التهمة .. عازف "كمان"
كتب - مصطفى سيف
اسمي سولمون نورثوب
لديَّ منزل في بلدة ساراتوجا في نيويورك
أنا رجلٌ حُرٌّ ولستَ تملك حق اعتقالي
وأعدُّكَ إذا قمتَ بتحريري سأرضى عن هذا الخطأ
لستَ حرًا ولستَ من بلدة "ساراتوجا"
بل إنَّك عبدٌ زنجي هارب من جورجيا
.JPG)
يستيقظ فجأة فيجد نفسه مقيّدًا بسلاسل في قدميه ويديه، ولما أراد التمرُّد؛ كانت العصا هي الأداة الوحيدة- التي تكسّرت على جسده- لتأديبه لكي لا يتفوه بالحرية أو حتى يتنفسها، لا تتخلى عن الحياة حتى لا تتخلى عنك حتى وإنْ سلبوا حُريّتك رغمًا عنكَ، دافع وانهض وقاوم فربما أنتَ طوق النجاة للضعفاء الذين لا يملكون سوى الخنوع للاستمرار فيها رغمًا عنهم.
"أنتَ عبد" قالها ذلك الرجل الأبيض الذي غيَّر العصا بعصا جديدة بعدما تكسَّرت وقد أُنهك من ضربه لـ"نورثوب"، "أأنتَ عبدٌ"، يرد عازف الكمان "لا" فتزداد شدة الضرب، حتى يتمزق القميص ومن تحته جسده، قميص ممزق اختلط قماشه بدم الحُر، وكأنّ بقرارة نفسه يقول ما قاله المتنبي منذ زمن بعيد "والحُرّ ممتحنٌ بأولاد الزنى".
شعاع ضوء يتسرب من تلك النافذة بغرفة مساحتها متر في متر، وصوتٌ يجد طريقه للسماء بكل ما أوتيّ من قوةٍ خار منها الكثير، "ساعدوني، فليساعدني أحد"، فجاءه رجع الصدى "اصمت يا فتى لن يساعدك أحد سوى نفسك".
لم يكن "سولمون" يقرأ الودع لكي يعرف أنَّ الاثنين اللذين أتيا لكي يأخذوه ليُقدِّم معهما عروضًا في السيرك بوصفه عازفًا ماهرًا للكمان هم في الأساس تجار عبيد، حتى حينما التقى بباقي العبيد الذين سيُباعون في السوق كان يتشبث بأملٍ أنَّهما سيعودا ليحرراه، وأنَّهم يبحثون عنه.
.png)
خمسة أشخاص مكبلون بالسلاسل بينهم أم وطفل وطفلة في عربة يجرها حصانين ويقودها رجلان من (الأحرار) يُساقون إلى مصيرهم المجتوم، في السوق رجالًا ونساء يقفون عرايا للبيع في السوق لمن يشتري أكثر.
صوتٌ أكثر بائس يجلس بجانبه "إن أردت البقاء على قيد الحياة؛ افعل وتكلَّم بأقل ما تستطيع، ولا تخبر أحدًا عمّن تكون، ولا أنّ بمقدورك القراءة والكتابة، إذا لم تريد أن تكون زنجي في عداد الموتى".
شخصٌ آخر أكثر شراسة إلى حد ما، يحاول أن يشعل في أنفسهم روح المقاومة "أقترح أن نقاومهم" فيرد ذو الصوت البائس "ثلاثة لا يمكنهم أن يقفوا ضدهم جميعًا، البقية هُنا كلهم زنوج فهم وُلدوا وترعرعوا عبيدًا ليس لديهم القدرة على القتال".
ما بين الصوت البائس والصوت الأكثر شراسة يقف شيواتال إيجيوفور، بطل فيلم (12 عامًا من العبودية) والذي يقوم بدور عازف الكمان، حائرًا أي الطريقين يسلك حتى يأتيه اليقين من الصوت البائس: "النجاة ليست تتعلق بالموت المؤكد، بل بطريقة تجّنُب المشاكل بقدر الإمكان".
بعد هذه الكلمات يجد ضالته، فهو يريد الحياة لكي ينجو، لذلك لن يخبر أي أحد عن هويته الحقيقية، وسيرضخ لكل ما يفعله به هؤلاء من أجل أن ينال حريّته، فالأمل الذي عاش عليه آتٍ آتٍ لا محالة.
