرئيس الأمريكي أخذ القرار دون أن يُعير كبار أوروبا اهتماماً أو يأبه لمصالحهم المهددة بالانهيار نتيجة لشراكتهم الاقتصادية الواسعة مع ايران والتي برزت من بعد توقيع الاتفاق النووي لعام 2015.
العقوبات الاقتصادية على إيران ليست بالأمر الجديد
من الجدير بالذكر أن سياسة فرض العقوبات الاقتصادية على إيران ليست بالأمر الجديد أو المُستحدث لكن دائماً كان اعتماد الولايات المتحدة الأمريكية في صراعها مع إيران ينصب على سياسة العقوبات والحصار الاقتصادي.
حيث واجه الاقتصاد الإيراني الذي صُنف من قبل في عام 2010 كثالث أكبر اقتصاد في منطقة الشرق الأوسط بحجم أعمال بلغ 337,9 مليار دولار بسلسلة من التدابير والإجراءات للتضييق على صادراته النفطية والاستفادة من العائد المادي لها، خاصة وان الاقتصاد الإيراني يعتمد بشكل أساسي على المنتجات النفطية والتي تُشكل حوالي 80% من صادراته وحوالي 60% من دخله حيث تمتلك إيران 10% من احتياطي النفط المؤكد في العالم و15% من الاحتياطي العالمي من الغاز الطبيعي، الأمر الذي يجعلها تتمتع بأهمية اقتصادية كبيرة.
ووجدت الولايات المتحدة على مدار تاريخ مواجهتها السياسية في العقوبات الاقتصادية المفر والبديل المريح عن المواجهات العسكرية المُباشرة وما تسببه من خسائر باهظة، ومثال على ذلك قرارات العقوبات التي فرضتها أمريكا على ايران في عام 2010 والتي أثرت سلبيا على الاقتصاد الإيراني إلى أن تم توقيع الاتفاق عام 2015، وكان يُطلق على هذه العقوبات لفظ "الاقتصاد السياسي" وكانت تستهدف قطاع النفط بشكل أساسي باعتباره شريان الاقتصاد الإيراني فتمثلت العقوبات في الحرمان من الاستيراد والتصدير، تقليل المعروض من السلع الأجنبية في الأسواق المحلية، وقف المبادلات التجارية، وكان أهمها يتمثل في "فرض حصار نفطي مقترن بحصار بحري يمنع تصدير النفط".
الآثار السلبية على الاقتصاد الإيراني في ذلك الوقت
كان لهذه العقوبات آثار سلبية ومدمرة على الاقتصاد الإيراني وكان من بين هذه الآثار-
ارتفاع كبير في معدلات التضخم وصل لحوالي 50% الأمر الذي تسبب في ارتفاع الأسعار المحلية بشكل كارثي نتيجة لارتفاع معدل الطلب وقلة العرض نتيجة للحصار المفروض عليها.
ارتفاع معدل البطالة إلى حوالي 15% وذلك نتيجة منع الاستثمار بمجال النفط والذي يشكل العمود الفقري لاقتصادها.
مرحلة المواجهة
لم يغلب طابع الاستسلام على الإدارة الإيرانية في ذلك الوقت ولكن حاولت أن تعتمد سياسة اقتصادية جديدة تقوم على المواجهة الطويلة للعقوبات الاقتصادية المفروضة عليها.
فأخذت قرار المنع من الاستيراد والتصدير وسيلة لحماية المنتج المحلي الإيراني وسعت على تطويره وخلال سنوات الحصار الخمس نجحت أن تُقلل من معدل البطالة من نسبة 15% فب بداية الحصار إلى حوالي 10% فقط الأمر الذي عكس قدرتها على التماسك والمواجهة بذلك الوقت.
وسياسة حظر النفط جعل إيران تُركز على الاستثمار الداخلي فقط متمثلاً في مجال تخزين النفط وكان ذلك قراراً حكيما للغاية حيث مكن هذا المخزون إيران بعد فك الحصار مباشرة من الحصول على تجميع احتياطي نقدي وصل لـ500 مليار دولار حسب تقرير وزارة المالية الإيرانية والبنك المركزي عام 2016.
ويتضح من ذلك انه نعم لا يمكن إنكار ما تسببه العقوبات الأمريكية من ضربات اقتصادية موجعة للاقتصاد الإيراني ولكن أيضا توضح قدرة الاقتصاد الإيراني على الصمود والمواجهة في الكثير من الأوقات.