"أن تموت وأنتَ تدافع عن شيء تؤمن به ومبادئك خيرٌ لكَ من أن تموت ذليلًا"، هكذا كان حال ذلك الرجل ذو الصوت الأكثر شراسة حين أراد الدفاع عن الأم التي أتت معهم، حين حاول أحدهم الاعتداء عليها جنسيًا، فتلقى طعنة بسكين مات على إثرها وأُلقي في مياه البحر، "أفضل ما فعل، أفضل منّا" هكذا كان تعليقه على موته.
تتدافع الذكريات إلى رأسه كاندفاع الشلالات كل شيء يحطَّ عليه حتى أنفاسه، يتذكر تلك الأيام التي كان يذهب فيها مع عائلة لشراء الأشياء من السوق، اليوم هو الذي يُشترى من السوق؛ ولكن سوق العبيد.
.JPG)
بلات! بلات! بلات!
اسمي ليس بلات، اسمي .
قبل أن ينطق "نورثوب" اسمه الحقيقي، كانت يد الرجل الذي ينادي على الأسماء لكي يبيعها حطَّت على وجهه اسمك (بلات)، كالذي يقف في مزاد ويريد أن يحصل على السعر الأعلى كان يقف تاجر العبيد هكذا في غرفته يعرض العبيد الذين جلبهم من السوق للتو.
كم تريد مقابل (بلات) و(إليزا)؟ قالها (بيندكت كامبرباتش) والذي يقوم في الفيلم بدور (ويليام فورد) أول من سيشتري (بلات)، يرد تاجر العبيد: "ألف دولار مقابل بلات لأنه زنجي لديه موهبة رائعة و700 دولار مقابل إليزا، إنّه سعر عادل".
.JPG)
"الزنجي ركض الزنجي طار
الزنجي مزّق قميصه لجزئين
اركض اركض لكن حُراس العبيد سوف يمسكوك
اركض أيها الزنجي جيدًا فمن المستحسن أن تهرب"
للوهلة الأولى ترى (جون تيبتس) مدير أعمال النجارة لـ"فورد" شخصٌ أحمق،لا يرى سوى نفسه في مجتمع العبودية، منذ أن تفوّه بالكلمات الأولى "الآن أيها الزنوج المتعفنين"، سيصبح العدو الأكبر لـ"نورثوب" وسيصبح لسان حال الأخير يقول: "إذا بُليتَ بظالمٍ كُن ظالمًا".
يظل الجدال قائمًا بين الاثنين فمع أول لقاء بين ثلاثتهم "فورد" و"نورثوب" و"تيبتس" تظهر نوايا الأخير تجاه الثاني، حتى ينتصر الأول لعازف الكمان، بعد أن أدلى بدلوه في كيفية نقل الأخشاب عبر الممر المائي، "أأنتَ زنجي أم مهندس؟"، ليرد فورد: "دع الرجل يطرح فكرته"، ثم يكافئه بأن يمنح له آلة الكمان كي يعود للعزف مرةً أخرى، بل ويرسله لأحد الملوك كي يعزف في حفل يقيمه.
في ذلك المشهد تظهر الأم وهي تنتحب حتى يتملك منها النحيب؛ ولمَّا قال لها "نورثوب" توقّفي عن هذا النحيب، صرخت في وجهه حين قال لها إن "فورد" رجل محترم، لترد بل إنه نخاس، وأنتَ تخضع له حتى قدميه، إنَّك تتمتع بإحسانه لك، وأنا أحاول النجاة" ليصرخ بوجهها "لن أرضخ لليأس، فإذا تركتُ نفسي للأحزان سأغرق فيها، سأبقى محافظًا على جأشي حتى تتُاح لي فرصة الحرية".
.JPG)
"ظهري مليء بالندوب لإصراري على طلب حُريّتي"
من الصعب على رجلٍ ترّبى على إعطاء الأوامر دون جدال، أن يرى أحدًا يُجادله، هذا ما حدث بين "تيبتس" و"نورثوب"، فعلى الرغم من أنَّ الأخير نفَّذ الأوامر إلا أنَّ "التلكيك" أسلوب حياة حتى عند الإنجليز خاصة حين لا يطيقون شخصًا ما يرونه أقل منهم منزلةً.
"لو كان يوجد شيء خاطئ، فهو أوامرك" قالها عازف الكمان وبقرارة نفسه يعرف جيّدًا أنّه ربما يخسر "فورد" للأبد؛ ولكن يبقى الشيء الداخلي لعازف الكمان هي الكرامة التي تجعله يصبر على مرارة الذل كي ينال حريته، "أنتَ أيها النذل الأسود، أنتَ وغدٌ، اخلع عنك ملابسك" (تيبتس) "لن أفعل" (نورثوب).
ثمة انفجار حدث؛ نورثوب ينهار بالضرب على "تيبتس"، الأخير يستنجد ممن وصفه بالوحش ومع ذلك لا زال يهدد ويتوعد "لن ترى النور يوم آخر أيها الزنجي"، دخولٌ مفاجئ لمدير مزارع فورد متسائلًا "ماذا حدث" ليرد نورثوب: "يريد أن يجلدني لأنني استخدمت المسامير التي أعطيتني إياها"، ينهض ذو الوجه العكر ويبصق على عازف الكمان وهو يردد: "سأحظى بالقوة لأنتقم منك".
.JPG)
تحذير من مدير المزرعة ألا يغادر "نورثوب" حتى يستطيع حمايته، يذهب "تيبتس" ويحضر رجلين ثم يعلقان عازف الكمان على الحبل ويريدون شنقه، ليتدخل الأول ويأمرهما بأن ينصرفا وإلا سيقتلهما، على الرغم من ذلك لم يفكّ الحبل الذي عُلق فيه وتركه، وكأنَّه يريد أن يُعلمه ألا يتمرد.
يأتي "فورد" بعد أن أمر مدير المزرعة خادمه أن يذهب ليحضره، ويقطع الحبل، ويقنعه بأنَّ يذهب إلى "إدوين إبس" (المعروف بأنَّه قاهر العبيد)، لأن تيبتس لن يتركه ولم يعد قصر "فورد" مكانًا آمنًا لعازف الكمان، يحاول أن يستجدي شفقة سيده ليقنعه بأنَّه رجل حر، ولكن السيد فورد لم يستمع لقوله، معتبرًا تمرده صنع له سُمعة سيئة، ولم يرضى به سوى قاهر العبيد.
في كل مكانٍ يذهب إليه كان هناك ما يُشعره بتأنيب الضمير، رجلًا كان أو امرأة، في منزل قاهر العبيد وجد "باتسي" ذو النظرات الحادة أحيانًا، والمقهورة أحيانًا كثيرة، وهبت نفسها لسيدها كي ترحم نفسها من بطشه، ويعشقها سيدها وهو ما سبّب له متاعبًا كثيرة مع زوجته "الحُرة".
ربما كان يدور في خلد عازف الكمان أثناء طلب زوجة قاهر العبيد منه الذهاب إلى (بارثولوميوز) لإحضار بعض البضائع أن يهرب، إلا أنَّ الخوف من المصير المحتوم وأغلب الظن في ذلك هو الموت وحيدًا دون الحصول على حريته، هو الذي منعه.
"باتسي" هي المثال الحي الأبرز في هذا الفيلم على العبودية ضد النساء، وظهر ذلك جليًّا حين طلبت من "نورثوب" أن "يأخذ جسدها إلى المستنقع، ويغمس عنقها في الماء، إلى أن تخرج روحها" لأنها لم تنل أي راحة في هذه الحياة، إلا أنّ نورثوب كان أجبن من أن يفعل ذلك لأنه لم يقوى على فعله لنفسه.
.jpg)
الكتابة مقابل حُريّتك
آلة الكمان هي التي تعينه على مرارة الأيام، شيء يحبه ويحب أن يمارسه، ولكن تبقى تلك الأيام تتدافع إلى رأسه، ولتخفيف ذلك الألم إلى حدٍ ما وضع اسم زوجته وطفله وطفلته على الكمان "آن" "مارجريت" "ألونزو".