أثر ذلك الصراع على الأسواق العالمية خاصةً دول أوروبا
ومن الأشياء التي يجب أن يتم الانتباه إليها جيداً أن لكل حصار اقتصادي وصراع آثاره السلبية على الأسواق العالمية عامةً وليس فقط على الدول القائم بينها الصراع أو فُرض عليها الحصار، ويتجلى ذلك فيما أصاب دول أوروبا من ضرر نتيجة الحصار الذي فُرض في عام 2010 واستمر لعام 2015.. ويأتي ذلك بسبب امتلاك وغنى إيران بالمواد الخام والأولية اللازمة لكبار الصناعات في أوروبا، حيث كانت ايران تعتبر من كبار المصدرين إلى أوروبا، وبسبب الحصار الاقتصادي قل المعروض من هذه المواد الأمر الذي أدى إلى ارتفاع أسعارها، فعلى سبيل المثال ارتفع سعر النفط بشكل جنوني حتى وصل سعر البرميل إلى 134 دولاراً، ومن ثم زيادة الأعباء على الاقتصاد الأوروبي وانخفاض معدلات النمو الاقتصادي بالإضافة إلى زيادة أزمة الديون فخسرت أوروبا وقتها واحداً من أكبر أسواقها في آسيا.
الموقف الأوروبي الحالي من قرارات ترامب
تُمثل التجربة السابق سردها للحصار الاقتصادي على إيران وما سببه من أضرار لدول أوروبا مبرراً وتفسيراً واضحا لما يلقاه قرار ترامب الأخير من استهجان أوروبي واسع، خاصةً أن الوضع الآن أكثر تأزماً بالنسبة لأوروبا بعد أن وسعت شراكتها مع ايران عقب اتفاق عام 2015.
فأثار قرار ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران والاتجاه الأمريكي لفرض عقوبات جديدة على طهران والشركات الدولية التي تعمل بها مخاوف من اندلاع حرب تجارية بين أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية في ظل تأكيد أوروبا تمسكها بالحفاظ على مصالحها الاقتصادية واستثماراتها في إيران.
فتقع أوروبا الآن تحت التهديد بخسارة كبيرة تصل إلى مليارات الدولار بعدما أعلنت وزارة الخزانة الأمريكية مهلة ما بين 90-180 يوماً للشركات الدولية العاملة في إيران لإنهاء استثماراتها تمهيداً لقرارات عودة الحصار، في حين جاء الرد الأوروبي موحداً من فرنسا وألمانيا وبريطانيا بتنديدهم بقرارات ترامب وتمسكهم بالعلاقات مع إيران.
وفي مؤشرات مبدئية للقرار شهدت الاستثمارات الأوروبية خسائر متعددة ومنها:
تراجع أسهم الشركات الفرنسية التي تستثمر في إيران ومنها شركة "بيجة سيتروين" بصناعة السيارات بحوالي 2% وأعربت الشركة عن مناشدتها للاتحاد الأوروبي بأن يتبنى موقفا قويا وموحدا من قرارات ترامب، وكذلك انخفضت أسهم شركات "رينو" وتقع شركة "توتال" تحت تهديد خسارة فادحة لقيمة عقد بحوالي 5 مليارات دولار إذا تم تطبيق هذه العقوبات.
وبشكل سريع استجابت أسعار النفط للتهديدات الجديدة بفرض العقوبات وسجلت ارتفاعاً بنسبة تزيد على 2% في عودة إلى مشهد عام 2010 مرة أخرى، وهو الأمر الذي تخشاه أوروبا بعدما ذاقت منه الأمرين من قبل.
وفي نهاية الأمر نحن أمام لحظة فارقة ليست فقط في الصراع الأمريكي- الإيراني بل أيضا في العلاقات الأوروبية- الأمريكية فقرار الرئيس الأمريكي السريع والمفاجئ كان بمثابة صفعة لكبار أوروبا على كافة الأصعدة واعتبره الكثير من محللي أوروبا السياسيين إهانة للعنجهية السياسية الأوروبية ومحاولة لإخراجها من المعادلة الدولية ودورها الأساسي في حسم القرارات المصيرية لا سيما أيضا ما يحمله القرار من أضرار جسيمة للاقتصاد الأوروبي شهدها من قبل عقب عقوبات 2010 ولن يقبل أبداً بعدوتها بصورة أكثر جسامة حالياً.
ويبقى هنا المشهد عالقًا أمام التساؤل: هل ستستطيع أوروبا حماية مصالحها مع إيران وتستمر في اتفاق 2015؟ وفي هذه الحالة ستكون قرارات الرئيس الأمريكي فقدت الجزء الأكبر من حدتها على الاقتصاد الإيراني، أم ستنتصر الإدارة الأمريكية لقراراتها؟