من ضمن البضائع التي كانت تطلبها زوجة "إبس" ورق أبيض للكتابة، ومن هنا جاءت فكرة أن يحتفظ عازف الكمان بورقة لنفسه يكتب فيها إلى أهله في الشمال (هو كان في الجنوب)، قبل أن تنكشف فعلته.
"ليس كل الذين تلقاهم طيبون يا فتى"، لم يكن يعرف نورثوب أن "آرمسبي" الذي وضعه قاهر العبيد بين (زنوجه) ليكون عينه سيفشي سِر عازف الكمان حين يعلم أنَّه يريد أن يُرسل خطابًا إلى عائلته في الشمال.
"أريد منكَ أن ترسل خطابًا لمكتب بريد (ماركسفيل)، مُعتِق هو كل ما أطلبه"، ليرد "آرمسبي": "سأفعل ذلك وسأرتضي بأي مال مُقدّم"، "الشيطان كان بين زنوجي" هكذا كان وصف قاهر العبيد لعازف الكمان.
تنكَّر "نورثوب" من كل ما قاله قاهر العبيد وأفشاه "آرمسبي"، وأكَّد أنّ الأخير يحاول إلى سيده بعد أن غضب عليه، ليسخر "إبس" من عازف الكمان قائلًا: "إني مندهش أنَّك لم تكن حُرًا ومن البيض (بلات)"، ليقوم بحرق الورقة التي كتب فيها بعد أن أُفشي سره.
لم يتعلّم "نورثوب" من خطأه مع "آرمسبي"، فربما أراد أن يكرره مرة أخرى مع "باس" الذي يقوم به براد بيت، إلا أنَّ الأخير كان رجلًا صالحًا، وهو المتسبب في نيل حريته في النهاية، باس كان معروفًا بموقفه من العبودية لذلك نال بعضًا من غضب "إبس".
"كل كلمة تبوح بها سر في قرار عميق" كلمة شرف نالها عازف الكمان من النجار، "تلك العبودية هي شرٌ لا يجب أن يقع لأحد" قالها نورثوب وهو يحكي قصته لـ"باس"، يرد الأخير "أؤمن بذلك"؛ "إن كنت تؤمن بذلك فعلًا أتوسل إليك أن تكتب لأصدقائي في الشمال تبلغهم بحالتي، وتستعطفهم أن يرسلوا أوراق حريّتي".
.JPG)
ظللتُ أرتحل في كل البلاد
طوال العشرين عامًا
حريتي هي كل شيء
حقيقة أن يمكنني الرحيل في أي وقتٍ
يمنحني لذة لا توصف
أتى صوته المفعم بالأمل ليُنقل بالتبعية إلى عازف الكمان الذي كان يصر على نيل حريته حتى إن خضع لأشخاص يرون أنَّهم محور الكون، "حياتي لا تعني أي شيء لأيمّا إمرئ؛ ولكن يبدو أن حياتك تعني الكثير للعديد من البشر"، قالها النجار، "سأكتب خطابك، وإن استطعت أن أتحصّل على حريتك سيكون أكثر من مجر لذة، سيصبح واجبي".
بعد هذا اللقاء جاءت الحرية؛ نجح الرجل في أن يرسل خطابه إلى أصدقاءه، جاء يستجوبه ما يشبه عمدة المقاطعة، ويسأل "بلات.. أين المدعو بلات؟، أتعرف ذلك الرجل؟"، كان الرجل هو باركر الذي ذهب إليه في بداية الفيلم لكي يشتري منه بضائع لزوجته.
يتدخّل ذلك الرجل المتعجرف "إبس" أيها المأمور ما الخطب، فيرد المأمور: أمارس عملي الرسمي، لتكون إجابة قاهر العبيد بمن يصر على عبودية عازف الكمان: "عبدي هو عملي"، يسرد "نورثوب" تفاصيل حياته ليتأكد من أنَّه رجل حر، فيأخذه معه ليعود إلى عائلته بعد 12 عامًا من العبودية.
على الرغم من أنَّ عازف الكمان قدّم خاطفيه إلى المحاكمة إلا أنَّهم تمكّنوا من الإفلات من المحاكمة القضائية، وفي 1853 تمكّن نورثوب من نشر كتابه "12 عامًا من العبودية"، وأصبح محاضرًا عن العبودية ولكن تبقى تاريخ موته وملابساته مجهولة إلى الآن، والفيلم حصل على عدد من جوائز الأوسكار.
اسمي سولمون نورثوب
لديَّ منزل في بلدة ساراتوجا في نيويورك
أنا رجلٌ حُرٌّ ولستَ تملك حق اعتقالي
وأعدُّكَ إذا قمتَ بتحريري سأرضى عن هذا الخطأ
لستَ حرًا ولستَ من بلدة "ساراتوجا"
بل إنَّك عبدٌ زنجي هارب من جورجيا
يستيقظ فجأة فيجد نفسه مقيّدًا بسلاسل في قدميه ويديه، ولما أراد التمرُّد؛ كانت العصا هي الأداة الوحيدة- التي تكسّرت على جسده- لتأديبه لكي لا يتفوه بالحرية أو حتى يتنفسها، لا تتخلى عن الحياة حتى لا تتخلى عنك حتى وإنْ سلبوا حُريّتك رغمًا عنكَ، دافع وانهض وقاوم فربما أنتَ طوق النجاة للضعفاء الذين لا يملكون سوى الخنوع للاستمرار فيها رغمًا عنهم.
"أنتَ عبد" قالها ذلك الرجل الأبيض الذي غيَّر العصا بعصا جديدة بعدما تكسَّرت وقد أُنهك من ضربه لـ"نورثوب"، "أأنتَ عبدٌ"، يرد عازف الكمان "لا" فتزداد شدة الضرب، حتى يتمزق القميص ومن تحته جسده، قميص ممزق اختلط قماشه بدم الحُر، وكأنّ بقرارة نفسه يقول ما قاله المتنبي منذ زمن بعيد "والحُرّ ممتحنٌ بأولاد الزنى".
شعاع ضوء يتسرب من تلك النافذة بغرفة مساحتها متر في متر، وصوتٌ يجد طريقه للسماء بكل ما أوتيّ من قوةٍ خار منها الكثير، "ساعدوني، فليساعدني أحد"، فجاءه رجع الصدى "اصمت يا فتى لن يساعدك أحد سوى نفسك".
لم يكن "سولمون" يقرأ الودع لكي يعرف أنَّ الاثنين اللذين أتيا لكي يأخذوه ليُقدِّم معهما عروضًا في السيرك بوصفه عازفًا ماهرًا للكمان هم في الأساس تجار عبيد، حتى حينما التقى بباقي العبيد الذين سيُباعون في السوق كان يتشبث بأملٍ أنَّهما سيعودا ليحرراه، وأنَّهم يبحثون عنه.
.png)
خمسة أشخاص مكبلون بالسلاسل بينهم أم وطفل وطفلة في عربة يجرها حصانين ويقودها رجلان من (الأحرار) يُساقون إلى مصيرهم المجتوم، في السوق رجالًا ونساء يقفون عرايا للبيع في السوق لمن يشتري أكثر.
صوتٌ أكثر بائس يجلس بجانبه "إن أردت البقاء على قيد الحياة؛ افعل وتكلَّم بأقل ما تستطيع، ولا تخبر أحدًا عمّن تكون، ولا أنّ بمقدورك القراءة والكتابة، إذا لم تريد أن تكون زنجي في عداد الموتى".
شخصٌ آخر أكثر شراسة إلى حد ما، يحاول أن يشعل في أنفسهم روح المقاومة "أقترح أن نقاومهم" فيرد ذو الصوت البائس "ثلاثة لا يمكنهم أن يقفوا ضدهم جميعًا، البقية هُنا كلهم زنوج فهم وُلدوا وترعرعوا عبيدًا ليس لديهم القدرة على القتال".
ما بين الصوت البائس والصوت الأكثر شراسة يقف شيواتال إيجيوفور، بطل فيلم (12 عامًا من العبودية) والذي يقوم بدور عازف الكمان، حائرًا أي الطريقين يسلك حتى يأتيه اليقين من الصوت البائس: "النجاة ليست تتعلق بالموت المؤكد، بل بطريقة تجّنُب المشاكل بقدر الإمكان".
بعد هذه الكلمات يجد ضالته، فهو يريد الحياة لكي ينجو، لذلك لن يخبر أي أحد عن هويته الحقيقية، وسيرضخ لكل ما يفعله به هؤلاء من أجل أن ينال حريّته، فالأمل الذي عاش عليه آتٍ آتٍ لا محالة.
"أن تموت وأنتَ تدافع عن شيء تؤمن به ومبادئك خيرٌ لكَ من أن تموت ذليلًا"، هكذا كان حال ذلك الرجل ذو الصوت الأكثر شراسة حين أراد الدفاع عن الأم التي أتت معهم، حين حاول أحدهم الاعتداء عليها جنسيًا، فتلقى طعنة بسكين مات على إثرها وأُلقي في مياه البحر، "أفضل ما فعل، أفضل منّا" هكذا كان تعليقه على موته.
تتدافع الذكريات إلى رأسه كاندفاع الشلالات كل شيء يحطَّ عليه حتى أنفاسه، يتذكر تلك الأيام التي كان يذهب فيها مع عائلة لشراء الأشياء من السوق، اليوم هو الذي يُشترى من السوق؛ ولكن سوق العبيد.
بلات! بلات! بلات!
اسمي ليس بلات، اسمي .
قبل أن ينطق "نورثوب" اسمه الحقيقي، كانت يد الرجل الذي ينادي على الأسماء لكي يبيعها حطَّت على وجهه اسمك (بلات)، كالذي يقف في مزاد ويريد أن يحصل على السعر الأعلى كان يقف تاجر العبيد هكذا في غرفته يعرض العبيد الذين جلبهم من السوق للتو.
كم تريد مقابل (بلات) و(إليزا)؟ قالها (بيندكت كامبرباتش) والذي يقوم في الفيلم بدور (ويليام فورد) أول من سيشتري (بلات)، يرد تاجر العبيد: "ألف دولار مقابل بلات لأنه زنجي لديه موهبة رائعة و700 دولار مقابل إليزا، إنّه سعر عادل".
"الزنجي ركض الزنجي طار
الزنجي مزّق قميصه لجزئين
اركض اركض لكن حُراس العبيد سوف يمسكوك
اركض أيها الزنجي جيدًا فمن المستحسن أن تهرب"
للوهلة الأولى ترى (جون تيبتس) مدير أعمال النجارة لـ"فورد" شخصٌ أحمق،لا يرى سوى نفسه في مجتمع العبودية، منذ أن تفوّه بالكلمات الأولى "الآن أيها الزنوج المتعفنين"، سيصبح العدو الأكبر لـ"نورثوب" وسيصبح لسان حال الأخير يقول: "إذا بُليتَ بظالمٍ كُن ظالمًا".
يظل الجدال قائمًا بين الاثنين فمع أول لقاء بين ثلاثتهم "فورد" و"نورثوب" و"تيبتس" تظهر نوايا الأخير تجاه الثاني، حتى ينتصر الأول لعازف الكمان، بعد أن أدلى بدلوه في كيفية نقل الأخشاب عبر الممر المائي، "أأنتَ زنجي أم مهندس؟"، ليرد فورد: "دع الرجل يطرح فكرته"، ثم يكافئه بأن يمنح له آلة الكمان كي يعود للعزف مرةً أخرى، بل ويرسله لأحد الملوك كي يعزف في حفل يقيمه.
في ذلك المشهد تظهر الأم وهي تنتحب حتى يتملك منها النحيب؛ ولمَّا قال لها "نورثوب" توقّفي عن هذا النحيب، صرخت في وجهه حين قال لها إن "فورد" رجل محترم، لترد بل إنه نخاس، وأنتَ تخضع له حتى قدميه، إنَّك تتمتع بإحسانه لك، وأنا أحاول النجاة" ليصرخ بوجهها "لن أرضخ لليأس، فإذا تركتُ نفسي للأحزان سأغرق فيها، سأبقى محافظًا على جأشي حتى تتُاح لي فرصة الحرية".
"ظهري مليء بالندوب لإصراري على طلب حُريّتي"
من الصعب على رجلٍ ترّبى على إعطاء الأوامر دون جدال، أن يرى أحدًا يُجادله، هذا ما حدث بين "تيبتس" و"نورثوب"، فعلى الرغم من أنَّ الأخير نفَّذ الأوامر إلا أنَّ "التلكيك" أسلوب حياة حتى عند الإنجليز خاصة حين لا يطيقون شخصًا ما يرونه أقل منهم منزلةً.
"لو كان يوجد شيء خاطئ، فهو أوامرك" قالها عازف الكمان وبقرارة نفسه يعرف جيّدًا أنّه ربما يخسر "فورد" للأبد؛ ولكن يبقى الشيء الداخلي لعازف الكمان هي الكرامة التي تجعله يصبر على مرارة الذل كي ينال حريته، "أنتَ أيها النذل الأسود، أنتَ وغدٌ، اخلع عنك ملابسك" (تيبتس) "لن أفعل" (نورثوب).
ثمة انفجار حدث؛ نورثوب ينهار بالضرب على "تيبتس"، الأخير يستنجد ممن وصفه بالوحش ومع ذلك لا زال يهدد ويتوعد "لن ترى النور يوم آخر أيها الزنجي"، دخولٌ مفاجئ لمدير مزارع فورد متسائلًا "ماذا حدث" ليرد نورثوب: "يريد أن يجلدني لأنني استخدمت المسامير التي أعطيتني إياها"، ينهض ذو الوجه العكر ويبصق على عازف الكمان وهو يردد: "سأحظى بالقوة لأنتقم منك".
تحذير من مدير المزرعة ألا يغادر "نورثوب" حتى يستطيع حمايته، يذهب "تيبتس" ويحضر رجلين ثم يعلقان عازف الكمان على الحبل ويريدون شنقه، ليتدخل الأول ويأمرهما بأن ينصرفا وإلا سيقتلهما، على الرغم من ذلك لم يفكّ الحبل الذي عُلق فيه وتركه، وكأنَّه يريد أن يُعلمه ألا يتمرد.
يأتي "فورد" بعد أن أمر مدير المزرعة خادمه أن يذهب ليحضره، ويقطع الحبل، ويقنعه بأنَّ يذهب إلى "إدوين إبس" (المعروف بأنَّه قاهر العبيد)، لأن تيبتس لن يتركه ولم يعد قصر "فورد" مكانًا آمنًا لعازف الكمان، يحاول أن يستجدي شفقة سيده ليقنعه بأنَّه رجل حر، ولكن السيد فورد لم يستمع لقوله، معتبرًا تمرده صنع له سُمعة سيئة، ولم يرضى به سوى قاهر العبيد.
في كل مكانٍ يذهب إليه كان هناك ما يُشعره بتأنيب الضمير، رجلًا كان أو امرأة، في منزل قاهر العبيد وجد "باتسي" ذو النظرات الحادة أحيانًا، والمقهورة أحيانًا كثيرة، وهبت نفسها لسيدها كي ترحم نفسها من بطشه، ويعشقها سيدها وهو ما سبّب له متاعبًا كثيرة مع زوجته "الحُرة".
ربما كان يدور في خلد عازف الكمان أثناء طلب زوجة قاهر العبيد منه الذهاب إلى (بارثولوميوز) لإحضار بعض البضائع أن يهرب، إلا أنَّ الخوف من المصير المحتوم وأغلب الظن في ذلك هو الموت وحيدًا دون الحصول على حريته، هو الذي منعه.
"باتسي" هي المثال الحي الأبرز في هذا الفيلم على العبودية ضد النساء، وظهر ذلك جليًّا حين طلبت من "نورثوب" أن "يأخذ جسدها إلى المستنقع، ويغمس عنقها في الماء، إلى أن تخرج روحها" لأنها لم تنل أي راحة في هذه الحياة، إلا أنّ نورثوب كان أجبن من أن يفعل ذلك لأنه لم يقوى على فعله لنفسه.
.jpg)
الكتابة مقابل حُريّتك
آلة الكمان هي التي تعينه على مرارة الأيام، شيء يحبه ويحب أن يمارسه، ولكن تبقى تلك الأيام تتدافع إلى رأسه، ولتخفيف ذلك الألم إلى حدٍ ما وضع اسم زوجته وطفله وطفلته على الكمان "آن" "مارجريت" "ألونزو".
من ضمن البضائع التي كانت تطلبها زوجة "إبس" ورق أبيض للكتابة، ومن هنا جاءت فكرة أن يحتفظ عازف الكمان بورقة لنفسه يكتب فيها إلى أهله في الشمال (هو كان في الجنوب)، قبل أن تنكشف فعلته.
"ليس كل الذين تلقاهم طيبون يا فتى"، لم يكن يعرف نورثوب أن "آرمسبي" الذي وضعه قاهر العبيد بين (زنوجه) ليكون عينه سيفشي سِر عازف الكمان حين يعلم أنَّه يريد أن يُرسل خطابًا إلى عائلته في الشمال.
"أريد منكَ أن ترسل خطابًا لمكتب بريد (ماركسفيل)، مُعتِق هو كل ما أطلبه"، ليرد "آرمسبي": "سأفعل ذلك وسأرتضي بأي مال مُقدّم"، "الشيطان كان بين زنوجي" هكذا كان وصف قاهر العبيد لعازف الكمان.
تنكَّر "نورثوب" من كل ما قاله قاهر العبيد وأفشاه "آرمسبي"، وأكَّد أنّ الأخير يحاول إلى سيده بعد أن غضب عليه، ليسخر "إبس" من عازف الكمان قائلًا: "إني مندهش أنَّك لم تكن حُرًا ومن البيض (بلات)"، ليقوم بحرق الورقة التي كتب فيها بعد أن أُفشي سره.
لم يتعلّم "نورثوب" من خطأه مع "آرمسبي"، فربما أراد أن يكرره مرة أخرى مع "باس" الذي يقوم به براد بيت، إلا أنَّ الأخير كان رجلًا صالحًا، وهو المتسبب في نيل حريته في النهاية، باس كان معروفًا بموقفه من العبودية لذلك نال بعضًا من غضب "إبس".
"كل كلمة تبوح بها سر في قرار عميق" كلمة شرف نالها عازف الكمان من النجار، "تلك العبودية هي شرٌ لا يجب أن يقع لأحد" قالها نورثوب وهو يحكي قصته لـ"باس"، يرد الأخير "أؤمن بذلك"؛ "إن كنت تؤمن بذلك فعلًا أتوسل إليك أن تكتب لأصدقائي في الشمال تبلغهم بحالتي، وتستعطفهم أن يرسلوا أوراق حريّتي".
ظللتُ أرتحل في كل البلاد
طوال العشرين عامًا
حريتي هي كل شيء
حقيقة أن يمكنني الرحيل في أي وقتٍ
يمنحني لذة لا توصف
أتى صوته المفعم بالأمل ليُنقل بالتبعية إلى عازف الكمان الذي كان يصر على نيل حريته حتى إن خضع لأشخاص يرون أنَّهم محور الكون، "حياتي لا تعني أي شيء لأيمّا إمرئ؛ ولكن يبدو أن حياتك تعني الكثير للعديد من البشر"، قالها النجار، "سأكتب خطابك، وإن استطعت أن أتحصّل على حريتك سيكون أكثر من مجر لذة، سيصبح واجبي".
بعد هذا اللقاء جاءت الحرية؛ نجح الرجل في أن يرسل خطابه إلى أصدقاءه، جاء يستجوبه ما يشبه عمدة المقاطعة، ويسأل "بلات.. أين المدعو بلات؟، أتعرف ذلك الرجل؟"، كان الرجل هو باركر الذي ذهب إليه في بداية الفيلم لكي يشتري منه بضائع لزوجته.
يتدخّل ذلك الرجل المتعجرف "إبس" أيها المأمور ما الخطب، فيرد المأمور: أمارس عملي الرسمي، لتكون إجابة قاهر العبيد بمن يصر على عبودية عازف الكمان: "عبدي هو عملي"، يسرد "نورثوب" تفاصيل حياته ليتأكد من أنَّه رجل حر، فيأخذه معه ليعود إلى عائلته بعد 12 عامًا من العبودية.
على الرغم من أنَّ عازف الكمان قدّم خاطفيه إلى المحاكمة إلا أنَّهم تمكّنوا من الإفلات من المحاكمة القضائية، وفي 1853 تمكّن نورثوب من نشر كتابه "12 عامًا من العبودية"، وأصبح محاضرًا عن العبودية ولكن تبقى تاريخ موته وملابساته مجهولة إلى الآن، والفيلم حصل على عدد من جوائز الأوسكار.



